تعدّ الصناعة قطاعاً أساسياً في الاقتصاد الأميركي، حيث تحتل “بلاد العم سام” المراتب الأولى عالمياً في عدة منتجات صناعية، أبرزها المنتجات الكيمائية.
ويتميز الإنتاج الصناعي الأميركي بالتنوع والضخامة، إذ لا يختلف اثنان على “كفاءة” المنتجات التي تحمل عبارة “صنع في أميركا”، وهذا الأمر ناتج عن عقود من الخبرة، التي تم اكتسابها بفعل تربع الولايات المتحدة الأميركية على عرش الصناعة العالمية لعدة عقود، قبل أن تفقد هذا اللقب في بداية الألفية الجديدة، إثر تضاؤل حجم الصناعة المحلية، ما أدى إلى خسارة أميركا لثلث الوظائف في القطاع الصناعي بين عامي 2000 و2010.
ورغم محاولات الرئيس الأميركي جو بايدن وقف النزيف المستمر للقطاع الصناعي الأميركي، من خلال توقيعه عدداً من المشاريع والقوانين التي تهدف إلى تعزيز القطاع، عبر تحسين البنية التحتية، وتعزيز سلاسل التوريد، ودعم المصانع، إلا أن المخاوف تتزايد من انعكاسات هجرة الصناعات الأميركية الهامة والحيوية إلى الخارج، وتأثير ذلك على كفاءة منتجاتها التي باتت أيضاً بحالة تراجع.
مسيرة تدهور قطاع التصنيع الأميركي
وبحسب أرقام “البنك الدولي” فقد بدأت مسيرة تدهور قطاع التصنيع في أميركا منذ عام 1997، عندما كان يشكل ما نسبته 16.09 بالمئة من اجمالي الناتج القومي للبلاد، لتتقلّص هذه النسبة إلى 10.71 بالمئة في عام 2021.
وفي عام 2022 كان هناك ما متوسطه 12.5 مليون موظف في قطاع التصنيع في الولايات المتحدة، أي ما يشكل 8.41 بالمئة من القوى العاملة في البلاد، إذ ساهم القطاع حينها بنسبة 10.9 بالمئة من إجمالي الناتج القومي لأميركا، بإيرادات فاقت قيمتها الـ 2.5 تريليون دولار.
وتظهر الأرقام المنشورة في أكتوبر 2023، أن الناتج المحلي الإجمالي الأميركي قفز بنسبة 4.9 بالمئة على صعيد سنوي في الربع الثالث من 2023، ولكن رغم هذا الارتفاع فقد سجّل قطاع التصنيع الأميركي تراجعاً بلغت نسبته 0.2 بالمئة على صعيد سنوي، حيث أن الارتفاع المسجّل في الناتج الأميركي كان مدفوعاً بقطاع الخدمات، الذي بات يشكّل 80 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي.
ويعود التراجع الذي سجله قطاع التصنيع الأميركي في الربع الثالث من 2023، إلى هبوط إنتاج السيارات وقطع الغيار بنسبة كبيرة، وذلك على خلفية الإضراب الذي ينفذه بعض عمال مصانع السيارات في أميركا للمطالبة بحقوقهم.
ما الذي دفع إلى تراجع كفاءة التصنيع الأميركي؟
يرى الخبراء أنه عندما تصبح البلدان أكثر ثراءً وغلاءً، ينتقل التصنيع إلى الخارج مع سعي الشركات إلى خفض تكاليف العمالة عبر الاستعانة بمصادر خارجية أقل كلفة، وهذا تحديداً ما حصل للقطاع الصناعي الأميركي الذي عانى أيضاً من ظهور الصين، كقوة صناعية ضخمة وسريعة وبتكلفة رخيصة، في حين أن تراجع حجم الصناعة، وعدم تصدير السلع المحلية للأسواق العالمية، أدى إلى تراجع “كفاءة” المنتجات الأميركية، في ظل تضاؤل حجم اليد العاملة الخبيرة في البلاد.
ويقول الخبير في القطاع الصناعي طلال حجازي، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن بداية مسار تراجع الصناعة في الولايات المتحدة، بدأ مع قيام الشركات هناك بتوكيل مهام التصنيع إلى أطراف خارجية، أغلبها في الصين وآسيا، لتكتفي الشركات الأميركية بمهمة تصميم المنتجات، وهذا ما أحدث تحولاً كبيراً في الاقتصاد الأميركي، دفع ثمنه القطاع الصناعي مع مرور الزمن وأدى إلى تراجع كفاءة المنتجات التي تحمل عبارة “صنع في أميركا”، إضافة إلى تراجع حجم تواجد هذه المنتجات في الأسواق العالمية بنسبة كبيرة.
