مع نهاية عام 2023، وبعد 22 شهراً من بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، ورغم الدعم العسكري والاستخباري واللوجستي والاقتصادي الغربي، لا تزال القوات الأوكرانية عاجزة عن استرداد الأراضي التي سيطرت عليها روسيا، فضلاً عن تحرك خطوط القتال قيد أنملة، ولم يسفر الهجوم الأوكراني المضاد في يونيو/ حزيران الماضي، عن النتائج المتوقعة، بل هبت رياح غير مواتية أثارت الشكوك حول المساعدات الأمريكية والأوروبية إلى جانب تخلخل الوحدة الأوروبية خلف أوكرانيا.
بلا نهاية
تستمر الخسائر في التصاعد في حرب أسفرت بالفعل عن مقتل وإصابة مئات الآلاف، وتدمير مدن، وبلدات، وقرى أوكرانية، وأجبرت الملايين على النزوح من منازلهم، فيما أصبح مئات الآلاف آخرين يعيشون في المناطق التي تسيطر عليها القوات المتحالفة مع روسيا. وأصبحت هجمات الطائرات المسيّرة والصواريخ جزءاً من الحياة اليومية.
وبعد 22 شهراً على أكبر صراع تشهده أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، يشتعل القتال بلا نهاية تلوح في الأفق. وبعد تعليق آمال أوكرانية وغربية على الهجوم المضاد، اعترف فاليري زالوجني، قائد القوات الأوكرانية، بأن الهجوم المضاد تكلل بالفشل، وبأن قواته لم تتمكن من تحقيق أي اختراق حقيقي في الجبهة، وبأن كل الحسابات كانت خاطئة. وقال: «وصلنا إلى طريق مسدود في مستوى التكنولوجيا. على الأرجح، لن يكون هناك اختراق عميق وجميل من جانب قواتنا». واشتكى من أن المساعدة العسكرية الغربية لا تأتي على نحو سريع، وبأحجام أكبر.
وأعرب عن أسفه لأن الغرب لم يوفر لأوكرانيا طلبها تعزيز القوة الجوية، شديدة الأهمية للهجوم المضاد، وأشار إلى أكبر فشل بسبب عدم تسليم كييف مقاتلات «إف-16» التي وعدت بها.
هم وهو
لم يعد نقل المساعدات العسكرية والمالية شديدة الأهمية من الغرب يمضي بسلاسة.
جعل الرئيس الأمريكي، جو بايدن، انتصار أوكرانيا هدفاً للسياسة الخارجية في إطار حملته لإعادة انتخابه في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، لكن مصير حزمة المساعدات التي اقترحها بايدن بقيمة 60 مليار دولار باتت غير مؤكدة، بسبب معارضة بعض الجمهوريين.
وعدم إحراز تقدم أوكراني كبير في ساحة المعركة يضر أيضاً ببايدن سياسياً، في أنتخابات يمكن أن تعيد الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي دعا الكونغرس الصيف الماضي إلى حجب المساعدات عن أوكرانيا.
كما واجه مقترحاً منفصلاً بمساعدات عسكرية من الاتحاد الأوروبي بقيمة 50 مليار يورو لمدة أربع سنوات مقاومة من بعض أعضاء التكتل.
في الوقت نفسه، تُسابق روسيا الزمن لإعادة بناء قواتها المسلحة التي تفوق نظيرتها الأوكرانية بكثير، لتكثيف جهود الحرب، وتعزيز قطاعها الدفاعي وتجديد المعدات وإنتاج أسلحة، وأعتدة جديدة وتسليمها إلى القوات الروسية. ولا شك في أن الرئيس، فلاديمير بوتين، الذي من المؤكد سيحصل على فترة رئاسية جديدة لمدة ست سنوات في الانتخابات المقبلة في مارس/ آذار 2024، سيكون بإمكانه تصعيد الجهود الحربية الروسية بشكل أكبر، لإقناع أوكرانيا عملياً، والغرب الذي يدعمها بالرضوخ إلى التفاوض.
تبعات الداخل
كأن من المقرر أيضاً أن تجري أوكرانيا أنتخابات رئاسية في مارس/ آذار الماضي، لكن هذا لم يحدث بسبب الأحكام العرفية. ووضع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي حداً للتكهنات، قائلاً «هذا ليس الوقت المناسب» لإجراء أنتخابات.
