د. أيمن سمير
اعتاد العمل خلف الكواليس، احترف صناعة الصفقات الأمنية والسياسية لصالح بلاده، ملامحه صارمة، ابتسامته محسوبة، إشاراته حاسمة، عاشق للعلوم السياسية والعلاقات الدولية، أحلامه لنفسه ولبلاده كانت دائماً أكبر من وظيفته، كاتم بالفطرة للأسرار، وهو ما جعله محل ثقة كاملة من رئيسه وشعبه. يستطيع أن يحافظ على مسافة إيجابية مع الجميع، فعندما حدث انشقاق في حزبه كان هو الوحيد الذي يحتفظ بعلاقات طيبة وثقة واضحة من جميع الأطراف في الحزب وخارجه، كان ولا يزال موقفه يوم 15 يوليو 2016 محل جدل بين محبيه ومعارضيه، فالبعض يسند له الفضل الكامل في إفشال ما حدث في ذلك اليوم، والبعض الآخر يحمله تبعات الأخطاء التي قادت لما حدث في اليوم غير المسبوق، يملك أدواته التي تجعل منه «الرقم الجديد» في رسم صورة نمطية زاهية عن بلاده في السنوات القادمة، فهو يتحدث أكثر من لغة، وعمل في حلف الناتو، ويحتفظ بعلاقات واسعة مع دول وشعوب كثيرة، يتسم بالواقعية والبحث عن المصالح الحقيقية لبلاده، فعندما عمل في قسم جمع المعلومات السريعة في الناتو أيقن أن المدرستين البريطانية والأمريكية في الاستخبارات هما مدرستان على درجة غير مسبوقة من الاحترافية، لهذا وضع دراسة كاملة بالأهداف والأدوات التي تجعل مخابرات بلاده لا تقل شأناً عن المخابرات الأمريكية والبريطانية.
أتحدث عن هاكان فيدان، الذي اختاره الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ليكون وجه الدبلوماسية التركية ووزيراً للخارجية، وهو ما يغير مسار هاكان فيدان تماماً، فعملياً ظل هاكان خلف الكواليس منذ دخوله الجيش أول مرة، والاستقاله منه، ثم عمله في وكالة «تيكا»، قبل أن يدخل المخابرات، ويصبح رئيسها، قبل أن يتولى أخيراً منصب وزير الخارجية. طوال كل هذه الفترات عمل هاكان كصانع أحداث خلف الكواليس، لكن أحلامه دائماً كانت أمامه، شعر في البداية بأن وظيفته في الجيش كضابط صف لا تلبي طموحه الشخصي والمهني خاصة بعد أن غادر البلاد للعمل 3 سنوات في فرع المعلومات السريعة في قاعدة راينلاند البريطانية لدى حلف دول شمال الأطلسي «الناتو»، وهناك اطلع هاكان على أسلوب عمل المخابرات البريطانية والأمريكية، وتأكد له مدى احترافية وكفاءة هذه الأجهزة، وتمنى أن ينقل تلك التجربة إلى بلاده، وبعد أن حصل على شهادة جامعية من فرع جامعة ميريلاند المرموقة، قام بوضع أفكاره حول تطوير العمل المعلوماتي والاستخباراتي في رسالة علمية للماجستير، وعزز هذا في دراسة أخرى للدكتوراه من تركيا ربط فيها بين دور المخابرات والسياسة الخارجية، كما قام بعمل مقارنة بين الواقع الذي يراه، والأحلام والطموحات الكبيرة التي يتمنى أن يراها في المستقبل.
