أظهر تقرير لمنظمة العمل الدولية ILO، أن العالم العربي يشهد اليوم اتجاهات ناشئة في عالم الأعمال، من الممكن أن تُضيف تعقيدات على المشهد في سوق العمل، وأن تؤدي إلى تفاقم القضايا المتعلقة بالأمن الوظيفي والأجور العادلة، وساعات العمل اللائقة ومعايير العمل الدولية، ممّا يؤكد الحاجة إلى وضع استراتيجيات شاملة لمواجهة الأضرار المحتملة لهذا النهج.
وبحسب التقرير الحديث الصادر عن منظمة العمل الدولية، بعنوان “التشغيل والآفاق الاجتماعية في الدول العربية – اتجاهات 2024: تعزيز العدالة الاجتماعية من خلال انتقال عادل”، فإن المنطقة العربية شهدت في السنوات الأخيرة، نمواً كبيراً في عمل المنصات الرقمية، التي تشمل عدة قطاعات منها التجارة الإلكترونية وخدمات التوصيل، حيث كان هذا النمو مدفوعاً بعدد من العوامل، بينها ارتفاع نسبة استخدام الهواتف الذكية، وارتفاع معدّل الاتصال بالإنترنت، وتزايد عدد الشباب الذين يبحثون عن المرونة في فرص العمل.
وأشار التقرير إلى أن منصات التجارة الإلكترونية وخدمات التوصيل، لاقت رواجاً كبيراً في العديد من الدول العربية، وساهمت في توفير فرص عمل خاصة للسائقين، كما أنه وبالإضافة إلى هذه المنصات، فقد بات هناك عدد متزايد من العمال العرب، الذي يفضلون الاتجاه نحو “اقتصاد الأعمال المستقلة” والعمل مع المنصات الرقمية العالمية، التي تؤمّن العمل الحر مع عملاء عالميين، فهذا الاتجاه بات يجذب الأفراد المتعلمين تعليماً عالياً، وذوي المستوى الأدنى من التعليم.
فرص وتحديات
وكشف تقرير منظمة العمل الدولية، أن هذا الظهور السريع لأشكال العمل الجديدة، داخل الاقتصاد الرقمي في العالم العربي، يقدم كلاً من الفرص والتحديات، ففي حين يوفّر هذا النهج المبتكر المرونة والقدرة على الاتصال العالمي، فإن تحدياته تنعكس على رفاهية العمال.
كما لفت التقرير إلى وجوب قيام الدول العربية، بسنّ تشريعات لتنظيم أو حماية العاملين في المنصات الرقمية بشكل صريح، ما يسلتزم إجراء إصلاحات عميقة وفعالة، تعالج المخاوف بشأن أوجه القصور، بما يتعلق بظروف ووقت العمل، وغيرها من الحقوق التي لا تزال مفقودة.
وإضافة إلى ذلك، كشفت منظمة العمل الدولية ILO، عن أن العمل الرقمي يثير المخاوف المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، وتفاقم عدم المساواة وضعف القدرات، خصوصاً مع وجود “فجوة رقمية”، في المناطق ذات الوصول المحدود للتكنولوجيا، ما يضع الأفراد في تلك المناطق، في وضع غير مؤات بشكل كبير عند السعي للمشاركة في “اقتصاد الاعمال المستقلة”.
ما هي “أشكال العمل الجديدة” في سوق العمل في العالم العربي؟
تقول د. ربا جرادات، المدير الإقليمي للدول العربية في منظمة العمل الدولية، في حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن هناك كثرة في أشكال العمل الجديدة، التي يشهدها العالم، كما أسواق العمل في المنطقة العربية، إذ شهدت المنطقة مؤخراً وخاصة بعد جائحة كوفيد-19، زيادة كبيرة في ترتيبات العمل عن بعد، وانتشار منصات العمل الرقمية، التي تتوسط في مجال العمل، والتي اخترقت بسرعة قطاعات اقتصادية شتى، نتيجة للابتكارات في مجال التكنولوجيا الرقمية.
ولفتت إلى أن هذه المنصات تعتبر جزءاً مميزاً من الاقتصاد الرقمي، وهي تسمح للأفراد أو عملاء قطاع الأعمال، بالاضطلاع بالعديد من الأنشطة والأعمال المسندة اليهم، من بينها ترتيب الرحلات او طلب الطعام، أو العثور على اخصائيين مستقلين لتطوير المواقع الإلكترونية أو ترجمة الوثائق، وهي تعمل من خلال ربط قطاعات الأعمال والعملاء بالعمال.