كما أن تبعات الحرب تؤثر بالسلب في المجتمع الأوكرأني والمشهد السياسي، على مدى السنوات المقبلة. وتكشف الإصلاحات التي تجري حاليا لزيادة فاعلية عمليات التجنيد واستدعاء أفراد الجيش عن القضايا الحساسة والمهمة التي يجب على الحكومة معالجتها.
وتعول الحكومة الأوكرانية على السند الأوروبي بما يعادل التضحيات التي تبذلها كييف، رغم أن القيادة الأوكرانية ارتضت أن تتحمل الثمن الأبهظ للحرب مع روسيا، إلا أن المطلوب الأوكراني من أوروبا ما زال يعاني العرقلة والتعطيل. فالاتحاد الأوروبي يعلن مراراً وتكراراً، أن باب العضوية الأوكرانية في النادي الأوروبي مفتوح، ولكن على أوكرانيا أن تنتظر، ربما سنوات، حتى يتحقق هذا الحلم، كما أن الطلب الأوكراني للانضمام إلى حلف الأطلسي يصطدم بحائط عدم ضم دولة في حالة حرب إلى الحلف.
إلى متى؟
استمرار المساعدات المالية والعسكرية الغربية إلى كييف هو الشريان الذي يغذي قدرة أوكرانيا على الاستمرار في الحرب. وقد أكد مسؤول سابق في وزارة الدفاع الأمريكية أن أوكرانيا لن تستطيع الصمود شهراً واحداً من دون الدعم الأمريكي، كما أكدت المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي أن أوكرانيا لن تستطيع الصمود لشهرين من دون الدعم المالي الغربي.
فقد قال البريجدير دوغلاس ماكغريغور، المستشار السابق «للبنتاغون»، إنه من دون الدعم الأمريكي لكييف، لن تتمكن أوكرانيا من الصمود لمدة شهر في مواجهة روسيا. وكتب على حسابه الخاص على منصة «إكس»: «من دون مساعدة الولايات المتحدة، قد تصمد أوكرانيا لمدة 30 يوماً تقريباً، هذا حتى في أفضل الأحوال»، ودعا أوكرانيا إلى تحقيق السلام مع روسيا في أسرع وقت ممكن.
وقالت كريستالينا غورغييفا، مديرة صندوق النقد الدولي، إن أوكرانيا تستطيع الاستمرار مدة شهرين فقط، من دون المساعدة المالية الغربية. ودعت غورغييفا الدول الغربية إلى «تقديم عشرات المليارات من الدولارات بشكل عاجل»، إلى أوكرانيا لتجنب التهديدات المحيقة باقتصادها، محذرة من التأخير في تقديم المساعدات المالية لسلطات كييف، وقالت: «من المهم ألا تطول هذه الفترة، لأنها ستفرض المزيد من الضغوط على أوكرانيا، وسيتعين عليها التكيف مع الوضع في الوقت الذي كانت فيه البلاد تتوقع تحسناً في الآفاق الاقتصادية».
فما الذي يتبقى لدى أوكرانيا لتفعله في حال غياب الدعم المالي الغربي؟ للإجابة عن هذا السؤال، قال الخبير الاقتصادي أوليغ أوستينكو، مستشار الرئيس الأوكراني، إذا توقف الغرب عن دعم أوكرانيا العام المقبل، فسيتعين الانتفال إلى خطة بديلة، ما يعني بشكل أساسي الاتجاه إلى طبع المزيد من النقود، ما يعني ارتفاع التضخم والأسعار ما يزيد الضغط على المواطنين.
في الوقت الحالي، يتم حظر جميع قرارات الاتحاد الأوروبي تقريباً، بشأن تخصيص الأموال لسلطات كييف من قبل هنغاريا، بما في ذلك الدفعة الثامنة من المساعدات العسكرية بقيمة 500 مليون يورو، وخمسة مليارات يورو من صندوق السلام الأوروبي لعام 2024، وحزمة أوسع بقيمة 20 مليار يورو للمساعدات العسكرية، كدعم لمدة أربع سنوات، إضافة إلى 50 مليار دولار من المساعدات المالية الكلية للفترة 2024-2027.
نعم.. ولكن
على الرغم من أن الحرب مكلفة للغاية، إلا أن أغلبية دول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي لن تترك أوكرانيا تسقط أبداً، لأنها تدرك أنه إذا سيطرت روسيا على أوكرانيا، فإنها ستكون سابقة خطرة للغاية، في ظل ما تحمله من مخاطر على دول البلطيق(استونيا ولاتفيا وليتوانيا) وبولندا.
