أثارت الهجرات إلى الدول الغنية الكثير من الجدل في السياسة، لكن دوماً لكل قصة وجه آخر، فعدد من رافضي الهجرة لا يدركون القيمة الفعلية لها وتأثيرها في الدول المستضيفة. يناقش هذا الكتاب أكثر القضايا السياسية إثارة للانقسام، ويوضح كيف يمكننا تجاوز هذا الجدل الشديد وجعل سياسات الهجرة تعمل بشكل أفضل للجميع.
ينسف المؤلف هاين دي هاس الروايات التي ينشرها السياسيون وأصحاب المصالح ووسائل الإعلام حول الهجرة، ويكشف عن أنه لم تصل الهجرة العالمية إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق، ولن يؤدي تغير المناخ إلى هجرة جماعية، وأن الهجرة تفيد في المقام الأول الأثرياء، وليس العمال، ومن المفارقة أن القيود الحدودية أدت إلى المزيد من الهجرة، ولا يُظهر دي هاس الهجرة بصفتها مشكلة يجب حلها، ولا حلاً لمشكلة؛ بل يتناولها كما هي.
يأتي هذا الكتاب بناء على ثلاثة عقود من الأبحاث الأولية التي أجراها المؤلف حول الهجرة في بلدان مختلفة حول العالم، ومن خلال مشاريع بحثية رائدة والعمل مع فرق في جامعة أكسفورد وجامعة أمستردام. يلخص فيه الأفكار حول الهجرة التي انبثقت من الأدبيات البحثية في مجال دراسات الهجرة.
يأتي الكتاب في ثلاثة أقسام. الأول يستكشف الاتجاهات في أنماط الهجرة العالمية. وينظر إلى التغييرات الأخيرة في حجم واتجاه الهجرة والعوامل التي تسببت في مثل هذه التغييرات. كما أنه يبدد الادعاءات الشائعة والأساطير الشعبية حول أسباب الهجرة، ويظهر العوامل التي تفسر حقاً التغيرات الأخيرة في أنماط الهجرة العالمية.
ويستكشف القسم الثاني آثار الهجرة على مجتمعات المقصد والمجتمعات الأصلية. ويحلل الأسباب التي دفعت معظم مجموعات المهاجرين إلى الاندماج بسلاسة إلى حد ما، في حين عانت مجموعات أخرى من التهميش والفصل المطول. كما أنه يدقق بشكل نقدي في مختلف الادعاءات والادعاءات المضادة (المبالغ فيها) حول الآثار الاجتماعية والثقافية والاقتصادية السلبية والإيجابية للهجرة، من أجل التوصل إلى موقف أكثر توازناً.
ويكشف القسم الثالث والأخير كيف أن الأفكار الشعبية المختلفة التي يدافع عنها السياسيون ومجموعات المصالح والمنظمات الدولية هي جزء من استراتيجيات متعمدة لتشويه الحقيقة بشأن الهجرة. وتشمل هذه الفجوة الكبيرة بين حديث الساسة الصارم عن الهجرة وممارساتهم السياسية الأكثر تساهلاً، والفكرة البديهية، لكن المضللة بأن القيود المفروضة على الهجرة تقلل من الهجرة. كما يفكك هذا القسم العديد من المقولات الشائعة التي لا أساس لها من الصحة مثل أن الرأي العام قد انقلب ضد الهجرة، وأن التهريب هو السبب الرئيسي للهجرة غير الشرعية، وأن الاتجار بالبشر هو شكل من أشكال العبودية الحديثة، وأن تغير المناخ سيؤدي إلى هجرة جماعية.
يقول المؤلف: «لا ينعكس الاستقطاب السياسي في المعسكرات المؤيدة والمناهضة للهجرة في الطريقة التي يفكر بها ويشعر بها معظم الناس تجاه الهجرة. ففي حين أن العديد من الناس لديهم مخاوف مشروعة بشأن الهجرة والاندماج والفصل، إلا أن معظمهم يدركون أيضاً أن الهجرة أمر لا مفر منه إلى حد ما، وأن العمال المهاجرين يؤدون أدواراً أساسية، وأن المهاجرين واللاجئين يستحقون الحقوق الأساسية ويفهمون المعضلات التي يولدها ذلك. وقبل كل شيء، يبين هذا الكتاب أنه لا توجد حلول سهلة لمشاكل الهجرة المعقدة. ومع ذلك، بمجرد أن نتخلص من الذعر والخوف غير الضروريين، والذي أصاب المناقشات بالشلل لفترة طويلة جداً، فإننا نخلق مساحة لإجراء نقاش مستنير حول مزايا وعيوب الهجرة، وحول كيفية تصميم سياسات أفضل وأكثر فاعلية، بحيث يمكن تجنب أخطاء الماضي والعمل بشكل أفضل لجميع المجتمعات.
