واصل سعر الدولار في السوق الموازية في مصر، صعوده إلى مستويات غير مسبوقة، إلى قرابة الـ 60 جنيهاً، مقارنة بسعره الرسمي دون الـ 31 جنيهاً، في خطٍ متوازٍ مع أزمة شح العملة الأجنبية التي تواجهها البلاد منذ شهور طويلة، وما يصاحبها من أزمات واسعة يعاني منها الاقتصاد المصري، ويرزح المواطنون تحت وطأة المعاناة الناجمة عنها، مع ارتفاع الأسعار وتصاعد الضغوط التضخمية في البلاد.
تتبنى الحكومة المصرية استراتيجية خاصة للتغلب على تلك الأزمة، التي سبق وأن وصفها رئيس مجلس الوزراء، مصطفى مدبولي، بأنها “عابرة ومؤقتة وستزول قريباً”. وتعول على برنامج الطروحات الحكومية وتوسيع قرض صندوق النقد الدولي، وغيرها من الإجراءات لعلاج أو تسكين الأزمة.
تتوزع تلك الاستراتيجية ما بين إجراءات قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل، في وقتٍ تسابق فيه الدولة الزمن من أجل استعادة مسار النمو، وبينما تتفاقم حدة التحديات التي تجابه الاقتصاد المصري، لا سيما التحديات الخارجية؛ الممثلة في الاضطرابات الجيوسياسية الواسعة، والتهديدات التي تفرض حالة من عدم اليقين على مسار الاقتصاد العالمي، وآخرها الاضطرابات الواسعة التي يشهدها البحر الأحمر، وتؤثر بشكل مباشر وواسع على حركة السفن في قناة السويس، وبما أدى لتراجع إيرادات القناة –باعتبارها مصدر رئيسي من مصادر العملة الصعبة بالبلاد- منذ بداية العام بنحو 40 بالمئة، طبقاً للبيانات التي كشف عنها رئيس هيئة قناة السويس، الفريق أسامة ربيع.
تسهم تلك التطورات في تفاقم أزمة العملة في بلدٍ تواجه فيه المالية العامة ضغوطات واسعة، ناجمة عن سلسلة من التطورات (الداخلية والخارجية)، وبما يضاعف حجم الأزمة داخل مصر التي تتحسس طريقها نحو الخلاص منها عبر رؤية الإصلاح الاقتصادي التي تسعى الدولة إلى تنفيذها بحلول 2030 واستعادة المسار.
ومع ارتفاع “دولار السوق الموازية” إلى ذلك النحو، فإن ثمة أكثر من سعر له في قطاعات مختلفة؛ ذلك أن تُجار السيارات على سبيل المثال يُقومون الدولار بسعر أعلى، وكذلك الحال بالنسبة لسوق الذهب والعقارات، في ترجمة عملية لحجم الفجوة.
متغيرات اقتصادية
يقول مدير مركز مصر للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية، الدكتور مصطفى أبوزيد، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن المتغيرات الاقتصادية الحالية التي يشهدها العالم تضغط بقوة على الاقتصاد المصري، وقد كان من بين تأثيرات ذلك “نقص السيولة الدولارية لدى البنك المركزي”، وهذا ما سمح بنشاط السوق الموازية، وبات الدولار “سلعة” وليس وسيلة، مشيراً إلى تلك المعطيات قد دفعت إلى:
- اتجاه معظم الأفراد إلى الاستثمار فى الدولار كمخزن للقيمة.
- عدم توافر الدولار فى الجهاز المصرفي، بما أدى إلى اتجاه معظم المستوردين لتلبية احتياجاتهم من السوق الموازية، ما أدى إلى اشتغال المضاربة على الدولار (وبالتالي وصوله إلى المستويات الحالية).
ويتابع أبوزيد: كل هذه المقدمات نتج عنها أن يكون تقريباً لكل سلعة ومنتج سعر دولار مقوم به، ما أسهم في ارتفاع معدل التضخم بشكل كبير خلال الأشهر الماضية، مرجعاً السبب في ذلك أيضاً إلى التداعيات المباشرة من حرب غزة وكذلك الاضطرابات الحادثة في البحر الأحمر، واللذان أثرا بشكل سلبي على إيرادات قطاع السياحة وقناة السويس.