وبحسب د. جرادات فإنه يمكن تصنيف منصات العمل الرقمية في فئتين رئيسيتين، هما:
- المنصات الإلكترونية القائمة على الويب، على شبكة الانترنت أو عن بعد. وقد تشمل هذه المهام الاضطلاع بخدمات الترجمة والخدمات المالية والقانونية، والتصميم الغرافيكي والبرمجة والتسويق الرقمي وغيرها. من بين هذه المنصات نذكر Upwork وUreed وFreelancer.
- المنصات القائمة على الموقع، في مواقع مادية محددة، وتشمل خدمات سيارات الأجرة والتوصيل والخدمات المنزلية (مثل سمكري أو كهربائي)، والعمل المنزلي وتوفير الرعاية. وفي منطقتنا نجحت شركات Talabat وToters ونون في تأسيس حضور قوي، ووفرت فرصاً كبيرة للسائقين ومقدمي خدمات التوصيل. وبالمثل، اكتسبت منصات نقل الركاب مثل أوبر وكريم، شعبية في العديد من البلدان العربية ووفرت فرص عمل للسائقين، خاصة في المناطق الحضرية المكتظة بالسكان.
وتضيف جرادات إنه على مدى السنوات الماضية، تنوعت أنواع العمل على المنصات الرقمية المتاحة إلى حدٍ كبير، وهي اليوم تقدم عدداً واسعاً من الفرص، التي تتناسب مع مجموعة واسعة من المهارات والاهتمامات، تجتذب الأفراد من ذوي المستويات التعليمية العالية والمنخفضة، وخاصة في البلدان التي تفتقر إلى فرص العمل التقليدية، ففي العام 2020 وحده، ارتفع عدد منصات العمل الرقمية في العالم من 142 الى 777 منصة. كما تضاعف عدد المنصات الإكترونية القائمة على الويب 3 مرات، في حين نما عدد منصات سيارات الأجرة ومنصات التوصيل عشرة أضعاف تقريباً، لافتة إلى أنه في حين تتركز نسبة كبيرة من هذه المنصات، في عدد قليل من الأماكن خارج دولنا العربية، الا انّ منطقتنا اليوم تشهد أيضاً نموا كبيراً في أعداد هذه المنصات، خاصة في ظل زيادة الاستثمار في البنى التحتية التكنولوجية، ورغبة الكثير من الشباب على وجه الخصوص، في الحصول على فرص عمل خارج إطار قطاع العمل التقليدي.
التعقيدات الناتجة عن “أشكال العمل الجديدة”
من جهتها، تقول آيا جعفر، الخبيرة في اقتصاد العمل في المكتب الإقليمي للدول العربية في منظمة العمل الدولية، في حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إنه بالرغم من الفرص الكبيرة التي تقدمها منصات العمل الرقمية، إلا انها تطرح أيضاً تحديات لمفهوم العمل اللائق، فبروز هذه الترتيبات المبتكرة، رغم ما توفره من مرونة وترابط عالمي، قد ترافقه مخاطر إضافية من حيث جودة التشغيل ورفاهية العمال، إذ لا يتمتع عادةً عمال المنصات الرقمية بالأمن الوظيفي التقليدي، أو مزايا العمل أو الضمانات القانونية المرتبطة بالعمل المنظم/ التقليدي، وغالباً ما يعملون كمتعاقدين مستقلين، لا يستفيدون من الخدمات الأساسية مثل التأمين الصحي، وخطط التقاعد والاستقرار الوظيفي، ما يجعلهم أكثر عرضة لفقر العمل، والاستغلال وظروف العمل غير السليمة.
وتضيف جعفر إنّ الكثير من عمال اليوم في منطقتنا، ينظرون الى العمل عبر المنصات كمصدر إضافي للدخل، الى جانب وظيفتهم التقليدية، وبالتالي كثيرون منهم، قد يحصلون على نوع من الحماية من خلال عملهم خارج هذه المنصات، إلا أنّه ومع استمرار اكتساب هذا النهج من العمل، مكانة بارزة في المنطقة، وتزايد عدد الأفراد الذين يعتمدون عليه كمصدرهم الوحيد أو الأساسي للدخل، يزداد القلق بشأن نوعية العمل عبر المنصات وغياب الحماية، وغيرها من أوجه القصور في العمل اللائق، مشيرة إلى أنه يبدو أنّ المنصات الرقمية، تتنصل صراحة من أي شكل من أشكال العلاقة، بين صاحب العمل والموظف، حيث نجد في الشروط والأحكام، التي تنظم هكذا منصات مواد شائعة، تنفي وجود علاقات وصلات تقليدية بين العمال وأصحاب العمل، مما يترك العاملين في اقتصاد المنصات، عرضةً للخطر في وجه الحوادث أو الأمراض أو حتى الانكماش الاقتصادي.
