لا يزال مسلسل معاناة الاقتصاد الأوروبي مستمرًا، في ظل تركبية معقدة من الأسباب التي نجم عنها خفوت نجم ودور أوروبا اقتصاديًا مقابل اقتصادات واعدة كالولايات المتحدة والصين وأيضًا الهند التي تخطو خطوات ثابتة في هذا الاتجاه.
خفضت المفوضية الأوروبية، الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي، توقعاتها للنمو لعام 2024، مشيرة إلى أن الاقتصاد “فقد الزخم” في عام 2023 حيث ألقى التضخم بظلاله على الإنفاق الاستهلاكي، وأعاق ارتفاع أسعار الفائدة في البنك المركزي الاقتراض للمشتريات والاستثمار.
أسباب التراجع
وقالت المفوضية، في تقرير سابق لها، حول توقعاتها الاقتصادية، التي أعادت فيها صياغة توقعاتها السابقة، إنها خفضت التوقعات لهذا العام إلى 2 بالمئة من 1.3 بالمئة للدول العشرين التي تستخدم عملة اليورو، مرجعة توقعات النمو المتواضعة هذه إلى الحرب في أوكرانيا، والحرب في الشرق الأوسط بين إسرائيل وحماس.
وحتى الآن لم يؤثر الصراع على إمدادات النفط من منتجي الشرق الأوسط مثل السعودية والإمارات، لكن خطر انقطاع إمدادات الطاقة قد يكون له تأثير واسع على الأسعار والنمو العالمي.
وقالت المفوضية الأوروبية إنه بالرغم من ضعف النمو، تظل البطالة قريبة من مستويات منخفضة قياسية، ويتوقع أن يسهم النمو في خفض التضخم ما يزيد من إنفاق الأفراد. وفي الوقت نفسه، انخفض العجز الحكومي والديون بعد موجة من الإنفاق التحفيزي خلال جائحة كوفيد-19.
الشيخوخة والعمالة
يفسر مدير المركز العالمي للدراسات التنموية في المملكة المتحدة، صادق الركابي، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” هذا التراجع قائلًا إن الاقتصاد الأوروبي من مشكلات تضعف من قدراته الإنتاجية متمثلة في:
- ارتفاع معدل الشيخوخة.
- تناقص عدد من هم في سن العمل ما ينعكس سلباً على اعداد العمالة الماهرة.
وأضاف الركابي أن ذلك يدفع الشركات الأوروبية لرفع معدلات أجور العمال المهرة للاحتفاظ بهم فترات أطول ما ينتج عنه صعوبة توظيف غيرهم.
وأكمل الركابي أن هناك عوامل أخرى تسبب في تراجع دور أوروبا اقتصاديًا وهي:
- عدم نجاح أوروبا في كسب ثقة مواطنيها فيما يتعلق بالاستهلاك، خصوصاً مع ارتفاع تكاليف الطاقة والتضخم، حيث اعتمدت معظم الشركات الأوروبية على الطلب الخارجي الذي تراجع خلال العقد الماضي مع تضاؤل حصة الشركات الأوروبية في السوق العالمية.
- انعكست التوترات السياسية داخل الاتحاد الأوروبي والمناطق القريبة منه في تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين الذين حملوا معهم أعباء اقتصادية واجتماعية كبيرة رغم مساهمات الكثيرين منهم إلى حد ما في دعم سوق العمل.
- تراجع التركيز على التكنولوجيا حيث أسهم ذلك في تراجع القطاع الصناعي وتأخره عن مجارات نظرائه في الأسواق الصينية والأميركية.
- كما أضعفت القواعد التنظيمية التي وضعها الاتحاد الأوروبي و التي تحولت إلى قيود في منع الإصلاحات و جعلتها رهينة للبيروقراطية والروتين فعلي سبيل المثال إصلاح النظام الضريبي وآلية اتخاذ القرار المعقدة عطلت الكثير من القرارات التي كان يجب أن تتخذ بسرعة على غرار ما يحدث في الولايات المتحدة على سبيل المثال.
