د. أحمد سيد أحمد*
يحمل قرار تعليق عدد من الدول الغربية، وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا وألمانيا وأستراليا والسويد واليابان، تمويلها لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، العديد من التداعيات الخطرة، ويفاقم من معاناة الفلسطينيين، كما أنه يعكس تسييس الاعتبارات الإنسانية وازدواجية المواقف الغربية.
بررت الدول الغربية تعليقها لتمويل «الأونروا» بما قالته حكومة الحرب الإسرائيلية، تورط عدد من موظفي «الأونروا» الفلسطينيين، (12 شخصاً)، في عملية طوفان الأقصى، وأن «الأونروا» تدعم حماس والإرهاب. ولا شك في أن تبنّي الدول الغربية للموقف الإسرائيلي، واتخاذ قرارات متسرعة بوقف تمويل «الأونروا» يعكس هذا التسييس للإنسانية، فمن ناحية، فإن الاتهامات الإسرائيلية لم يثبت صحتها، كما أن «الأونروا» قامت بفصل عدد منهم، وتقوم بالتحقيق في المسألة، وحتى لو افترضنا جدلاً ضلوع بعض الأشخاص، والذي لم تثبت صحته، فهذا لا يبرر تبنّي سياسة العقاب الجماعي ضد الشعب الفلسطيني، بخاصة أن هناك 13 ألف موظف فلسطيني يعملون لدى «الأونروا»، وأكثر من 50 ألف فلسطيني يتعاونون معها في أعمالها المختلفة، سواء في قطاع غزة، أو الضفة الغربية، والقدس، أو في الدول العربية الأخرى، مثل لبنان وسوريا والأردن، لإغاثة أكثر من 6 ملايين لاجئ ونازح فلسطيني.
وبالتالي، فإن توقيت القرار يعكس الازدواجية الغربية، فالسبب الحقيقي هو التضامن مع إسرائيل، بخاصة بعد قرارات محكمة العدل الدولية الأخيرة التي طالبت إسرائيل باتخاذ كل الإجراءات لمنع ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، في قطاع غزة، ومطالبتها بإدخال المساعدات الإنسانية، وبالتالي، جاءت قرارات الدول الغربية لدعم إسرائيل، ومعاقبة الشعب الفلسطيني، وتحدّي قرارات محكمة العدل الدولية، وبدلاً من أن تقوم هذه الدول بالضغط على حكومة الحرب الإسرائيلية، ومطالبتها بتنفيذ قرارات محكمة العدل، وتجنب كل السياسات والإجراءات التي تقوم بها ضد الفلسطينيين، وعلى رأسها سياسة التدمير الكامل للبنية الأساسية، والحصار التام، ومنع الغذاء والكهرباء والدواء والمياه عن الفلسطينيين، ومنع دخول المساعدات الإنسانية، وكلها ترقى لجرائم حرب تستوجب المحاسبة والعقاب الدولي، بخاصة أن محكمة العدل لم تصدر حكمها النهائي في القضية، بدلاً من ذلك سارعت الدول الغربية إلى عقاب الشعب الفلسطيني، ووقف تمويل «الأونروا».
