كتب – المحرر السياسي:
لم تعد الحرب في أوكرانيا مجرد «عملية عسكرية خاصة» محصورة بين الروس والأوكرانيين، بل صارت منذ ما بعد قمة «الناتو» التي اختتمت أعمالها الأربعاء الماضي في عاصمة لاتفيا، فيلنيوس، مواجهة معلنة ومفتوحة بين حلف الناتو وكل من يقف في وجه خطط توسعته التي انتقلت من السر إلى العلن، ولم تعد تحتمل التأجيل في ظل الإحباط الذي يعانيه التحالف الغربي، نتيجة فشل هجوم الربيع.
لم تفلح تهديدات واشنطن وحلفاؤها، وما رافقها من دعم عسكري ولوجستي وتصعيد في نوعية الأسلحة التي تزج في جبهات المعارك حتى اليوم، في تغيير يذكر على الأرض، في ظل صمود القوات الروسية واستعداداتها الدفاعية في مواجهة الهجوم الذي أحيط بهالة من الآمال جعلت فشله مدوياً.
ولعل هذا ما اضطر الحلفاء إلى الاستمرار في التهديد والتصعيد الذي تمثل في قرارات كارثية مثل تزويد أوكرانيا بالقنابل العنقودية المحظورة دولياً، وإعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تزويد كييف بصواريخ بعيدة المدى وتشكيل تحالف من إحدى عشرة دولة لتدريب الطيارين الأوكرانيين على طائرات«إف 16»الأمريكية.
تحديات عملية
وكان واضحاً خلال جلسات القمة، وما رافقها من لقاءات ثنائية، أن الحلف يواجه تحديات عملية في المواجهة مع الخصوم المفترضين، وعلى رأسهم روسيا والصين، تتطلب التحرك السريع في إطار وثيقة المفهوم الاستراتيجي الجديدة التي أقرت مؤخراً. وسبق القمة حملة تعبئة تشير إلى أن الناتو سوف يشهد مرحلة جديدة من مسيرته، لعل من أهم ملامحها سحب تركيا اعتراضها على عضوية السويد مقابل وعود بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ودعوة الرئيس الكوري الجنوبي إلى حضور فعاليات القمة.
وكان لافتاً الجهد الأمريكي المكثف، لإعادة تفعيل دور الحلف لمواكبة التغيرات الدولية المتلاحقة، حيث لم تعد المواجهة محصورة في أوروبا، وإنما هناك مناطق ذات أهمية استراتيجية للناتو مثل الشرق الوسط، وشمال إفريقيا، والمحيطين الهندي والهادئ.
ويشير نص وثيقة المفهوم الاستراتيجي بوضوح إلى التحدي الذي تمثله الصين وروسيا على مصالح وأمن وقيم دول حلف الأطلسي، وذلك في المجال الاقتصادي، والعسكري، والسياسي، في كثيرٍ من الدول والمناطق الحيوية بغرض السيطرة على القطاعات التكنولوجية والصناعية والبنية التحتية الحيوية، والمواد الاستراتيجية وسلاسل التوريد.
من هنا شكلت القمة محطة مهمة في مسار النظام الدولي، حيث ستتم فيه إعادة صياغة منظومة الاصطفاف والتحالفات، بحيث تضمن استمرارية الهيمنة الغربية. وأسفرت الخلافات العميقة حول ضم أوكرانيا للحلف واتهام الرئيس فلوديمير زيلينسكي قرارات القمة المتعلقة بعضوية بلاده فيه «بالعبثية»، ما عكس خيبة أمله الشديدة في الحصول على الحماية الأمنية التي كان يتطلع إليها في ظل العضوية، عن الاتفاق على تشكيل مجلس مشترك هو مجلس الناتو-أوكرانيا لمنح كييف الفرصة للانخراط مع دول الحلف على قدم المساواة، بدلاً من كونها مجرد دولة تتطلع للانضمام للحلف.
ويهدف المجلس الذي عقد أول اجتماعاته في فيلنيوس بحضور زيلينسكي إلى السماح لأوكرانيا بطرح القضايا، وتعميق العلاقات مع الناتو في ضوء الحرب مع روسيا.