نقص في التشريعات
وبحسب جعفر فقد أظهرت مراجعة أجرتها منظمة العمل الدولية، انه وحتى العام 2023، لم تُصدر أي من الدول العربية تشريعات لتنظيم أو حماية عمال المنصات بوضوح، كما ولا يبدو أن قوانين العمل الوطنية، تنطبق على العاملين في مجال الخدمات الرقمية/الأعمال المستقلة، حيث أنه وحتى عند وجود تشريعات تُغطي أشكال العمالة غير التقليدية، إلا أنها لا تنظر في كافة ظواهر العمل اللائق، ففي حين أن بعضها ينص على الحد الأدنى للأجور، أو الوصول إلى الضمان الاجتماعي، إلا أن ظروف العمل الأخرى، بما في ذلك وقت العمل، والحق في المفاوضة الجماعية، والصحة والسلامة المهنية، وغيرها من الحقوق الأساسية، لا تزال غائبة.
ولفتت جعفر إلى أنه لا بد من الإشارة، الى أنّ بروز منصات العمل الرقمية، يترافق مع مخاطر إضافية خاصة، حصراً باقتصاد المنصات، منها مخاطر انتهاك الخصوصية، ومخاطر الأمن السيبراني، وآليات السيطرة الخوارزمية المفرطة.
استراتيجيات تحد من تعقيدات “أشكال العمل الجديدة”
وقالت المدير الإقليمي للدول العربية في منظمة العمل الدولية، د. ربا جرادات، في حديثها لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إنه قبل البدء بالحديث عن الاستراتيجيات، والسياسات والتدابير المطلوبة، للحد من تعقيدات “أشكال العمل الجديدة”، من المهم جداً في البداية، الإقرار بأنّ توسع العمل عبر المنصات، هو عامل محرك أساسي في اقتصاد اليوم، يقدم منافع كثيرة وفرصاً للعمل واكتساب الخبرات، بما في ذلك للنساء على سبيل المثال، اللواتي لطالما كانت طريق وصولهنّ الى فرص العمل التقليدية، محفوفة بالحواجز، مشددة على أنه من أجل الاستفادة المثلى من هذه الفرص الناشئة، تحتاج منطقتنا الى سياسات شاملة ومتكاملة، تضمن أن تكون هذه المنصات الأقدر، على توفير فرص العمل اللائق، والدفع قدماً بالعدالة الاجتماعية، ومن هنا أهمية مراجعة القوانين وضمان مراعاتها لحقوق العمال عبر المنصات، وتحديد أوجه الحماية الدنيا، التي يجب ان يتمتع بها عامل المنصة، إن كان من ناحية الأجور وساعات العمل، أو من ناحية الحماية الاجتماعية، أو حتى الحق في المفاوضة الجماعية والتنظيم، وغيرها.
ورأت د. جرادات، أنه يجب إعادة التأكيد على ضرورة أن تنطبق القوانين المناهضة للتمييز، وقوانين السلامة والصحة المهنيتين، على منصات العمل الرقمية والعاملين فيها، كما العمل على وضع آليات مستقلة وفعالة، لتسوية النزاعات التي قد تنشأ بين العمال، ومشغلي المنصات، إذ من المهم أيضاً أن يتم تصنيف وضع استخدام العمال، تصنيفاً صحيحاً يحد من إمكانية استغلالهم، ويضمن حصولهم على حقوقهم في ظل ظروف عمل لائقة، وفي الوقت نفسه، يجب على صانعي السياسات، معالجة المسائل المتعلقة بمحو الأمية الرقمية، والبنى التحتية، والوصول الى التكنولوجيا، لضمان شمولية الوصول الى الاقتصاد الرقمي دون ترك أحد خلف الركب.
البيانات المتوفرة غير كافية
كما أوضح د. جرادات أن البيانات المتوفرة، حول العمل على المنصات الرقمية في المنطقة غير كافية، ولذلك فإنه من الضروري أن يتم جمع هذه البيانات بطريقة منهجية، مثلاً من خلال مسوحات القوى العاملة، وذلك من أجل تكوين صورة أوضح، لتطور العمل الرقمي بما فيه العمل عبر المنصات، ومساعدة صانعي السياسات، والعمال وأصحاب العمل، على اتخاذ القرارات المناسبة في هذا الإطار، مشددة في الوقت عينه على أهمية اعتماد سياسات وتدابير، تضمن الحماية المناسبة للخصوصية والبيانات الشخصية، وتستجيب للتحديات والفرص المطروحة في عالم العمل، وذات الصلة بالتحول الرقمي.