المخاطر السياسية
وذكر الركابي أنه مع تفاقم المخاطر السياسية عالمياً وتراجع الطلب على المنتجات الأوروبية عمدت دول الاتحاد الأوروبي لاتباع سياسات تقشف صارمة أضعفت عاملين مهمين:
- الأول: البحث و التطوير الذي تراجع مقارنة مع كل من الصين و الولايات المتحدة.
- الثاني: تراجع حوافز الاستثمار خصوصاً في المشاريع الكبيرة و الاقتصار على المبادرات الضيقة والمحدودة.
وواصل الركابي أن القادة الأوروبيين أدركوا أهمية تلافي أخطاء الماضي والتحرك نحو تحقيق مرونة أكبر في القواعد التنظيمية التي تحكم الاتحاد الأوروبي مع محاولات دمج المهاجرين والاستفادة من الطاقات الشابة والعلمية الوافدة في تطوير سوق العمل، بالإضافة إلى أهمية تحفيز الاستثمار وتشجيع حركة رؤوس الأموال داخل دول الاتحاد الأوروبي للمساهمة في دعم القطاعات الاقتصادية المختلفة وخلق أسواق ومنتجات جديدة ترفع من معدلات النمو و تعزز من قدرات الشركات الأوروبية على المنافسة.
اقتصادات واعدة
من جانبه، قال الخبير الاقتصاد الدولي، محمد يسلم الفيلالي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “في العام 1960 شكلت البلدان التي تشكل الاتحاد الأوروبي اليوم ما يناهز ثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي، أما اليوم فتشير التوقعات إلى انخفاض الوزن إلى 1/10 فقط بحلول نهاية القرن الحالي”.
وأضاف يسلم أن نسبة حصة الاقتصاد الأوروبي من الاقتصاد العالمي آخذة في الانخفاض؛فلقد تراجع الاقتصاد الأوروبي من 90 بالمئة من حجم الاقتصاد الأميركي في العام 2008 إلى حوالي 65 بالمئة اليوم، كما تجاوز هذه الحصة اقتصاد الصين، ومن المؤكد أن تتجاوزها قريباً الهند إذا استمرت على وتيرة النمو التي تشهدها، والتي من المتوقع أن تستمر بالفترات القادمة “حوالي ستة بالمئة على مدار السنوات الثلاثة المقبلة”، إضافة إلى فقدان اليورو ما يقرب من 32 بالمئة من قيمته على مدى العقد الأخير.
وأوضح يسلم يمكن أن يعزى هذا التراجع النسبي للاقتصاد الأوروبي إلى:
- مزيج من التحولات الديموغرافية والتحولات الاقتصادية التي أثرت على تشكيلة الناتج المحلي العالمي.
- التحديات الجيواقتصادية التي أثرت و تؤثر على عوامل الإنتاج في أوروبا.
تدابير أوروبية
وفي هذا السياق، وضمن مساع لاستعادة الزخم، نشرت المفوضية الأوروبية الشهر الماضي أحدث حزمة من تدابير الأمن الاقتصادي، وهي التدابير التي وصفها تقرير نشرته صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، بأنها “خطوات في الاتجاه الصحيح”.
تضمنت التدابير فحص الاستثمارات الواردة والصادرة بشكل أفضل، والسيطرة على الصادرات الحساسة، وزيادة تمويل البحوث في مجال التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج.
وفي أحدث تقاريرها الرسمية حول الخطوات التالية للأمن الاقتصادي، تقدمت المفوضية الأوروبية باقتراحات أساسية بشأن تلك التدابير “ولكن في حين أن أدوات السيطرة هذه قادرة على معالجة مخاطر محددة، فإن توقعات الاتحاد الأوروبي للأمن الاقتصادي تظل دفاعية بشكل مفرط ــ ولا تفعل إلا أقل القليل لمعالجة الهدف الأوسع المتمثل في تأمين موقف أوروبا التكنولوجي والصناعي”، وفق المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية.
وبحسب المجلس، فإن تعديل ضوابط الاستثمار والتصدير لن يكون كافيا. وسوف تتدهور حظوظ الأمن الاقتصادي في أوروبا إذا لم تربط هذه التدابير باستراتيجية مالية جريئة تعمل على تعزيز القدرات التكنولوجية والصناعية للقارة.
#أوروبا
#شؤون أوروبية