د. أيمن سمير
حازم في ملامحه وأقواله، نموذج في دقة الكلام واختيار المفردات، عمله صحفياً لمدة عامين، ساعده في معرفة كيف يبني الجسور مع الآخرين، مدافع شرس عن حماية البيئة، ومؤمن بأوروبا الموحدة، لا تساوره أي شكوك بأن أوروبا اليوم في امتحان صعب، لكنها سوف تنجح فيه، وتخرج منه أكثر قوة، وأشد ثراءً وازدهاراً، علمته الطبيعة شديدة البرودة في بلاده، أن يحسب ألف حساب لكل شيء قبل أن يُقدم عليه.
ينتمي إلى عائلة سياسية بامتياز؛ إذ إن والده تورفالد ستولتنبرغ تولى من قبل منصب وزير الدفاع والخارجية؛ لذلك دخل معترك السياسة وهو في سن المراهقة، حاز مناصب وزارية كثيرة حتى أصبح رئيساً للوزراء أكثر من مرة، بلغ مجموع سنواتها 9 سنوات، في عام 2014 جرى انتخابه أميناً عاماً لحلف «الناتو»، وسوف يستمر في المنصب حتى أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، وهو ما يجعله أكثر أمين عام بقي في المنصب في تاريخ الحلف.
إنه ينس ستولتنبرغ الأمين العام الثامن لحلف «الناتو» الذي تأسس في 4 إبريل/ نيسان 1949، ويقوم الناتو على مبدأ وروح المادة «5» من ميثاق الأطلنطي التي تنادي بالأمن الجماعي المتبادل؛ أي أن جميع الدول ملتزمة بالدفاع عن أية دولة من الدول الأعضاء عندما تتعرض لأي هجوم خارجي.
قادت الأقدار أن يكون ينس ستولتنبرغ الأمين العام للحلف في ذروة الصراع الروسي الغربي، والحرب الروسية الأوكرانية، وهي أضخم حرب برية وجوية على الأراضي الأوربية منذ الحرب العالمية الثانية، حنكته السياسية، جعلته يرى في هذه الحرب على الرغم من بشاعتها ومآسيها على البشر والحجر، أنها تشكل «قبلة الحياة» لحلف الناتو الذي وصفه في عام 2017 الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بأنه «عفا عليه الزمن»، كما وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حلف الناتو في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 بأنه «مات إكلينيكياً»، ويرجع الفضل لينس ستولتنبرغ في تغيير رأي ماكرون وترامب في الحلف بعد هذه التصريحات، لأن ينس ستولتنبرغ يؤمن مثل كل مواطنيه النرويجيين بأن أوربا وأمريكا الشمالية تحتاج إلى «الناتو»، باعتباره «الضمانة الوحيدة» لكل دول ضفتي الأطلسي، فهو تعلم منذ أن كان مراهقاً «حكمة النرويج» التي لم تدخل الاتحاد الأوربي حتى الآن، إلا أنها كانت من المؤسسين لحلف الناتو في 4 إبريل/ نيسان 1949.
نجاحات ينس ستولتنبرغ في حلف الناتو لا يمكن لأحد أن يحصيها، لكن على سبيل المثال فقد كان ستولتنبرغ وراء قرار الحلف عام 2014 بتخصيص نسبة 2% من الناتج القومي لدول الحلف لمصلحة الشؤون الدفاعية، على أن تفي دول الناتو بهذه النسبة بحلول عام 2022، وعلى الرغم من أنه حتى الآن لم يتم الوفاء إلا من 12 دولة فقط بهذه النسبة فإن الكثير من الدول باتت قريبة من ذلك؛ بل إن دولاً كدول الجناح الشرقي من حلف الناتو؛ مثل بولندا ودول بحر البلطيق الثلاث، ليتوانيا ولاتفيا وأستونيا مع بلغاريا ورومانيا تجاوزوا تلك النسبة بكثير، وبعد الحرب الروسية الأوكرانية، أشادت دول مثل ألمانيا وهولندا «بمقاربة ينس ستولتنبرغ» حول ضرورة زيادة الإنفاق الدفاعي لدول الناتو، ولهذا خصصت ألمانيا صندوقاً ب100 مليار يورو، لتحديث الجيش الألماني، كما أن هولندا وبلجيكا وأسبانيا وإيطاليا وغيرها زادت من نفقات ميزانياتها العسكرية.
شهادة نبوغ جديدة
شكلت الحرب الروسية الأوكرانية «شهادة نبوغ» جديدة لينس ستولتنبرغ، فقد كانت رؤيته، منذ البداية، تقوم على إبقاء الحرب داخل الحدود والأراضي الأوكرانية، وعدم التدخل المباشر في الحرب سواء بالجنود أو بالمعدات العسكرية، وكان يقول في كل اجتماعاته سواء في الناتو أو في اللقاءات الثنائية، إن الناتو ليس طرفاً في الحرب، وأن رسالة الحلف «دفاعية» بشكل كامل، وحتى لو اختلف الكثيرون معه في حقيقة هذه الرسالة، إلا أن هذه الرؤية نجحت، على الأقل حتى الآن، في عدم توسع الحرب إلى ما بعد الحدود الأوكرانية.
خليفة ينس ستولتنبرغ
هذه النجاحات التي حققها ستولتنبرغ هي التي دفعت الحلف لتمديد ولايته، لأن الناتو كان يريد أن يحافظ على الزخم الذي خلقه ستولتنبرغ، وقدرته الفائقة على «صناعة التوافق» بين دول الحلف، ليس فقط في أوربا؛ بل في آسيا أيضاً، فالصين تعتقد أن زيارة ستولتنبرغ في الشهر الماضي لكل من اليابان وكوريا الجنوبية؛ الهدف منه تأسيس «ناتو آسيوي» في شرق وجنوب شرق آسيا،
وعلى الرغم من كل هذه النجاحات، فإن ستولتنبرغ رفض الاستمرار في عمله أميناً للحلف إلى ما بعد أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، إلا أن هناك خلافات كثيرة حول من سيخلفه في المنصب، وهناك اعتراضات كثيرة على تولي رئيسة الوزراء الدنماركية مته فريدريكسن منصب الأمين العام للناتو، لأن بولندا إلى جانب عدد من دول «مجموعة بوخاريست» في الجناح الشرقي للحلف، ترفض هذا الترشيح، لأسباب موضوعية، وليست شخصية؛ حيث ترى الدول المعارضة لتولي فريدريكسن، أن الدانمارك حتى الآن لم تفِ بتخصيص 2% من ناتجها القومي للشؤون الدفاعية، كما أن وارسو لا تريد منح المنصب الذي ستتم الموافقة عليه في يوليو/ تموز على هامش قمة الحلف القادمة في فيلينوس عاصمة ليتوانيا، لأسباب أخرى؛ أبرزها أن اختيار أمين عام من دول الجناح الشرقي، ومن دولة كانت يوماً ما عضواً في حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق، سيكون رسالة قوية لدعم شعوب هذه الدول، لكن في المقابل هناك من يرى في وجهة النظر البولندية «استفزازاً لموسكو».
على الرغم من أن ينس ستولتنبرغ أكد أنه لن يبقى في منصبه بعد أكتوبر القادم، فإن استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، ونجاحه في قيادة الحلف لأكثر من 9 سنوات، والخلاف حول من سيخلفه، كل هذه الأسباب قد تقود إلى التمديد مرة أخرى لستولتنبرغ حتى يحضر ذكرى مرور 75 عاماً على تأسيس الحلف، عندما تنعقد قمة الناتو بعد المقبلة في واشنطن عام 2024