بناء رؤية جديدة للهجرة
يبدو أننا نعيش في زمن هجرة جماعية غير مسبوقة، ويبدو أن صور «قوافل» المهاجرين من أمريكا الوسطى التي تحاول الوصول إلى الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة، والأفارقة المحشورين في قوارب غير صالحة للإبحار وهم يحاولون يائسين عبور البحر الأبيض المتوسط، والمهاجرين غير الشرعيين الذين يعبرون القناة إلى بريطانيا، كلها تؤكد المخاوف من أن الهجرة تخرج عن نطاق السيطرة، وأن المزيج السام من الفقر واللامساواة والعنف والقمع وتغير المناخ والنمو السكاني المتفشي يدفع أعداداً متزايدة من الأفارقة والآسيويين والأمريكيين اللاتينيين إلى الشروع في رحلات يائسة بشكل متزايد للوصول إلى شواطئ الغرب الغني.
يعلق المؤلف على ذلك: «لقد قيل لنا إنه من خلال تقديم وعود كاذبة بشأن الوظائف والحياة الرغيدة في الغرب، يستغل المتاجرون بالبشر والمهربون ضعف المهاجرين من خلال استدراجهم إلى رحلات شديدة الخطورة، ليجد هؤلاء المهاجرين أنفسهم مستغلين بشكل فظيع؛ هذا إذا نجوا من الرحلة أساساً. وأدت المخاوف من خروج الهجرة عن نطاق السيطرة إلى تفاقم الشكوك حول قدرة المهاجرين واستعدادهم للتكيف مع مجتمعات وثقافات المقصد. إن صور مجتمعات المهاجرين التي تعيش «حياة موازية» في أحياء معزولة وفقيرة وموبوءة بالجريمة قد رسخت اعتقاداً عاماً بأن اندماج المهاجرين غالباً ما يجابه بالفشل. وقد اندمج كل هذا في مفهوم «أزمة الهجرة» التي تتطلب اتخاذ تدابير مضادة جذرية مثل فرض إنفاذ أقوى على الحدود، وخطط إعادة توطين اللاجئين، ومساعدات التنمية للدول الفقيرة. ولا يتفق الجميع مع هذه الآراء. فعلى الجانب الآخر من النقاش، هناك سياسيون واقتصاديون وناشطون يقولون لنا إن الهجرة ليست مشكلة؛ بل هي حل لمشاكل ملحة مثل نقص العمالة وشيخوخة السكان. ويجادلون بأننا في حاجة ماسة إلى المهاجرين لتعزيز النمو والابتكار وتجديد شباب مجتمعاتنا. ومن هذا المنظور، فإن التنوع الذي تجلبه الهجرة لا يشكل تهديداً، بل هو أمر جيد، لأنه يشعل شرارة الإبداع والتجديد الثقافي. ويزعمون أيضاً أن الهجرة تفيد النمو في بلدان الأصل بسبب المبالغ الضخمة من الأموال التي يحولها المهاجرون إلى أوطانهم، وبسبب الدور الحيوي للمغتربين في تحفيز التجارة وتعزيز ريادة الأعمال في بلدان الأصل. ويخبروننا أننا نحتاج إلى عمال من كافة مستويات المهارة، وأننا لابد أن نفتح حدودنا من أجل سد النقص في العمالة».
لا يقدم هذا الكتاب وجهة نظر أيديولوجية للهجرة باعتبارها مشكلة يجب حلها أو حلاً للمشاكل، لكنه يحاول فهم طبيعة الهجرة وأسبابها من وجهة نظر علمية. وهذه وجهة نظر شاملة، بالضرورة، تحاول فهم الهجرة باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من عمليات التغيير الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الأوسع التي تؤثر في مجتمعاتنا وعالمنا، وبالتالي هي جزء لا يتجزأ منها، وأنها تفيد بعض الناس أكثر من غيرهم. لها جوانب سلبية بالنسبة للبعض، لكن لا يمكن التفكير فيها أو تمني التخلص منها.
يهدف هذا الكتاب أيضاً إلى الإجابة عن أكبر الأسئلة التي لم يتم الإجابة عنها بشأن الهجرة. فعلى سبيل المثال، لماذا فشل الساسة في مختلف أنحاء الغرب في الحد من الهجرة على الرغم من الاستثمارات الضخمة لأموال دافعي الضرائب في إنفاذ القانون على الحدود؟ لماذا تستمر الهجرة غير الشرعية على الرغم من وعود السياسيين بتدمير نموذج أعمال المهربين؟ لماذا كانت الحكومات غير فعالة إلى هذا الحد في منع استغلال العمال المهاجرين، على الرغم من وعودها المتكررة باتخاذ إجراءات صارمة ضد مثل هذه الانتهاكات؟ فكيف أفلت الساسة من بيع نفس الوعود الكاذبة أو الأكاذيب الصريحة بشأن الهجرة؟ والأهم من ذلك، ما هي السياسات التي يمكننا أن نضعها من أجل التعامل بشكل أكثر فاعلية مع الهجرة؟
يرى المؤلف أن الأمر لا يقتصر على نشر «الحقائق» حول الهجرة فحسب؛ بل يجب أيضاً أن نغير الطريقة التي نتحدث بها عن هذا الموضوع بالكامل. وذلك لأن حقائق الهجرة لا تتحدث عن نفسها؛ إنها منطقية فقط كجزء من قصة أوسع حول الهجرة وما تعنيه للناس. ففي نهاية المطاف، تعتبر الهجرة ظاهرة شديدة التنوع؛ بحيث لا يمكن وضعها في مربع بسيط مقسم بين «جيد» أو«سيئ». تميل مثل هذه الروايات الثنائية إلى خلق صورة كاريكاتورية للمهاجرين (كضحايا أو أبطال أو أشرار، اعتماداً على القصة) التي تتحدى الواقع الأكثر تعقيداً وغالباً ما تحرمهم من إنسانيتهم. وبشكل أكثر عموماً، فإن صياغة المناقشات المتعلقة بالهجرة بمصطلحات مؤيدة ومعارضة يشبه التشكيك أو التفكير بعيداً عن جزء أساسي من هويتنا، كبشر وكمجتمعات، ومن كنا دائماً. فالهجرة هي أمر موجود في كل العصور، وهي قديمة قدم البشرية. لقد تحركت الشعوب دائماً. وبالتالي، فإن مناقشة الهجرة بمصطلحات مؤيدة ومعارضة يحول دون فهم طبيعة الهجرة وأسبابها وعواقبها باعتبارها عملية عادية.