وبحسب حجازي، فإن توسع نمط توكيل الشركات الأميركية، لعمليات تصنيع منتجاتها إلى مصانع صينية، حيث الأجور منخفضة، أدى إلى غياب الابتكار الحقيقي، داخل الصناعة الأميركية، وقد ترافق ذلك مع غياب استراتيجيات تنمية القوى العاملة في مجال التصنيع واستجابتها لتطورات السوق، التي تعد إحدى أهم العوامل التي تساعد في تحقيق النجاح الصناعي والتجاري في عالم تنافسي، لافتاً إلى أن الوظائف الصناعية في أميركا هاجرت بشكل طوعي، ما ساهم بشكل سلبي أيضاً في انخفاض قيمة القطاع الصناعي، وخلق فجوة في المهارات، وبات لا أحد يريد أن يعمل في قطاع يعاني من فقدان الوظائف باستمرار.
ويرى حجازي أن المعامل الصينية التي تقوم بتصنيع المنتجات الأميركية، اكتسبت معرفة كبيرة، وهذا ما ساعد في ارتفاع جودة المنتجات المُصنّعة في الصين، ومكّن بكين من دخول السوق العالمي بقوة، مشيراً في الوقت عينه إلى أن الولايات المتحدة الأميركية لا تزال في المرتبة الثانية عالمياً في الإنتاج الصناعي، ولم تفقد هيمنتها كلياً على هذا القطاع الحيوي، فهي بحاجة للقيام بمزيد من الخطوات لدعم التصنيع المحلي من خلال تحفيز الابتكار في الإنتاج وضخ استثمارات كبيرة، إضافة إلى ربط المصانع بالجامعات لمعرفة ما تحتاجه السوق من مهارات، ما يتيح للصناعة مواكبة أي جديد.
وشدد حجازي على أن عبارة “صنع في أميركا”، لا تزال عبارة مثيرة للإعجاب في العالم، نظراً لتاريخ الصناعات الأميركية والجودة التي تتمتع بها، مقارنة ببقية المنتجات وتحديداً الصينية، ما يدل على سهولة إعادة إحياء “الصناعات الأميركية” في الأسواق العالمية في حال رغبت أميركا بذلك.
هل يمكن أن تتغير الأمور؟
من جهته، يقول المحلل الاقتصادي محمد الحسن، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن أميركا ومنذ عهد الرئيس دونالد ترامب، حاولت إعادة احياء القطاع الصناعي في البلاد، من خلال التعريفات الجمركية التي تم فرضها على البضائع الصينية، وبعض المستوردات من أوروبا، حيث كان الهدف من هذه الإجراءات هو حث الشركات الأميركية على تصنيع بضائعها محلياً، بدلاً من الاعتماد على الخارج، في حين اعتمدت إدارة الرئيس جو بايدن، على سياسة تقديم الإعانات والاعفاءات المالية، لتحفيز الشركات على الاستثمار في القطاع الصناعي وخاصة في مجال انتاج الرقائق الإلكترونية.
ويكشف الحسن أنه خلال خمسين عاماً، تقلصت مساهمة القطاع الصناعي الى الناتج القومي لأميركا من 27 بالمئة إلى 12 بالمئة، بينما تصل مساهمة القطاع الصناعي الى الناتج القومي الصيني إلى 39 بالمئة حالياً، لافتاً إلى أن الصين تدرك اليوم أن أيامها كمنافس منخفض التكلفة لأميركا باتت معدودة، إذ يأمل أنصار السياسة الصناعية في واشنطن، أن تؤدي إعانات الدعم الحكومية لإنتاج الرقائق والتكنولوجيا الخضراء إلى نهضة التصنيع، وذلك بدعم من التقدم الذي تحققه البلاد في مجال الروبوتات والذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي سيدفع الصناعة إلى الأمام، تماماً كما أدت تكنولوجيا المعلومات إلى زيادة الإنتاجية، في الفترة من عام 1995 إلى عام 2004.
وأكد الحسن أن عودة أميركا لتصبح مركزاً صناعياً مثيراً للإعجاب، أمر لا يمكن تحقيقه بين ليلة وضحاها ويحتاج لسنوات، حيث على واشنطن الاستمرار بتقديم الدعم اللازم على الصعيد المالي، وعلى صعيد التخفيف من الاجراءات “البيروقرطية”، التي تتطلبها عملية الحصول على المستندات اللازمة لبناء المصانع، إضافة إلى تحضير يد عاملة ذات مستوى كفاءة عالية، متوقعاً أن تشهد السنوات المقبلة صعود الصناعة الأميركية واستعادتها لجدارتها المعتادة.