من جانبها تماهت مجموعة السبع، التي تضم فرنسا وإيطاليا واليابان وكندا والولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، مع «الحلف»، واتخذت قرارات هدفت إلى تقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا، على المدى البعيد.
وأعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، أن قادة الحلف قدموا خلال قمّتهم في فيلنيوس، خطة دفاعية شاملة لمواجهة روسيا، مبيناً أن زعماء الحلف لم يحددوا جدولاً زمنياً لانضمام أوكرانيا. وأكد ستولتنبرغ للصحفيين أن قادة الحلف اتفقوا على دعوة أوكرانيا إلى الانضمام إلى التكتل حين «تتوافر الشروط». لكن الرئيس زيلينسكي غرد على تويتر قائلاً: «يبدو أنّه ليست هناك أي نية لمنح أوكرانيا دعوة إلى حلف شمال الأطلسي ولا لجعلها عضواً فيه».
مصالح الصين
ومما يعزز مخاوف العالم حول تصاعد التوترات في المستقبل، أن الصين كانت محور نقاش اليوم الثاني لقادة الناتو مع نظرائهم من أستراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية. وجاء في بيان القمة أن سياسة الصين تشكل تحدياً لمصالح وأمن وقيم الحلف، لكنه يظل منفتحاً للتفاعل معها.
ورداً على ذلك أعلنت الصين أنها مصممة على حماية سيادتها وأمنها، وستقاوم بحزم أي إجراءات يقوم بها الناتو، تسبب أضراراً للحقوق والمصالح الشرعية للصين، وأنها ستحمي مصالحها بالقوة.
وجاء في بيان صادر عن البعثة الدبلوماسية الصينية في الاتحاد الأوروبي، على موقعها الإلكتروني: «لا شك في أن حلف الناتو، كمنتج من منتجات الحرب الباردة، مستمر بأفعاله الشريرة».
وشدد البيان على أنه «في ظل استمرار تدهور الوضع في مجال الأمن الدولي، يستمر الناتو ككتلة عسكرية إقليمية في اتهام دول أخرى عموماً بدلاً من التفكير في التزاماته الخاصة، ويتدخل بشكل أعمى في شؤون الدول الأخرى، ويؤكد رغبته في التوسع والهيمنة بوضوح».
واعتبرت روسيا من جانبها بيان القمة تهديداً مباشراً. وقال نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف رداً على ما جاء في البيان من أن قادة الحلف قدموا خلال قمّتهم في فيلنيوس خطة دفاعية شاملة لمواجهة موسكو: «الحرب العالمية الثالثة تقترب».
وقد عزز تطرق الحلف لاستخدام الأسلحة النووية المخاوف بشأن خروج الأمور عن السيطرة وسط التهديدات المتبادلة اليومية. فقد أصدرت القمة في يومها الثاني الأربعاء، بياناً حذرت فيه من أن أي استخدام للسلاح النووي ضد الحلف يعني تغيير طبيعة النزاع.
وقال البيان إن قوات حلف الناتو النووية الاستراتيجية تعد أكبر ضمان لأمن الحلفاء، لافتاً إلى أن الناتو يمتلك قدرات متفوقة على أي خصم وقادر على تحميله تبعات فعله. ويرى المحللون أن المستهدف من البيان هي روسيا، حيث كان الحلف قد طالبها بسحب قواتها فوراً ودون شروط مسبقة من أراضي أوكرانيا.
وإمعاناً في التهديد والتصعيد، اتهم البيان دولاً منها بيلاروسيا وإيران ب «التواطؤ» مع روسيا وطالبهما بالعودة إلى الامتثال للقانون الدولي. وإذا كان لصواريخ كوريا الشمالية التي تطلقها في مواقيت مدروسة، تفاجئ بها دول العالم، أي مدلولات حول مدى التوتر الذي بلغته الأزمة بين روسيا والصين من جهة، وحلفاء الناتو من الجهة الأخرى، فيمكن أن يحمل آخر صاروخ أطلق صباح الأربعاء، رسائل تعزز المخاوف من «الجنون» الذي يهدد عالم اليوم.
فهل بات مصير العالم رهناً بما يمليه حلف الناتو؟.. أم أن الخروج من عنق الزجاجة الحالي غير ممكن إلا بالحسم العسكري؟