مشاعر متناقضة بشأن الهجرة
في الحقيقة، لدى معظم الناس مشاعر متناقضة بشأن الهجرة. غالباً ما تكون هناك فجوة كبيرة بين كيفية تفكير الناس في الهجرة بشكل عام وكيفية تعاملهم مع المهاجرين واللاجئين الذين يلتقون بهم في حياتهم الشخصية. يمكن أن يشعر الناس بالقلق بشأن الهجرة ويؤيدون فرض إنفاذ أكثر صرامة على الحدود، لكنهم في الوقت نفسه يرون أنه من واجبهم «حب جارك» مساعدة اللاجئين والمهاجرين الأفراد الذين يعيشون في مجتمعهم. على الرغم من أن الهجرة ليست ضخمة وتحويلية على المستوى الوطني كما نعتقد في كثير من الأحيان، فإن آثار الهجرة يمكن أن تغير الحياة تماماً – وفي بعض الأحيان تصبح مدمرة – على المستوى المحلي، ومع ذلك، فإن المناقشات السياسية، مع استقطابها المتزايد بين وجهات النظر المؤيدة والمناهضة للهجرة، لا تعكس مثل هذا الغموض. إن ما نفقده عادةً هو الفوارق الدقيقة، والفروق الدقيقة هي ما نحتاج إليه بشدة من أجل إبعاد حرارة المناقشات حول الهجرة والقضايا ذات الصلة مثل التنوع والهوية والعنصرية، والتي نمت بشكل متزايد.
وفي الوقت نفسه، فإن فشل الحكومات في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأوروبا القارية في معالجة وضع العمال المهاجرين المهمشين – غير المسجلين في كثير من الأحيان – يأتي مصحوباً بخطر جسيم يتمثل في تشكيل طبقة دنيا جديدة. وكما يبين هذا الكتاب، فإن الساسة لم يفشلوا في الوفاء بوعودهم الطويلة الأمد والمتكررة إلى ما لا نهاية فحسب؛ بل إن سياساتهم أدت في كثير من النواحي إلى جعل الأمور أسوأ. ولم تقصر سياسات الهجرة والاندماج عن تحقيق أهدافها فحسب؛ بل كانت أيضاً هدّامة، لأنها لا تستند إلى فهم علمي لكيفية عمل الهجرة حقاً. وبعبارة أخرى، فإن هذه السياسات جزء من المشكلة. ولذلك فإن هذا الكتاب يركز على أن مثل هذه السياسات محكوم عليها بالفشل، لأنها في الواقع من بين الأسباب ذاتها للمشاكل التي تدعي أنها تحلها. لماذا إذن نستمر في إعادة تدوير نفس السياسات التي فشلت بشكل صارخ في الماضي؟ لا توجد إجابة بسيطة عن هذا السؤال. ويرجع ذلك جزئياً إلى تجاهل السياسيين وغيرهم من صناع القرار للأدلة العلمية حول اتجاهات الهجرة وأسبابها وتأثيراتها. ولكن هذا لا يعكس في أغلبه نقصاً في المعلومات أو البراءة؛ بل يعكس رفضاً واعياً للاعتراف بالحقائق. ويعمل الساسة (من اليسار إلى اليمين، ومن المحافظين إلى الليبراليين)، وجماعات المصالح والمنظمات الدولية على إدامة سلسلة من الروايات كجزء من استراتيجيات متعمدة لتشويه الحقيقة بشأن الهجرة. وتشكل مثل هذه الدعاية جزءاً من الجهود النشطة الرامية إلى زرع الخوف غير المبرر والمعلومات المضللة، لأن التعرض للحقيقة لن يفضح فشل السياسيين في معالجة المشاكل فحسب؛ بل وأيضاً تواطؤهم في خلقها وتفاقمها. وبهذا المعنى، وقع السياسيون في فخ أكاذيبهم.