ويشير مدير مركز مصر للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية، إلى أنه مع اتساع نشاط السوق الموازية امتد هذا الأثر إلى تحويلات المصريين بالخارج، فقد انخفضت التحويلات إلى حوالي 22 مليار دولار العام المالي الماضى.
- في السنة المالية 2021-2022، سجلت تحويلات المصريين في الخارج ارتفاعاً “طفيفاً” وصولاً إلى 31.9 مليار دولار، مقابل 31.4 مليار دولار في العام المالي 2020-2021، طبقاً لبيانات البنك المركزي المصري.
- وفي العام 2022 شهدت تحويلات المصريين العاملين بالخارج، تراجعاً بنحو 10 بالمئة لتسجل نحو 28.3 مليار دولار. وفي السنة المالية 2022-2023 سجلت التحويلات ما قيمته 23.3 مليار دولار.
وبناء على ماسبق “لم يصبح الدولار متوفراً بالقدر اللازم لتلبية الاحتياجات من قبل الجهاز المصرفي، لتكون النتيجة الطبيعية وجود تسعير مختلف على حسب كل سلعة أو قطاع منتج لتلك السلعة يحدده وفقا لمدى قدرته على تلبية الدولار من السوق الموازية”، وفق أبوزيد.
ويستطرد: “نجد فى صناعة الذهب يتم تقويم الدولار فى حدود 55 جنيهاً للدولار والعقارات 53 جنيهاً للدولار والأغذية في متوسط 45 جنيهاً للدولار، وتلك الأرقام تتسم بعدم الثبات صعوداً أو هبوطاً”.
وسجل الرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين للحضر، الذي أعلنه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في 10 يناير 2024، معدلاً شهرياً بلغ 1.4% في ديسمبر 2023 مقابل معدلاً بلغ 2.1% في ذات الشهر من العام السابق ومعدلاً شهرياً بلغ 1.3% في نوفمبر2023. كما سجل المعدل السنوي للتضخم العام 33.7% في ديسمبر 2023 مقابل 34.6% في نوفمبر 2023.
سجل الرقم القياسي الأساسي لأسعار المستهلكين، المعد من قبل البنك المركزي، معدلاً شهرياً بلغ 1.3% في ديسمبر 2023 مقابل معدلاً شهرياً بلغ 2.6% في ذات الشهر من العام السابق ومعدلاً شهرياً بلغ 1.0% في نوفمبر 2023. كما سجل المعدل السنوي للتضخم الأساسي 34.2% في ديسمبر 2023 مقابل 35.9% في نوفمبر 2023.
التضخم المستورد
من جانبه، يوضح خبير أسواق المال، المحلل الاقتصادي المصري، حسام الغايش، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أنه مع تزايد الضغوط التضخمية في مصر -النابعة في الأساس إلى ما يطلق عليه التضخم المستورد نتيجة اعتماد مصر على استيراد معظم احتياجاتها الأساسية- كانت النتيجة الطبيعية اتساع الفرق بين ما تصدره مصر وما تستورده. مع وجود فجوة دولارية بقيمة 30 مليار دولار.
ويضيف: “إذا ما أضفنا إلى ذلك تراجع تحويلات المصريين بالخارج، وهذا نتيجة الفجوة الكبيرة بين السعر الرسمي بالجهاز المصرفي وسعر السوق الموازية.. والآن نلاحظ أن سعر الصرف أصبح له أكثر من سوق.. هناك سعر رسمي الدولار مقوماً فيه دون الـ 31 جنيهاً، والسوق السوداء الدولار مقوماً فيها بأعلى من 58 جنيهاً، والأسعار بعمليات تداول شهادات إيداع بحوال 61 جنيهاً”.
