د. أيمن سمير
التصويت في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يوم الأربعاء 12 يوليو الجاري على قانون «مكافحة الكراهية الدينية التي تشكل تحريضاً على التمييز أو العداء أو العنف»، شكل صدمة كبيرة وعميقة لكل الذين تصوروا أن العالم سوف يكون «كتلة واحدة» عندما يتم إدانة سلوك ينطوي على الكراهية وازدراء معتقدات نحو ملياري مسلم في العالم، خاصة أن القانون الذي كان أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة كان يدين سلوك حرق مواطن سويدي للمصحف الشريف أمام المسجد الكبير في العاصمة السويدية استوكهولم، وهي الحادثة التي رفضها كل المؤمنين بضرورة احترام معتقدات وأديان الجميع دون أي استثناء، وهي حادثة أيضاً لا يمكن تبريرها تحت أي ذريعة أو «حقوق مزعومة».
كانت الصدمة والدهشة والاستغراب أكثر للشعوب والدول التي تؤمن بالتسامح وقبول الآخر، لأنها كانت وما تزال تؤمن بأن العالم يجب أن يكون «صفاً واحداً» في مواجهة الأحداث الخطيرة وغير المقبولة مثل حرق القرآن الكريم أو إهانة الرموز الدينية، فالطبيعي في مثل تلك الحوادث المؤسفة «أن تكون الرسالة واضحة وهي» إدانة كاملة وبلا أي شروط أو قيود «لهذه السلوكيات الشائنة حتى لا تتكرر مرة أخرى، ويمكن أن يقود تكرارها إلى مخاطر كبيرة ليس فقط على«السلم والأمن الأهلي» لدولة أو شعب، بل يمثل مخاطر هائلة على الأمن والسلم الدوليين، كما هو الحال في واقعة حرق المتطرف السويدي لنسخة من القرآن الكريم، والتي كان يمكن أن تقود إلى ردود أفعال لا يحمد عقباها.
الحقوق الناقصة
لكن الغرابة كانت أكبر عند النظر في لوحة التصويت في المجلس الدولي لحقوق الإنسان، حيث صوّت لصالح قانون « مكافحة الكراهية الدينية» 28 دولة فقط من إجمالي 48 دولة يمثلون مختلف أقاليم وقارات العالم، بعد أن اعترضت 12 دولة على القانون، وغابت 7 دول عن التصويت على مشروع القرار الذي تقدمت به باكستان نيابة عن دول منظمة التعاون الإسلامي، وسبب هذه الصدمة أن الدول التي اعترضت على القرار تدّعي أنها ضمن «تحالف القيم» بينما في الواقع؛ هذه الدول هي التي أهانت وقللت من شأن«القيم الحقيقية»، فأولى تلك القيم هي احترام معتقدات ومشاعر الآخرين، فقد أظهر التصويت أن دول فاعلة في العالم تدّعي«ريادتها» في احترام المعتقدات والقيم الدينية والإنسانية، لكنها في النهاية صوّتت ضد قرار يقوم جوهره على منع تكرار واقعة حرق نسخة من القرآن الكريم بعد أن هدد هذا المواطن السويدي وغيره بتكرار هذه الحادثة.
وفي تقدير الكثيرين؛ فإن هذا التصويت المخجل من جانب 12 دولة ضد قانون«مكافحة الكراهية الدينية» يعطي معنى واحداً للإنسان البسيط، وهو أنّ هذه الدول تدّعي أشياء لا تكون حقيقية عند اختبارها على أرض الواقع، وهو ما دفع الكثيرين لطرح أسئلة جوهرية وهي، أليس احترام الإسلام والقرآن الكريم من حقوق الإنسان المسلم ؟، وهل حقوق الإنسان هي تلك الحقوق فقط التي تحددها دولة أو مجموعة دول ؟ وسبب هذه الأسئلة أن الدول الاثنتي عشرة التي صوتت ضد القرار تنتمي إلى كتلة سياسية وجغرافية واحدة، وهي الولايات المتحدة، ومعها 10 دول أوربية وهي بريطانيا وألمانيا وفرنسا وبلجيكا والجبل الأسود والتشيك ورومانيا وليتوانيا ولوكسمبورج وفنلندا، بينما الدولة الوحيدة التي صوتت ضد القرار من خارج تلك الكتلة هي كوستاريكا، بينما غابت دولة إفريقية واحدة عن التصويت هي بنين، ودولة واحدة عن آسيا هي نيبال، و4 دول من أمريكا الجنوبية وهم، شيلي وهندوراس، والمكسيك، وباراغواي، كما غابت جورجيا أيضاً عن التصويت.
نص متوازن وإيجابي
الناظر لنص ومعنى القرار الذي اعترضت عليه الولايات المتحدة والدول الأوربية، يكتشف أنه قرار إيجابي ومتوازن، كما أن كلمات ممثلي الدول التي صوتت ضد القرار كانت أشد قسوة من التصويت ذاته، لأن القرار في النهاية جرى تمريره، لكن مواقف الدول التي عبر عنها مندوبوها خلال مناقشات مشروع القرار في الجلسة 53 ، من اجتماعات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة كانت «مخيبة فعلاً للآمال»، وكشفت انقسام المجلس حول قضية حيوية تشكل جوهر السلام والاستقرار العالمي، وجاء نص القرار كالتالي«المجلس يرفض بشدة أي دعوة أو إظهار للكراهية الدينية، بما في ذلك أعمال التدنيس العلنية والمتعمدة الأخيرة للقرآن.. والحاجة إلى محاسبة المسؤولين بطريقة تتفق مع التزامات الدول بالقانون الدولي لحقوق الإنسان، ويدعو الدول إلى اعتماد قوانين وسياسات وطنية وأطر إنفاذ القانون التي تعالج وتمنع وتقاضي الأفعال والدعوات إلى الكراهية الدينية التي تشكل تحريضاً على التمييز أو العداء أو العنف، واتخاذ خطوات فورية لضمان المساءلة».
