تحوّل البحر الأبيض المتوسط خلال السنوات القليلة الماضية، إلى مقبرة لأحلام أولئك المهاجرين الحالمين بحياة أفضل، في القارة الأوروبية، فإن لم يبتلعهم البحر بأمواجه العاتية، وقواربهم المتهالكة، كانوا فريسة لتجار البشر، وسماسرة السفر، الذين ينقلونهم عبر البر والبحر في رحلات لا أحد يعرف منتهاها.
أخيرا، وبعد سنوات من الشد والجذب، أقر الاتحاد الأوروبي وثيقة جديدة للتعامل مع المهاجرين نحو القارة، اعتبرتها بروكسل، «وثيقة تاريخية»، فيما رفضتها المنظمات الحقوقية، ولجان حقوق الإنسان، ولكن، قبل الخوض في الوثيقة وجديدها، لا بد من الحديث عن ملف المهاجرين، ورحلات قوارب الموت، والوفيات الكثيرة التي تخلفها هذه القوارب المتهالكة قبل الوصول إلى البر الأوروبي.
ظاهرة مستمرة
اجتماعات طويلة، وقمم كثيرة، عقدها الأوروبيون، لتناول قضية الهجرة غير الشرعية خلال السنة الحالية والسنوات القليلة الماضية التي سبقتها، لكن الظاهرة لم تتوقف، ولم يتوقف معها المتاجرون بالبشر، والمنتفعون من قوارب الموت في عرض البحر، بل هي آخذة في التفاقم، لغياب الإرادة الحقيقية لمعالجة جذور المشكلة، والاكتفاء بمعالجة آثارها فحسب. فتارة يشدد الأوروبيون الإجراءات، وأخرى يلوحون برفع يد الإغراءات والمساعدات للدول التي ينطلق منها المهاجرون، وينشط فيها المهربون.
ورغم العروض المالية لدول انطلاق المهاجرين، إلا أن هذه الحلول لم تفلح في كبح الظاهرة أو الحد منها، رغم تسخير القارة الأوروبية إمكانياتها، وحرس سواحلها لمحاربة الظاهرة، حماية للمهاجرين أنفسهم من أخطار مغامرة غير مضمونة العواقب ناهيك عن قيام المهاجرين والمهربين بانتهاك القوانين والأنظمة بالقيام بعمل غير مشروع عبر حدودها البحرية ومياهها الإقليمية. ومهما يكن الأمر فإن الدول المصدرة للمهاجرين، والدول المستقبلة لهم على مضض، يلتقيان في محاربة الظاهرة ويختلفان في طرق معالجتها ومن يدفع التكاليف الباهظة لعملية مستمرة بلا نهايات. ومن المفيد التذكير بمقولة الرئيس التونسي قيس سعيد «إنَّ بلاده لن تلعب دور شرطي الحدود لمنع عبور المهاجرين غير النظاميين عشية زيارة زعماء من الاتحاد الأوروبي إلى تونس، لبحث قضايا الهجرة».
سعيد، اعتبر أنَّ هؤلاء (المهاجرين) ضحايا نظام عالمي للأسف، يقوم بالتعامل معهم لا كذوات بشرية، ولكن كمجرد أرقام، ولا يمكن أن نقوم بالدور الذي يفصح عنه البعض ويخفيه البعض الآخر بأن نكون حراساً لدولهم.
الأسباب الحقيقية
وضع الرئيس التونسي يده على الجرح، فقوافل المهاجرين غير الشرعيين لا تتوقف، وأوروبا تتجاهل معاناة هؤلاء الناس والأسباب الحقيقية لهجرتهم، ودفعهم لأثمان باهظة لهذه المغامرة غير المحسوبة. دافعهم الأمل في حياة أفضل، هرباً من الفقر والصراعات وقلة الحيلة والفساد، فيكون الموت لهم بالمرصاد، وقد كشفت إحصائيات المنظمة الدولية للهجرة عن وفاة 2000 شخص، في النصف الأول من العام الجاري وحده، مقارنة ب 1400 في الفترة ذاتها من العام الماضي.