ويعتقد قادة الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، أن كل الأسباب التي أدت إلى دعم أوكرانيا منذ 24 فبراير/ شباط 2022، لا تزال قائمة. ويعتبرون أن «دعم أوكرانيا مسألة أمنية بالنسبة لأوروبا».
وفي ظل توجه الاهتمام الغربي على طرفي المحيط الأطلسي، إلى دعم إسرائيل في حربها على قطاع غزة، انحسرت الأضواء الإعلامية عن أوكرانيا، كما توجه الدعم الغربي المالي والعسكري، بصورة عاجلة، إلى إسرائيل، ومن ضمنه أسلحة وذخائر كان من المفترض أن توجه إلى أوكرانيا. لكن مسؤولين أوروبيين يعتقدون أن الدعم الغربي لكييف سيستمر باعتبار «استبعاد فكرة أن هناك أزمة تلغي أخرى». وأكد مسؤولون أوروبيون وأطلسيون خلال آخر قمة أوروبية واجتماع ل«الناتو» أنه لا توجد مؤشرات إلى انهزامية لدى بروكسل، أو لدى حلف شمال الأطلسي.
حرب طويلة
تبدي القيادة الأوكرانية استعدادها لخوض حرب طويلة الأمد، بدعم غربي أو من دونه.
فقبل نهاية العام الجاري، اعلن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، عن التعبئة العامة لتجنيد ما بين 450 ألفاً إلى نصف مليون شخص، بعد ضعف الالتحاق التطوعي بالجيش. كما أنه أعلن أن بلاده وضعت سقفاً لإنتاج مليون مسيّرة لاستخدامها في العمليات، إلى جانب ضمان أن تحصل أوكرانيا من حلف الأطلسي على مليون قذيفة 155 ملم، فضلاً عن تقوية وتعزيز الدفاعات الجوية. الأمر الذي يكفل قدرة أوكرانيا على الحفاظ على خطوطها القتالية، ومن ثم تطويرها إلى قدرات هجومية لدحر القوات الروسية من المناطق التي تتمركز فيها في جنوب،وشرق أوكرانيا.
ورغم أن الوضع العسكري على الجبهة البرية في أوكرانيا يبدو الآن مجمّداً، في ظلّ عدم وجود حلّ تكتيكي حقيقي في الأفق على المدى القصير، إلا أن كييف تعتقد أنها قادرة على تحقيق مكاسب إذا استمرّت المساعدات العسكرية الغربية.
ورغم المد والجزر في الدعم الأوروبي لأوكرانيا، فإن الأوروبيين يأملون في ترسيخ الوضع الراهن، على المستوى العسكري، وقد يستمر الحال كذلك حتى الانتخابات الأمريكية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024.
القوة المقاتلة الأكثر فتكاً في التاريخ
كشف وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، أن مساعدة أوكرانيا، تسهم في تطوير المجمع الصناعي العسكري الأمريكي.
وقال أوستن، أمام منتدى ريغان للدفاع الوطني في كاليفورنيا، الشهر الجاري، إن «الجيش الأمريكي هو القوة المقاتلة الأكثر فتكاً في تاريخ البشرية. وسنبقي الأمر على هذا النحو». وأشار أوستن إلى أن ما يقرب من 3.4 مليون شخص يخدمون في الجيش الأمريكي.
وقال اوستن إن بلاده تنفذ أكبر عملية تحديث لقاعدتها الصناعية الدفاعية منذ عقود، كما زادت تمويل إنتاج الذخيرة بمقدار النصف، بسبب ارتفاع معدل استهلاك القذائف الأمريكية في أوكرانيا. وأشار إلى أنه سيتم إنفاق نحو 50 مليار دولار على تحديث القاعدة الصناعية الدفاعية.
وكان أُفيد سابقاً، بأن المجمع الصناعي العسكري الأمريكي يواجه صعوبات في تجديد مخزوناته من الذخائر بسبب توريدها إلى أوكرانيا، وإسرائيل.
وقال خبراء لصحيفة «ذا هيل» المعنية بشؤون الكونغرس الأمريكي، إن «الطلب على الأسلحة أظهر محدودية قدرة الولايات المتحدة على تجديد مخزوناتها، كما أظهر أن شركات التصنيع العسكري تواجه صعوبات في تلبية الطلبات».