ويوضح أن “تجار السيارات والذهب لهم أسعار أخرى نتيجة احتساب كامل التكلفة مقومة بسعر الدولار الذي يوفرونه من السوق الموازية”.
ويتابع الغايش: “لمواجهة حالة التخبط هذه يتعين أن يتم تحقيق تقارب في الأسعار”، مشددًا على ضرورة خفض هذه الفجوة الكبيرة إما برفع السعر الرسمي أو القضاء علي السوق الموازية. كما يؤكد أنه في ظل أسعار الفائدة الحالية سيكون الأمر صعبًا للغاية، حيث أسعار الفائدة الحالية غير مغرية للقضاء علي ظاهرة الدولرة.
وتعاني مصر من فجوة دولارية تصل قيمتها إلى 30 مليار دولار، وهي بذلك تحتاج إلى استثمارات بما يصل إلى 100 مليار دولار سنوياً حتى 2028 من أجل التعامل مع تلك الفجوة، حسبما أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في شهر فبراير الماضي.
العرض والطلب
وبدورها، تشرح خبيرة أسواق المال، عضو مجلس إدارة شركة الحرية للتداول، حنان رمسيس، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أسباب وجود أكثر من سعر في الدولار؛ مشيرة إلى أن الأخير ليس ثابتًا أمام الجنيه بل يتحرك وفقًا لقوى العرض والطلب، ويأتي ذلك في ظل إلتزامات مصر نحو صندوق النقد الدولي ، والتي بدورها تحتاج إلى حصيلة دولارية ضخمة وفي المقابل هناك انخفاض في المدخول الدولار للدولة المصرية.
وتشرح “رمسيس” أن انخفاض إيرادات مصر السنوية من الدولار يرجع إلى:
- انخفاض إيرادات قناة السويس (سجلت منذ بداية العام تراجعاً بأكثر من 40 بالمئة على وقع الاضطرابات في البحر الأحمر).
- انخفاض تحويلات المصريين في الخارج بنحو 30 بالمئة (خلال العام المالي 2022-2023).
- انخفاض عوائد السياحة بسبب الأزمة الجيوسياسية في المنطقة.
وتتابع: “نتيجة لكل العوامل السابقة هناك فجوة تمويلية في مصر (تقدر بـ 30 مليار دولار)”، موضحة أن هذه الفجوة تأتي بالتزامن مع التزامات بسداد بعض الديون المقدرة بأكثر من 28 مليار دولار خلال شهري فبراير ومارس المقبلين، وفي ظل هذا الاحتياج المتزايد للدولار ترتفع معدلات المضاربة بالسوق الموازية وتكون النتيجة سعر الدولار حاليًا.
وتشير إلى أن هناك أكثر من “دولار”، فـ “دولا الذهب” يتحكم فيه تجار هذا المعدن النفيس، متعللين في رفع قيمته بسبب الشح في المعروض ولجوئه إلى الاستيراد من الخارج مع ما يتبع ذلك من ضرائب وجمارك ورسوم إدارية وقد يصل سعر الدولار بهذه السوق إلى 60 جنيهاً للدولار. علاوة على “دولار السيارات”، وهذا مختلف، ويُقوَّم طبقًا لرؤية تاجر السيارات الذي يضع في اعتباره تكلفة الاستيراد من الخارج، حيث يحمل هذه التكلفة للمستهلك ويقدر الدولار في سوق السيارات بـ 64 جنيهاً للدولار.
كذلك “دولار العقارات”، وهنا يقومه المطور العقاري بطريقتين، إما البيع بالدولار أو بالجنيه المصري لكن بسعر مرتفع بسبب ارتفاع مدخلات العملة العقارية من حديد وأسمنت وغيرها من المواد
وتؤكد رمسيس أن السبيل الوحيد للخروج من هذه الفجوة التمويلية، يتمثل في عدد من العوامل، منها:
- الإنتاج والتصدير.
- الدخول في تكتلات اقتصادية مع دول لا تتعامل بالدولار سواء كانت عملات آسيوية أو غيرها.
- مبادلة الديون بأصول مصرية.