أرقام مخيفة، استنفرت منظمات حقوق الإنسان، والمدافعين عن الحريات، فهذا الغرب الذي يصدع الرؤوس بالشعارات يتجاهل معاناة هؤلاء الناس، ويقف متظاهراً بالعجز عن استقبال هؤلاء المهاجرين، على قلتهم في قارة أوروبية مترامية الأطراف، وذات إمكانيات اقتصادية هائلة، ناهيك عن القول إن هؤلاء المهاجرين لن يكونوا عالة على الدول المضيفة بل هم رافد قوي لاقتصادياتها فغالبيتهم من القوى الشابة القادرة على العمل والإنتاج، في دول أوروبية هي بحاجة أصلا للأيدي العاملة، لذا كانت التباينات في التعامل مع الظاهرة بين دولة أوروبية وأخرى، وبقيت قضية الهجرة والمهاجرين حاضرة على جدول أعمال الساسة الأوروبيين واجتماعاتهم، وأريق حولها حبر كثير، رغم عديد القضايا الدولية الضاغطة.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، بحثا الظاهرة خلال مناقشتهما المشتركة في أكثر من مرة العام الجاري، واتفقا بوجوب اتخاذ إجراءات مشتركة لوقف تدفقهم نحو القارة الأوربية، وكون إيطاليا واليونان من بين أكثر الدول تضرراً من الظاهرة فقد أعربت رئيسة الوزراء الإيطالية عن غضبها بأن بلادها لن تصبح مخيماً للاجئين في أوروبا.
الأمنيات والرغبات الأوربية بوقف الهجرة نحو القارة الأوروبية لم تقف عند تصريحات ماكرون وميلوني، فالظاهرة تتفاقم والاتحاد الأوروبي بأسره مستنفر سواء لمواجهة الظاهرة، أو تقاسم المهاجرين، أو تحمل بعض الأعباء عن دول المواجهة، التي تستقبل جموع المهاجرين وخاصة الجزر الإيطالية واليونانية.
الدول المضيفة
إيطاليا التي تبرمت كثيراً من موجات المهاجرين لا تكف عن مناشدة الدول الأوروبية عن تحمل بعض الأعباء التي تخلفها الظاهرة عليها وتطالب باستمرار بتقاسم المهاجرين، وما دمنا نتحدث عن إيطاليا فهنا تبرز جزيرة لامبيدوزا التي تستقبل أفواجاً من المهاجرين غير الشرعيين، الذين تستقبلهم الجزيرة، ولم تفلح كل المحاولات في صدهم، جراء موقعها الجغرافي، فجزيرة لامبيدوزا تقع في أقصى الجنوب الإيطالي، وهي قريبة جداً من السواحل التونسية وغرب سواحل مالطا. و تبعد عن سواحل تونس نحو 133 كيلومتراً فقط.
ورغم كون الجزيرة جزءاً من التراب الإيطالي منذ منتصف القرن ال19، فقد ظل ارتباطها بالسواحل الإفريقية متواصلاً، ولا سيما تونس فهذه الجزيرة التي يقطنها سبعة آلاف نسمة، تحملت العبء الأكبر في أزمة المهاجرين. وكانت في بعض الأوقات تستضيف أكثر من عدد سكانها، حيث يتم احتجاز المهاجرين في مركز للاحتجاز تسمى «النقطة الساخنة».
وقدر الصليب الأحمر الإيطالي من استضافهم الجزيرة «لامبيدوزا» في أسبوع واحد، بأكثر من 10,000 شخص، وكثير منهم قادمون عبر البحر المتوسط من تونس.
وقد استقبلت إيطاليا أكثر من 60 ألف مهاجر غير شرعي هذا العام، مقارنة بأقل من 27 ألفاً خلال العام الماضي، حسب تقديرات المنظمة الدولية للهجرة، وقد تم تسجيل أكثر من 20 ألف حالة وفاة منذ عام 2014.
ومنذ كانون/كانون الثاني 2023، اعتبر 2210 مهاجرين في عداد المفقودين بعدما حاولوا عبور المتوسط سعياً لبلوغ أوروبا، بحسب المنظمة الدولية للهجرة.
