بين عشية وضحاها، اكتشفت الدول الاستعمارية الأوروبية السابقة،أن مستعمراتها السابقة في إفريقيا التي ظلت مرتبطة بها بعد الاستقلال، غيّرت بوصلتها، وأن دولاً كبرى، أخرى وناشئة، تعمل بنهج مختلف لكسب النفوذ والعقول والقلوب في القارة الإفريقية.
شهد عام 2023 الذي لفظ أنفاسه، زيارات واجتماعات مكثفة من جانب القوى الدولية، تركزت فيها الأضواء على إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، في خضم التنافس العالمي على النفوذ والموارد. حيث زار القارة السوداء المستشار الألماني، أولاف شولتز، والرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ومسؤولون أمريكيون على رأسهم وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، ونوابه ومساعدوه للشؤون الإفريقية والتعاون الدولي والمساعدات التنموية، ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ووزيرا الخارجية الصينيان، السابق واللاحق، إلى جانب العديد من المسؤولين الأتراك، وعلى رأسهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ووزيرا خارجيته السابق واللاحق. وفوق ذلك استضاف الرئيس الأمريكي، جو بايدن، قمة أمريكية إفريقية هي الأولى منذ تسع سنوات، وحضرها أكثر من 40 من قادة الدول والحكومات.
محاولة للاستدراك
هذا النشاط المحموم المتسارع، جدد مصطلح «التدافع الجديد على إفريقيا»، فالعديد من القوى الخارجية، بينها الدول الاستعمارية السابقة، مثل فرنسا، وبريطانيا، والدول الكبرى، كالولايات المتحدة والصين، والدول الأصغر الباحثة عن موطئ قدم، كتركيا وكوريا الجنوبية، تتنافس في إفريقيا على النفوذ الجيوسياسي، وعلى المكاسب الاقتصادية. وهذا ليس بالأمر المستغرب، فإفريقيا جنوب الصحراء هي آخر أرض وسوق بِكر في العالم، وفيها 49 دولة تملك تقديم فرصٍ استثمارية. كما أنها تمثل الكتلة التصويتية الأكبر في الأمم المتحدة، ما يمنحها مكانة عالية في الساحة السياسية الدولية.
الملعب
إفريقيا على الدوام كانت مسرحاً لتنافس القوى الكبرى، في سبيل الحصول على منافع اقتصادية.
وبعد استقلال أغلبية الدول الإفريقية، في ستينات القرن العشرين، تنافست الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، سياسياً واقتصادياً وأيديولوجياً، في إفريقيا، مع استمرار نشاط القوى الاستعمارية القديمة، خصوصاً فرنسا التي ربطت 14 مستعمرة سابقة في غرب إفريقيا بها، سياسياً واقتصادياً ووجدانياً وعسكرياً. وحديثاً، على مدى العقدين المنصرمين، دفعت الشهية المفتوحة للموارد الطبيعية الصين، إلى أن تصبح أكبر اللاعبين الخارجيين، الأمر الذي أثار مخاوف غربية امتدَّت من القدرة على الوصول إلى المعادن المهمة، إلى انهيار نفوذها.
الصين تتقدم السباق
إذا كان من الممكن حساب السباق على النفوذ والموارد في القارة الإفريقية، فيمكن القول إن الصين كسبت النتيجة، وكانت فرنسا هي أكبر الخاسرين.
ففي سباق النفوذ، لن يغيب عن المراقب أن الصين هي اللاعب الخارجي المسيطر، على الأقل، من ناحية اقتصادية. ومنذ بدء القرن الحادي والعشرين شهد النشاط الاقتصادي الصيني في القارة قفزات كبيرة. فمثلاً ارتفع حجم التجارة الصينية الإفريقية من 10 مليارات دولار تقريباً، في عام 2000، إلى 254 ملياراً في عام 2021. مثَّل هذا الرقم زيادة عن سابقه في عام 2020 بنسبة 35%. وهذا يجعل الصين متقدمة على أي دولة خارجية أخرى، وهي في طريقها لكي تسبق دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة، بحلول نهاية العقد الجاري. وتبلغ تجارة الاتحاد الأوروبي مع إفريقيا حالياً 300 مليار دولار.