ويحث المجلس «مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان وجميع الإجراءات الخاصة ذات الصلة التابعة لمجلس حقوق الإنسان، والهيئات المنشأة بموجب معاهدات في إطار ولايات كل منها، على التحدث علناً ضد الدعوة إلى الكراهية الدينية وصياغة توصيات بشأن معالجة هذه الظاهرة».
معانٍ مشتركة
من يتأمل نص القرار يرى فيه بوضوح، معاني مشتركة في كل الأديان والقيم الإنسانية النبيلة، وهو«نص متوازن» ولا يوجّه أصابع الاتهام إلى أي دولة، وكان الطبيعي أن تصوّت كل الدول مع القرار، وليس ادّعاء البعض أن القرار يقوّض«حقوق الإنسان»، هل من حقوق الإنسان حرق الكتب المقدسة للآخرين؟ وهل حق الفرد في حرق صفحات من الكتب السماوية أعلى وأسمى من حقوق الأفراد الآخرين في تمسكهم واحترامهم بأديانهم وعقائدهم؟
فالقرار ببساطة يعتبر أن انتهاك المقدسات لدى الدول والشعوب لا يُعتبر بمثابة «حرية تعبير»، ويؤدي إلى شق صف الوحدة الإنسانية، ويتسبب في كراهية كبيرة، وهو ما دلت عليه ردود الفعل الكبيرة على حرق المصحف الذي يشكل رمزية كبيرة للمسلمين
فهم خاطئ
الاعتراض على نص القرار يكشف «الفهم الخاطئ» لدى البعض حول معنى وأهداف القرار بعد أن قالت ميشيل تايلور السفيرة الأمريكية لدى جنيف:«نأسف لاضطرارنا للتصويت ضد هذا النص غير المتوازن، لكنه يتعارض مع مواقف اتخذناها منذ فترة طويلة بشأن حرية التعبير»، وهو موقف كرره جيروم بونافون السفير الفرنسي لدى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي قال«حقوق الإنسان تحمي الأشخاص وليس الأديان أو المذاهب أو المعتقدات أو رموزها»، لكن مارك بيكستين دو بويتسويرف سفير بلجيكا والمتحدث باسم الدول الأوربية في المجلس كان أكثر دبلوماسية عندما قال«إن مسألة تحديد الخط الفاصل بين حرية التعبير والتحريض على الكراهية معقدة».
هذه التصريحات تعني بوضوح أنها تتجاهل«التداعيات الخطيرة لإهانة الأديان والمذاهب والرموز الدينية»، وكل هذه المواقف الأوروبية مردود عليها بأن معتقدات ومذاهب الدول والشعوب أيضاً يجب حمايتها والحفاظ عليها وعدم تركها لادّعاءات تضر بالسلام والاستقرار العالمي.
انقسام واستقطاب
الواضح للجميع أن موقف الدول المعارضة لقرار«مكافحة الكراهية الدينية»، ومن انضم إليهم من الدول التي امتنعت عن التصويت يعني انقساماً واضحاً في المجلس، حيث صوّت مع القرار 28 دولة بينما عارضه وامتنع عن التصويت عليه 20 دولة، هذا الانقسام حذر منه الدكتور أنور قرقاش المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، عندما عبر الدكتور قرقاش عن قلقة من انقسام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عندما قال «تم اعتماد المشروع المقدم من منظمة التعاون الإسلامي في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بشأن الكراهية الدينية في أعقاب حرق نسخة من المصحف الشريف في السويد، المقلق هو الانقسام الخطير الذي يكشف عنه هذا التصويت، ملف حقوق الإنسان لا يمكن أن يسيطر عليه طرف ويفرض علينا قيمه».
هذا التخوف والقلق من الانقسام عبرت عنه شخصيات دولية رفيعة أخرى مثل مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك الذي قال خلال مناقشة القرار«إن الإساءة لمظاهر معتقداتنا العميقة وتدميرها، يمكن أن يفضي إلى الاستقطاب في المجتمعات ويسبب توترات بالغة، وإن الخطاب والأعمال الاستفزازية ضد المسلمين وكراهية الإسلام هي مظاهر تجسد عدم الاحترام القاطع للأديان».
رسالة للمتشددين
هذا الانقسام في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يرسل «رسالة خاطئة» للمتشددين، لأنهم سوف يستغلون هذه المواقف من جانب الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين الذين صوتوا ضد هذا القرار لمزيد من التعبئة والحشد للخطاب المتطرف والعدائي، مما يضعف من حجج المعتدلين والوسطيين في العالم، ويترك المجتمعات نهباً للتطرف بنوعيه: النوع الأول المتشدد لما يسمى «بحقوق الإنسان»، والنوع الثاني الذي سوف يستغل هذه الرسالة لتأكيد أن التشدد هو المنهج الوحيد للرد على تطرف وتشدد الآخرين، وهو ما يضر في النهاية بالمساحات المشتركة بين الدول والشعوب، ويساهم في إشاعة خطاب الكراهية والاستقطاب الحاد.
الثابت أن القرار أصبح نافذاً، لكن تداعيات التصويت عليه سوف يستمر صداها لحين إثبات العكس، وبات الآن بالإمكان معاقبة أي دولة تسمح بانتهاك حرمة القرآن الكريم والكتب السماوية المقدسة، بل وبات على جميع دول العالم بما فيها الدول التي صوتت ضد القرار أن تعدل قوانينها وتشريعاتها للتوافق مع تجريم إهانة المقدسات والرموز الدينية.