دوافع الهجرة
يرجع البعض دوافع الهجرة غير الشرعية إلى أسباب سياسية، وأخرى اقتصادية واجتماعية، وكلها أسباب وجيهة قد تكون بالفعل وراء تدفق المهاجرين كون القارة الأوروبية تنعم بالاستقرار السياسي، والرفاه الاقتصادي، وتتوافر فيها فرص العمل، ناهيك عن احتياجات معظم الدول الأوروبية إلى الأيدي العاملة الشابة كونها تفتقر هذا العنصر، كما هو الحال في ألمانيا التي فتحت أبوابها لاستقطاب نحو 800 ألف سوري، في حين لجأ حوالى 53501 شخص إلى هولندا، أما في السويد ففيها أكثر من 190 ألف سوري.
هذه الأعداد من المهاجرين يشكلون طاقة تشغيلية هائلة، خاصة أن غالبيتهم من الشباب، في مجتمعات أوروبية ترتفع فيها نسبة الشيخوخة وتتراجع فيها العناصر الشابة، ناهيك عن المهاجرين الأفغان، والعراقيين والصوماليين وغيرهم من الدول المصدرة للمهاجرين.
أزمة المهاجرين، ليست ذات دوافع سياسية فحسب وإن كان لا يخفى على أحد دوافعها السياسية، فهناك الكثير من المهاجرين القادمين من دول القارة السمراء حيث الفقر واستشراء الفساد، وهناك من يشير بأصابع الاتهام إلى الدول الغربية بالمسؤولية عن متاعب الدول الإفريقية وإفقار شعوبها بنهب الثروات، وعدم مساهمتها بتنمية هذه المجتمعات مقابل ما تجنيه من عوائد واستثمارات.
مسار روما
حاولت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني خلال استضافتها قادة دول البحر الأبيض المتوسط في الرابع والعشرين من يوليو/تموز 2023 الترويج لتعاون جديد بين البلدان التي ينطلق منها المهاجرون والبلدان المُضيفة، وروجت ميلوني للاتفاق النموذجي الموقّع بين الاتحاد الأوروبي وتونس بهدف الحد من وصول المهاجرين إلى القارة العجوز وافتتحت ميلوني المؤتمر محدّدة ما أسمته بأولويات «مسار روما».
وتتلخص فكرة مسار روما ب «محاربة الهجرة غير النظامية، وإدارة تدفقات الهجرة القانونية، ودعم اللاجئين، والتعاون واسع النطاق لدعم تنمية إفريقيا، خصوصاً بلدان المغادرة (المهاجرين)، إذ من دونها سيبقى أي عمل غير كافٍ».
ورغم الحضور الكبير لقمة روما من قادة وزعماء من بينهم الرئيس التونسي قيس سعيد، ورئيس موريتانيا محمد ولد الشيخ الغزواني، ورئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لايين، ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال وغيرهم، الذين أكدوا ضرورة معالجة الأسباب الجذرية للهجرة غير النظامية. ورؤساء وزراء مالطا ومصر وليبيا وإثيوبيا والجزائر والأردن ولبنان والنيجر، بينما أوفدت دول أخرى وزراء لتمثيلها وبينها السعودية والكويت وتركيا واليونان. إلا أن مسالة الهجرة غير النظامية تحتاج إلى معالجة جذور المشكلة، وليس الوقوف على الظاهرة فحسب.
التوافق الأوروبي
الأوروبيون المتضجرون من تفاقم مسألة الهجرة، توافقوا أخيراً في العشرين من ديسمبر الجاري على إصلاح نظام الهجرة، وقد وصف البعض الاتفاق بالتاريخي بعد موافقة النواب الأوروبيين عليه، بعد مداولات استمرت ثلاث سنوات. وقد أشادت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بالاتفاق ووصفته بالتاريخي. كما أعربت رئيسة البرلمان الأوروبي، روبيرتا ميتسولا، عن اعتقادها بأنه أهم اتفاق تشريعي في ولايتها.
كذلك حظي الاتفاق بتأييد من دول أوروبية مثل ألمانيا وفرنسا وإسبانيا واليونان وهولندا، بالإضافة إلى إيطاليا التي أشادت بالإصلاح لتخفيف الضغط عن الدول التي تتصدر استقبال اللاجئين مثل إيطاليا واليونان.