وبرزت الصين كأكبر مقرض حكومي للقارة، إذ منحت قروضاً بقيمة 160 مليار دولار لإفريقيا بين 2000 و2020، ذهب ثلثاها إلى تمويل مشاريع البنية التحتية. ورغم الانتقادات الغربية، فإن أثر المشاريع الصينية في القارة يبقى إيجابياً عند معظم الأفارقة، خصوصاً المشاريع في المدن الإفريقية التي تتوسع بسرعة، وتعاني حاجة ماسة إلى الطرق والجسور والسكك الحديدية، فالمشاريع التي تقوم بها الصين تنجز بأسرع كثيراً من المشاريع الممولة من دول غربية.
وأظهر استطلاع نشره مؤشر «أفروباروميتر» أن السكان في 34 دولة إفريقية ينظرون بنسبة 64% إلى الصين نظرة إيجابية.
انتزعت الصين موقعها في إفريقيا لأنها حاضرة في الميدان. وزار الرئيس الصيني، شي جين بينغ، القارة عشر مرات بين عامي 2014 و2020، متجاوزاً أي زعيم آخر، أما وزير خارجيته السابق، وانغ يي، فقد زار 48 دولة إفريقية.
اللاعبون القدامى
على ملعب النفوذ والموارد في إفريقيا، هناك أيضاً اللاعبون التقليديون ومن ضمنهم القوى الاستعمارية السابقة، بريطانيا وفرنسا والبرتغال، ثم عدد من الدول الأخرى كألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة، وهؤلاء جميعاً لاعبون رئيسيون في التجارة والاستثمار. وهذه الدول تنشط بشكل خاص في المجال الأمني، وتشارك في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.
لكن الولايات المتحدة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي انتهجت نهجاً مغايراً في علاقاتها مع الدول الإفريقية التي تحتاج إلى الدعم والمساعدة الغربية. وحجمت واشنطن بسيطرتها على المؤسسات التمويلية والنقدية من تقديم القروض الإنمائية والمساعدات المالية لهذه الدول.
بل واشترطت التزام هذه الدول بالدمقرطة، والشفافية، والحوكمة، وحقوق الإنسان وحرية العبادة والتعبير، والإصلاحات، الاقتصادية والنقدية القاسية، وتحرير الاقتصاد.. إلخ، الأمر الذي أدى إلى مشكلات معيشية وارتفاع نسبة التضخم والأسعار، وانهيار العملات الوطنية والاضطراب السياسي والاجتماعي والأمني..
النفاق الغربي
كما أن الحكومات الإفريقية لا تتوانى في فضح نفاق اللاعبين الغربيين، لا سيما الولايات المتحدة. أحد الأمثلة على ذلك، مسألة الطاقة النظيفة، فالغرب الصناعي يلقي المواعظ على الدول النامية، خصوصاً في إفريقيا، كي تحد من إطلاق الكربون في الجو، رغم أن هذه الدول لا تسهم إلا بالقدر القليل في الاحترار العالمي. والتدقيق في محاسبة هذه الدول يحد من انتفاعها باكتشافات النفط والغاز، ويحكم عليها بالاستمرار تحت وطأة الفقر.
وكمثال، لا تريد الولايات المتحدة أن تستثمر في تنمية إفريقيا، وفي الوقت نفسه لا تريد أن يملأ الآخرون هذا الفراغ. فقد اقر مجلس النواب الأمريكي في مطلع عام 2022 بأغلبية كبيرة، قراراً بالتصدي للنشاطات الروسية التي وصفها ب«الضارة» في إفريقيا، وهي خطوة جاءت بغير استشارة، وبغير تفكير في الدول الإفريقية نفسها.