ظل هاكان شغوفاً بالعلم والتطوير، وكان حلمه أن تتبوأ تركيا مكانها ومكانتها في الصفوف الأمامية للعالم، فاستقال من الجيش، وعمل لفترة مع وكالة الطاقة النووية، ومعهد نزع السلاح التابع للأمم المتحدة، لكن فوز حزب العدالة والتنمية، وتعرفه على الرئيس رجب طيب أردوغان عام 2002 أعاده مره أخرى للعمل في الدولة التركية، لكن هذه المرة مع دور قريب من طموحاته التي تتعلق بالعلاقات الخارجية وتعزيز مكانة تركيا في أقاليم جديدة مثل الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا الوسطى، واختار له الرئيس أردوغان منصب مدير وكالة تيكا، وهي إحدى الأذرع الخارجية التركية منذ عام 1992، التي تقدم مساعدات إنسانية وتنموية الهدف منها تعزيز صورة تركيا في الخارج خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في 25 ديسمبر 1991، وساعدت شخصية هاكان الحالم بدور تركي كبير، وشغفه بالعلاقات الخارجية في توسيع دور وكالة تيكا التي نجحت في الوصول إلى مناطق جديدة في عهده منها الشرق الأوسط والمنطقة العربية وكل نواحي إفريقيا، بالإضافة الى المنطقة الأهم لتركيا، وهي منطقة آسيا الوسطى التي تضم ما يسمى بدول العالم التركي وهي 4 دول شاسعة ناطقة بالتركية، هي أذربيجان وكازاخستان، وأوزبكستان وقيرغيزيا
عام الأحلام
كان 2010 عام الأحلام بالنسبة لهاكان فيدان، فبعد أن نجح في وكالة تيكا نجاحاً يساوي نجاح الوكالة منذ تأسيسها، اختاره الرئيس أردوغان للمكان الكبير الذي حلم به هاكان، وهو رئاسة المخابرات التركية. في هذا الوقت بات الباب مفتوحاً لتحقيق كل كلمة وسطر كتبه هاكان فيدان في رسالتيه للماجستير والدكتوراه عن تطوير المخابرات التركية، وبالفعل نجح فيدان نجاحاً لم يسبقه إليه أحد في المخابرات، يكفي أنه علم بانقلاب 15 يوليو 2016، ونجح في إفشاله بأقل الخسائر ومن اليوم الأول، كما أن تركيا ذهبت بعيداً في كل شيء في عهد رئاسته للمخابرات خاصة مع دول «العالم التركي»، وخلال الحرب الروسية الأوكرانية نجح هاكان في صياغة معادلة تكاد تكون مستحيلة على أي شخص آخر، هي الحفاظ على علاقة متينة بين روسيا وتركيا التي لها ثاني أكبر جيش في حلف الناتو منذ عام 1952، وتكشف السنوات الثلاث عشرة الماضية من رئاسة فيدان للمخابرات التركية عن مهارته السياسية وشغفه في العلاقات الدولية عندما نجح في نسج علاقات قوية مع جميع الدول حتى تلك التي كان لها خلافات مع تركيا، فساهمت اتصالاته وزياراته في استعادة أنقرة علاقاتها مع تلك الدول.
الوطن الأزرق
يؤمن فيدان بأن تركيا في مرحلة تاريخية لتحقيق أحلامها وطموحاتها، فهو يرى دوراً تركياً من حدود الصين شرقاً حتى دول البلقان غرباً، كما أنه يرى في المناطق البعيدة مثل إفريقيا مكاناً ملائماً وساحة واسعة لتوسيع العلاقات التركية الخارجية، ورغم أنه لم يصرح بهذا علانية، فإن الكثيرين في الغرب يقولون إنه يؤمن بالوطن الأزرق، أي بنفوذ تركي واسع قائم على المصالح المتبادلة مع دول البحر الأسود وجنوب شرق أوروبا وآسيا الوسطى.
المؤكد أن إيمان وزير الخارجية التركي الجديد بالدبلوماسية، واحترافه القنوات الخلفية سوف يجعلان منه وزيراً استثنائياً للخارجية التركية عبر مواصفات مختلفة ونوعية، فهو بالإضافة إلى شغفه بالعلاقات والاتصالات مع الدول يستطيع أن يحلل المعلومات بحكم خبراته المتراكمة في مجال المخابرات، كما أن نجاحاته السابقة في حلف الأطلسي، وقيادته الفذة لوكالة تيكا، وترؤسه لنحو 13 عاماً المخابرات التركية سوف تجعل طريق النجاح ممهداً أمامه، فقد سبق له زيارة مختلف الدول بمفرده أو مع الرئيس أردوغان.