د. أيمن سمير
عنوان للدبلوماسية المصرية والعربية خلال ما يقارب نصف قرن، إيمانه كامل بالعمل العربي المشترك، نموذج للدبلوماسي الحالم بمستقبل بلاده وأمته العربية، إدراكه مرهف لكل التحديات التي مرت بالمنطقة، تقديرات موقفه غاية في الدقة ومعيار في المهنية والاحترافية، نظرته للأحداث بانورامية، فهو يحب أن يكون مثل أبيه الطيار، حيث ينظر للأحداث من جميع الجوانب ومن مختلف الزوايا. شغل منصب وزير الخارجية المصري في وقت حساس للغاية عام 2004، وغادر هذا المنصب عام 2011وهو يتألم على ما آلت إليه بلاد العرب نتيجة لأحداث ما يسمى «بالربيع العربي»، كان يقرأ السنوات القادمة بقلق شديد، ظل هاجسه الأول هو الحفاظ على «الدولة الوطنية العربية»، وما يمكن أن تعانيه بسبب هذا الربيع المزعوم، مرت الأيام والأحداث والسنوات وتأكد للجميع رؤيته وما كان يفكر فيه ويتحدث عنه، وهو أن «خرائط الأمة العربية» كانت هي الهدف وليس هذا الشخص أو ذاك، تأكد للجميع أن الأمن القومي العربي كان هو الهدف، وأن مخططات برنارد لويس ويبنون ورالف بيترز لتحويل الأمة العربية لدويلات متطاحنه كانت هي الغاية والمآل، أدرك أبو الغيط منذ وقت مبكر أن ما يجري في المنطقة يحتاج الى عزيمة جماعية عربية للوقوف أمام هذا المخطط القادم من دول وحكومات وجماعات لا تريد الخير لنحو 400 مليون عربي، نداءاته وأحاديثه وشهاداته لم تتوقف عن النداء من أجل الوطن والأمة، كانت كلها صرخات تستدعي الوحدة والتكاتف والتعاضد في مواجهة ما يحاك للأمة العربية.
عندما تقرأ كتابه الرائع «شهادتي» يتأكد لك أنك أمام شخصية وطنية من طراز خاص، حمل على عاتقه خدمة بلاده وأمته في كل مكان ذهب إليه، آمن بكل ما يملك باستقلالية وندية الدول العربية وحقها في أن تكون في صدارة المشهد العالمي، ولهذا لم يتحمل أن تهاجم بلاده من أي أحد حتى لو كانت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزارايس عام 2006 عندما كانت الولايات المتحدة وقتها تعيش أزهى عصورها في القطب الواحد والهيمنة الكاملة على مختلف التفاعلات السياسية في الشرق الأوسط وغيره من مناطق العالم، يتذكر الجميع كيف كان رد أبو الغيط في هذا المؤتمر الصحفي صارماً وقوياً، تحفل أوراق حقيبته بكل معاني الوطنية، ولهذا كانت له جولات وجولات بهدف واحد هو «تحصين وصيانة ومناعة» الأمن القومي لبلاده الذي ظل وما يزال يراه جزءاً أصيلاً من الأمن القومي العربي.
أتحدث عن الدبلوماسي المرموق، وصاحب البصمة الدبلوماسية الرفيعة أحمد أبو الغيط الذي شغل منصب وزير الخارجية المصرية منذ عام 2004 وحتى 2011، وهو أيضاً الأمين العام لجامعة الدول العربية وبيت العرب منذ 2016 وحتى الآن، فمنذ أن عمل في السلك الدبلوماسي المصري أثبت أنه دبلوماسي من طراز خاص، ونوعية نادرة يمتلك كل أدوات المهارة السياسية والدبلوماسية، لذلك حاز ثقة كل العرب الذين انتخبوه مرتين لقيادة الجامعة العربية والعمل العربي المشترك، الأولى كانت عام 2016، والثانية عام 2021، لأن أبو الغيط بات بالفعل «الحارس الأمين» على بوابات العرب، فلا يترك مكاناً أو مؤتمراً دون أن يكون دفاعه كاملاً، وحجته واضحة في التأكيد على حق العرب في أن يكونوا في المكان والمكانة ومقاعد الصفوف الأولى التي تليق بهم.