وينحصر اهتمام الولايات المتحدة في القارة الإفريقية في مجالي الحرب على الإرهاب والبترول.
آفاق المستقبل
تملك إفريقيا آفاقاً اقتصادية واسعة، ما يضمن تكريس وزيادة واستمرار التنافس عليها، بين القوى العالمية، التقليدية منها والصاعدة. فرغم أن الصين هي اللاعب الرئيسي، هناك فرص كثيرة متاحة في كل قطاع اقتصادي تقريباً. ومع أن التعامل مع الصين يبقى الخيار المفضل للدول الإفريقية، فإن الأفارقة يبحثون أيضاً عن بدائل، لأنهم لا يريدون تكرار تجارب ما بعد الاستقلال، ويريدون أن تكون لهم الحرية الكاملة في تقرير مصير بلادهم، واستقلالها، والتعامل معها كدول مستقلة ذات سيادة وحرية في تقرير ما تريد، بما يستصحب ثقافاتها، ومعتقداتها، وثوابتها الوطنية، وليس التعامل معها على أنها مزرعة، أو منجم، أو أرض في باطنها ثروات، من دون اعتبار للإنسان الذي يحيا فوقها.
فرنسا الخاسر الأكبر اقتصادياً وعسكرياً في غرب إفريقيا
رغم أن فرنسا المستعمرة السابقة لأكثر من 14 دولة إفريقية جنوب الصحراء، وثقت روابطها مع هذه الدول عبر اللغة والثقافة الفرانكفونية، واعتبار هذه الدول «فرنسا وراء البحار»، وتجنيد مواطني هذه الدول في الفيلق الإفريقي التابع للجيش الفرنسي، فإن تركة الاستعمار تبقى حية في أذهان الشعوب. ويزيد من معضلة النفوذ الفرنسي الباقي والمتجدد، وجود الشركات الفرنسية التي ما زالت تسيطر بشكل كبير على إفريقيا الفرانكوفونية منذ الاستقلال،وإدارة المخابرات الفرنسية لشؤون هذه الدول وانخراطها في لعبة اغتيال المعارضين الراديكاليين وتغيير أنظمة الحكم بالتدخل المباشر(إفريقيا الوسطى لإطاحة الإمبراطور صلاح الدين بوكاسا) أو تدبير انقلابات عسكرية وعددها لا يحصى،واغتيال الزعماء غير الموالين لفرنسا مثل لويس سنكارا في بوركينافاسو.
الدول الاستعمارية السابقة تستغل الموارد الطبيعية في هذه الدول بابخس الأثمان.
في الوقت الذي يقدم فيه الغرب مواعظ أخلاقية لانهائية للدول الإفريقية حول ما يجب أن تفعله ولا تفعله، تتغاضى فرنسا تماماً عن أنظمة الحكم التي تدين لها بالطاعة. فقد سكتت باريس طويلاً على الرئيس عمر بونغو الذي نصبته رئيساً على الغابون، واستمر في الحكم نصف قرن، ثم تولى ابنه علي من بعده إلى أن وقع انقلاب أطاح حكمه،فصدعت القيادة الفرنسية الرؤوس بالتنديد بالانقلاب العسكري والاعتداء على الديمقراطية(!)
خسرت فرنسا كثيراً هذا العام أمام مستعمراتها السابقة في غرب إفريقيا، وتوالت الانقلابات العسكرية على أنظمة الحكم الموالية لفرنسا تباعاً في بوركينافاسو ومالي والنيجر،بل وطرد الجنود الفرنسيين.
انشقاق «إيكواس» وصعود تحالف «ميثاق ليبتاغو-غورما»
لم تعد الرياح تهب بما تشتهي السفن الفرنسية في إفريقيا جنوب الصحراء، فبعد الانقلابات العسكرية والشعبية على أنطمة الحكم الموالية لفرنسا، فشل التجمع الإقليمي (إيكواس) في خدمة فرنسا بإعادة الأمور إلى سابق عهدها في الدول الانقلابية، بل إن الصفعة الأقوى كانت هي تكتل هذه الدول المتمردة على الطاعة الفرنسية في تأسيس تحالف دفاعي مشترك.