ويهدف الإصلاح إلى مراقبة معززة لعمليات وصول المهاجرين، وإقامة مراكز مغلقة قرب الحدود لمعالجة طلبات اللجوء بسرعة أكبر، بالإضافة إلى آلية تضامن إلزامية بين الدول الأعضاء لدعم الدول ذات الضغوط الكبيرة. مع ذلك، عبرت مجموعة من منظمات الإغاثة والمنظمات الحقوقية عن رفضها للاتفاق، معتبرة أنه يشكل فشلاً تاريخياً وسيؤدي إلى المزيد من الوفيات في البحر. ونددت به بعض المنظمات الحقوقية وقالت إن الاتفاق يشكل تفكيكاً خطيراً للمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان وقانون اللاجئين. لكن يبقى على الاتفاق السياسي أن يحظى بموافقة المجلس والبرلمان الأوروبي قبل تنفيذه رسمياً.
الاتفاق لن يحل مسألة الهجرة التي ستبقى على الأقل في السنة المقبلة، موضوعاً حيوياً في النقاش السياسي الأوروبي، خاصة في ظل تنامي ظاهرة اليمين المتشدد، والأحزاب الشعبوية المتطرفة في بعض البلدان الأوروبية.
أبرز النقاط في الاتفاق الأوروبي لإصلاح نظام الهجرة
توصل البرلمان الأوروبي والدول الأعضاء إلى اتفاق مبدئي في العشرين من ديسمبر بشأن إصلاح سياسة الهجرة في الاتحاد الأوروبي في ختام مفاوضات طويلة وشاقة بعد أكثر من ثلاث سنوات من تقديم المفوضية الأوروبية لهذا المشروع. الذي جاء تحت عنوان «ميثاق الهجرة واللجوء»
وينص على تعزيز المراقبة على المهاجرين الوافدين إلى الاتحاد الأوروبي وإنشاء مراكز قرب الحدود لإعادة أولئك الذين لا يحق لهم اللجوء إلى الاتحاد الأوروبي بسرعة أكبر، وآلية للتضامن الإلزامي بين الدول الأعضاء تعود بالفائدة على الدول المعرضة لضغوط الهجرة.
تعزيز المراقبة: تطبيق عملية «تدقيق» الزامي قبل دخول مهاجر إلى الاتحاد الأوروبي. يمكن أن تستمر عمليات التحقق من الهوية والأمن لمدة تصل إلى سبعة أيام. في نهاية هذه الفترة القصوى يتم توجيه الشخص نحو إجراء للجوء – اعتيادي أو معجل – أو إعادته إلى بلده الأصلي أو بلد العبور. إجراءات الحدود: سيتم توجيه طالبي اللجوء الذين هم الأقل احتمالا إحصائيا للحصول على حماية دولية – رعايا الدول التي يكون فيها معدل الاعتراف بوضع اللاجئ، في المتوسط في الاتحاد الأوروبي، أقل من 20% مثل المغرب وتونس وبنغلاديش – نحو «إجراءات الحدود». في إطار هذه الإجراءات يتوقع تأمين حوالي 30 ألف مكان في مراكز مخصصة لاستقبال ما مجموعه 120 ألف مهاجر سنويا. وسيشمل ذلك القُصّر غير المرافقين الذين يشكلون «خطراً أمنياً» والعائلات التي لديها أطفال.
تضامن الزامي: يحافظ النظام الجديد الذي يحل مكان لائحة دبلن الثالثة، على المبدأ العام المعمول به، والذي بموجبه يكون البلد الأول الذي يدخله طالب اللجوء في الاتحاد الأوروبي مسؤولاً عن درس ملفه. وأضيفت معايير أخرى إلى تلك المطبقة ما يسمح بدرس طلب اللجوء في بلد آخر غير بلد الدخول.
حالات الأزمات: ينص أحد أحكام الإصلاح على الاستجابة في حال التدفق الكبير والاستثنائي للمهاجرين إلى إحدى دول الاتحاد الأوروبي كما حدث أثناء أزمة اللاجئين في 2015-2016. عندها يتم تفعيل آلية التضامن بسرعة لصالح الدولة المعنية، وسيتم وضع نظام استثنائي يكون أقل حماية لطالبي اللجوء من الإجراءات المعتادة. وينص الاتفاق الجديد أيضاً على تمديد المدة المحتملة لاحتجاز المهاجرين على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي بما يصل إلى تسعة أشهر يشمل إجراءات الإبعاد.