الانفتاح على الجميع
يحظى الأمين العام لجامعة الدول العربية بحب واحترام الجميع، ليس فقط في العالم العربي بل في جميع أصقاع الأرض، ولهذا ولأول مرة في تاريخ جامعة الدول العربية يتم التوقيع هذا الشهر على اتفاقية تعاون وشراكة بين الجامعة العربية ووزارة الخارجية الأمريكية، وهو ما يمهد لزيارة وزير الخارجية الأمريكي لمقر الجامعة العربية، فرغم الخلاف في الرأي بين الجامعة العربية والولايات المتحدة الأمريكية حول عدد من الملفات ومنها عودة سوريا للجامعة العربية إلا أن محاضر جلسات هذا اللقاء تكشف كيف استطاع أبو الغيط أن يبني موقفاً قوياً وحائط صد أمام كل «القناعات الخاطئة» لدى الخارجية الأمريكية حول هذه العودة السورية المستحقة لجامعة الدول العربية، كانت حجج أبو الغيط بأن حل الخلافات في سوريا لا يمكن أن تحقق دون أن تكون الدولة السورية لها العضوية الكاملة في بيت العرب، هذه القدرة الفذة على «بناء الشراكات السياسية» مع الوضوح الكامل في «ضبط مساحات الاتفاق والاختلاف» مع الآخرين حققت المزيد والمزيد من المكاسب للقضايا العربية المشتعلة خاصة القضية الفلسطينية التي يؤمن أبو الغيط أن حق تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 4 يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية هو «الحل الأمثل» لكثير من القضايا والصراعات ليس فقط في الشرق الأوسط بل في مناطق كثيرة من العالم.
جسور التعاون
ثمار كثيرة نتيجة لنجاح الأمين العام للجامعة الدول العربية نراها في الحضور والتأثير الكبير في العلاقات العربية مع مختلف دول الإقليم والقوى الإقليمية والدولية، فالجامعة العربية باتت جسراً للتعاون العربي الإفريقي، والعربي الأوربي بعد أول قمة أوربية عربية من نوعها شهدتها شرم الشيخ عام 2019، كما أن التعاون العربي الذي تقوده الجامعة العربية مع الهند والصين واليابان ودول أمريكا اللاتينية وحتى جزر المحيط الهادئ بات واضحاً للجميع، حيث تتهافت مختلف الدول والمنظمات الإقليمية والدولية على بناء الشراكات وخلق صيغ للتعاون والتنسيق مع الجامعة العربية، ولعبت شخصية أبو الغيط القادر على بناء جسور الثقة والتواصل وخلق مصالح مشتركة في تعزيز العلاقات العربية مع مختلف دول وشعوب العالم.
الحلول العربية
جميع شهادات الأمين العام لجامعة الدول العربية ومواقفه السياسية أثبتت أنه منحاز بالكامل، ودون أي شروط مسبقة للحلول السياسية والسلمية والدبلوماسية التي تأتي من الدول العربية والقادة العرب، فتدويل القضايا العربية لم يأت بأي نتيجة إيجابية منذ احتلال العراق عام 2003، فجميع «الوصفات الجاهزة»، والمستوردة من خارج الإقليم العربي ثبت «انتهاء صلاحيتها» قبل أن تصل لعالمنا العربي، وهذا ما يقوله ويدعو له أحمد أبو الغيط في مختلف القضايا العربية مثل سوريا وليبيا والسودان، ففي قناعته أن الدول والشعوب العربية هي الأشد حرصاً على بعضها بعضاً، لأنها هي من دفعت فواتير الفوضى والتخريب الذي ساد المنطقة عام 2011.