فقد وقّعت مالي والنيجر وبوركينا فاسو في 17 سبتمبر/أيلول الماضي «ميثاق ليبتاغو-غورما» المؤسس لتحالف دول الساحل الثلاث، والذي يهدف إلى إنشاء هيكلة للدفاع المشترك بين هذه الدول الثلاث.
وكانت مالي وبوركينا قد أعلنتا في وقت مبكّر الوقوف مع النيجر في وجه تهديدات الإيكواس، واعتبرتا أن أي اعتداء على النيجر هو اعتداء عليهما. وهذا يعني أن الحرب لن تكون ضد دولة واحدة، وإنما هي ضد مجموعة من الدول على رأسها دولة مالي التي يحتل جيشها المرتبة الثالثة في جيوش الإيكواس، وبوركينا فاسو التي يقع جيشها في المرتبة الخامسة ضمن جيوش المجموعة، ولديها الكثير من حركات الدعم المحلية التي تساند القوات المسلّحة.
وتشترك هذه الدول في كونها شهدت انقلابات متتالية، أولها في مالي 2021، وثانيها في بوركينا فاسو 2022، وثالثها انقلاب النيجر 2023، ورفعت الدول الثلاث شعار العداء مع مستعمرتها السابقة فرنسا. وقد أعلن التحالف الجديد في الساحل أن المنظمة الاقتصادية (إيكواس) تحتاج إلى الشرعية وإعادة الهيكلة.
بعد سلسلة من بيانات التهديد والوعيد، أسدل الستار على الأزمة الانقلابية في النيجر، وقبلها مالي وبوركينافاسو، وفي البيان الختامي لقمة المجموعة الاقتصادية التي انعقدت في أبوجا، تم الإعلان عن تشكيل لجنة رئاسية للتفاوض مع المجلس العسكري الحاكم في النيجر، تمهيداً لتخفيف العقوبات تدريجياً عن النيجر.
سد الفراغ
لم يكن من الغريب ان ينفتح المجال أمام الصين لسد الفراغ الذي خلّفه اللاعبون القدامي عمداً. وتتعدد مجالات استثمارات الصين الإفريقية في الصناعة، والزراعة الحديثة، والمواصلات، والاتصالات، والطاقة، والتعليم، والصحة، وتقليص الفقر.. إلخ.
وتقدمت الصين إلى القارة السوداء بتقديم قروض تنموية ميسّرة، وإدماج هذه الدول اختياراً في المبادرة الصينية للطريق، حيث استفادت أكثر من دولة إفريقية من مشروعات البنية التحتية كإنشاء الموانئ وخطوط السكة الحديدية، والطرقات. كما أن الصين ليس لديها تاريخ استعماري، وتنتهج سياسة خارجية متوازنة، ولا تتورط في النزاعات والصراعات، ولا تبيع الأسلحة.. إلخ. والصين تطرح نفسها كبديل موثوق، بأن تدخل في شراكة عادلة مع الدول التي تدخلها، وتنشئ فيها استثمارات نافعة للطرفين، من دون نهب، أو تدخل عسكري، أو استخباري فج، لاستغلال هذه الدول ومواردها، كما فعلت الدول الاستعمارية مباشرة في الماضي، وعبر شركاتها الغابرة للقارات، كما هو اليوم.
والصين توثق علاقاتها مع الدول الإفريقية عبر الحوار، لا عن طريق الإملاء، كما تفعل دول الغرب في معظم الأحيان. ونجاح الصين يستند إلى أنها تصغي إلى حاجات ورغبات الحكومات الإفريقية، وتنفذ طلباتها بما يعود بالنفع على الجانبين.