تداعيات خطرة
لا شك في أن قرار الدول الغربية تعليق تمويلها «للأونروا» يحمل تداعيات خطرة على الشعب الفلسطيني، بخاصة في قطاع غزة، فميزانية «الأونروا» السنوية تقدر ب1,1 مليار دولار، تساهم الدول الغربية فيها بالنسبة الأكبر، حيث تساهم أمريكا ب300 مليون دولار، ويساهم الاتحاد الأوروبي ب550 مليون دولار، وهناك مساهمات فردية من جانب الدول الأوروبية، مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا، وكذلك اليابان، وأستراليا، وغيرها. وهذه الميزانية لا تكفي أساساً الاحتياجات المتزايدة للشعب الفلسطيني، خاصة بعد العدوان الإسرائيلي على غزة والذي أدى إلى تداعيات إنسانية خطرة، مع تطبيق إسرائيل استراتيجية الجحيم، وتحويل غزة إلى مكان غير صالح للعيش، عبر القصف الشامل، والتدمير الكامل، لتنفيذ مخطط التهجير القسري للفلسطينيين، وتصفية القضية الفلسطينية، ولذلك، فإن «الأونروا» تحتاج إلى زيادة ميزانيتها لمواجهة هذه التحديات المختلفة في قطاع غزة، مع نزوح 90% من سكان القطاع، الذين يتركزون الآن في محافظتي رفح ودير البلح، وتتفاقم معاناتهم كل يوم. وهناك تحذيرات من الأمم المتحدة من أن الفلسطينيين على شفا وقوع كارثة إنسانية ومجاعة، مع نقص الغذاء والدواء، وتفشي الأمراض، حيث يعيشون في ظروف قاسية في المخيمات التي تغرقها الأمطار. وفي ظل هذه الأجواء، فإن الفلسطينيين يحتاجون إلى المساعدات الإنسانية وزيادتها في ظل تعنت إسرائيل في دخول هذه المساعدات. كما أن مسؤولي «الأونروا» أكدوا أن الوكالة لن تستطيع تقديم خدماتها مع نهاية شهر فبراير/ شباط الجاري، ما يمثل جرس إنذار خطر للمجتمع الدولي، ويعرّض حياة أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة للموت من الجوع والمرض، إضافة إلى موتهم بسبب القصف الإسرائيلي المتواصل، وتدمير البنية الأساسية.
و«الأونروا» هي الوكالة الوحيدة التابعة للأمم المتحدة التي تعمل في قطاع غزة، على مساعدة الفلسطينيين، منذ إنشائها في 1949، بخاصة أنها فتحت مدارسها ومقراتها للفلسطينيين النازحين من شمال ووسط قطاع غزة، ويعيشون ظروفاً صعبة وقاسية، في ظل نقص الخدمات الأساسية، من مياه نظيفة، وصرف صحي، وانهيار القطاع الصحي بعد أن استهدفت إسرائيل المستشفيات، العامة والخاصة، وأصبحت اغلب مستشفيات القطاع خارج الخدمة بعد أن قصفتها إسرائيل بحجة وجود أنفاق أسفلها، وهو ما لم يثبت صحته.
وبالتالي، أصبح الغرب بعد موقفه السياسي من «الأونروا» متواطئاً في جريمة تفاقم المعاناة الإنسانية للفلسطينيين، كما أن هذا الموقف، والخلط بين الإنساني والسياسي، يشجع حكومة الحرب الإسرائيلية على عدم تنفيذ قرارات محكمة العدل، والمضي قدماً في سياستها في استهداف المدنيين الفلسطينيين، والذين تجاوزوا ال100 ألف فلسطيني، ما بين ضحية، ومفقود، وجريح.
تحركات عربية
في المقابل، هناك تحركات عربية حثيثة لتغيير مواقف الدول الغربية من تمويل «الأونروا»، حيث حذرت الدول العربية، مثل مصر والإمارات العربية والسعودية، وكذلك الجامعة العربية، من مخاطر قرار تعليق تمويل «الأونروا»، على المعاناة الإنسانية للفلسطينيين، وطالبتها بمراجعة مواقفها، ما انعكس في قيام بعض الدول، مثل أستراليا، مراجعة قرارها في ضوء التحقق من الاتهامات الإسرائيلية، كما أعلنت فرنسا رفضها وقف تمويل «الأونروا»، وكذلك الاتحاد الأوروبي.
لقد استخدمت الولايات المتحدة «الأونروا» كأداة سياسية للضغط على الجانب الفلسطيني، كما حدث في عهد الرئيس السابق ترامب، عندما أعلن تعليق تمويل بلاده «للأونروا»، ما فاقم من معاناة الفلسطينيين، وبالتالي فإن القرار الأمريكي الأخير، ومن ورائه بعض الدول الغربية، يؤدي إلى كارثة إنسانية، ويصب في اتجاه عدم الاستقرار وإطالة أمد الصراع، وتشجيع إسرائيل على المضي قدماً في تحقيق أهدافها، وبالتالي تزايد مخاطر توسع الصراع إقليمياً، وهو أمر لن يكون في مصلحة أمريكا، والدول الغربية ذاتها.
* خبير العلاقات الدولية في الأهرام