“إن الحديث عن فك ارتباط الصين بالاقتصاد العالمي مبالغ فيه، حيث لا تزال الصين على الأرجح الشريك التجاري الأول لغالبية دول العالم”، هذا ما قاله كبير الاقتصاديين في بنك التنمية الآسيوي ألبرت بارك، في الوقت الذي تدرس فيه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على الشركات الصينية التي تعتقد أنها تساعد روسيا في “تأجيج حربها في أوكرانيا”.
ويشير بارك في تقرير نشرته شبكة “سي إن بي سي”، إلى أنه “على الرغم من تراجع أجزاء من التجارة الإجمالية مع الصين، إلا أن مشاركة البلاد وأهميتها في سلسلة القيمة العالمية لم تتقلص.
وفي حين أن هذا قد يكون صحيحاً بالنسبة لبعض السلع أو بلدان معينة تحاول بقوة شديدة تقييد التجارة الصينية، إلا أن فك الارتباط أقل وضوحاً على نطاق عالمي، فحتى بعد الصراع التجاري الذي بدأه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، فإن أهمية الصين في سلسلة القيمة العالمية لم تتراجع”.
وتفاقمت التوترات التجارية بين الصين والولايات المتحدة منذ عام 2018 مع فرض ترامب الرسوم الجمركية والحواجز التجارية الأخرى على الصين، ورغم ذلك، استمرت الصين في الاضطلاع بدور ضخم في الاقتصاد العالمي، حيث تمثل 18 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ولا تزال تعتبر الدولة صاحبة أكبر اقتصاد تجاري في العالم.
وانخفضت تجارة الصين مع شركائها الرئيسيين في عام 2023، وانخفضت صادراتها السنوية للمرة الأولى منذ سبع سنوات مع انخفاض الطلب على السلع الصينية وسط تباطؤ النمو العالمي.
ومع ذلك تظل الصين شريكاً تجارياً رئيسياً لأكثر من 120 دولة، ولا تزال أكبر شريك تجاري لليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وفيتنام، وفقًا لمركز ويلسون البحثي الأميركي.
بدوره، قال بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في بيان: “في المحصلة، لا يبدو فصل عمليات الإنتاج العالمية والاستهلاك عن الصين يلوح في الأفق”.
فصل الصين عن الاقتصاد العالمي ضرب من الخيال
من الإمارات يقول الخبير المالي والاقتصادي حسين القمزي في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “فصل الصين عن الاقتصاد العالمي يعد ضرباً من الخيال النظري، فالتطبيق العملي لهذا الفصل أمر مشكوك فيه إلى حد كبير بسبب التعقيدات الاقتصادية والسياسية والقانونية الهائلة التي ينطوي عليها الأمر”.
وأضاف أن فك ارتباط الصين بالاقتصاد العالمي سوف يكون عملاً معقداً جداً إلى حد غير عادي، وربما سيكون عملاً غير مسبوق لم يحدث في التاريخ وسوف يخلّف عواقب كارثية بعيدة المدى، ليس فقط على الصين، بل سيؤثر على اقتصاد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أنفسهم وعلى العالم، بحسب القمزي، الذي تساءل عن جدوى مثل هذه الخطوة في ضوء الاعتماد الاقتصادي المتبادل، ذلك أن الاقتصاد العالمي مترابط إلى حد كبير، حيث تلعب الصين دوراً مركزياً في الاقتصاد العالمي باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
ويضيف القمزي: “الصين مصدّر ومستورد رئيسي للسلع والخدمات، وهي مندمجة بعمق في سلاسل التوريد العالمية، وتتمتع العديد من الشركات الغربية بعلاقات تصنيعية واستثمارية مهمة مع الصين، إن تفكيك هذه التشابكات سيكون أمراً صعباً ومكلفاً، بل إنه يُطلق على الصين اسم (مصنع العالم) نظراً لدورها المهيمن في تصنيع مجموعة واسعة من المنتجات، بدءاً من الإلكترونيات ووصولاً إلى الأدوية”.
“لذلك فإن إزالة الصين من سلاسل التوريد العالمية يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات خطيرة ونقص كبير ما يؤثر على الشركات والمستهلكين في جميع أنحاء العالم”، بحسب تعبيره.
ويشير الخبير المالي والاقتصادي القمزي إلى أن هذه الأهمية للصين ليست في المجال الصناعي فقط، بل إنها الصين أيضاً مدمجة في النظام المالي العالمي، حيث تمتلك احتياطيات كبيرة من النقد الأجنبي، بما في ذلك سندات الخزانة الأميركية، ومن الممكن أن يكون للتحركات المفاجئة لفك الارتباط آثار مزعزعة للاستقرار في الأسواق المالية الدولية.
متى يكون فك الارتباط فعالاً؟
وهذا الفصل حتى يكون فعالاً يتطلب تحالفاً واسع النطاق من الدول كلها، وهذه الحالة شبه مستحيلة، بل وستؤدي بالتأكيد إلى خلافات جيوسياسية وزيادة في التوترات، كما أن الأنظمة التجارية والمالية الدولية الحالية، التي تدعمها مؤسسات مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تعتمد على مبادئ التعاون والاعتماد المتبادل، ومن شأن فرض فك الارتباط أن يواجه العديد من العقبات القانونية والمؤسسية، طبقاً لما قاله القمزي.
وبالإضافة إلى ذلك كله يؤكد القمزي أنه “بالنسبة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يمكن أن تكون التداعيات الاقتصادية الناجمة عن فك الارتباط شديدة جداً، وتزيد من حجم التضخم وزيادة البطالة وانخفاض النمو الاقتصادي بسبب زيادة التكاليف وانخفاض الوصول إلى الأسواق والمنتجات، ولا ننسى أن الصين تعمل منذ زمن على توسيع نفوذها العالمي من خلال مبادرات مثل مبادرة الحزام والطريق ومن خلال إقامة علاقات أوثق مع دول في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية وهذا يجعل الفكرة أكثر تعقيداً وصعوبة”.
الصين تعد أكبر مستورد للطاقة في العالم
من جهته، يقول ممدوح سلامة خبير الاقتصاد والنفط العالمي المقيم في لندن في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي يدعمان أوكرانيا باعتبارها حليفة لهما، فما الفارق حين تقوم الصين بمساعدة ودعم روسيا التي تربطها تحالف استراتيجي معها، ثم أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أساساً لا يستطيعان فصل الصين عن الاقتصاد العالمي لأن الصين ببساطة هي الاقتصاد العالمي، بل هي أكبر اقتصاد في العالم، أي أكبر بنسبة 38 بالمئة من اقتصاد الولايات المتحدة بناء على مقارنة القدرات الشرائية للعملات”.
كما أن الصين تعد أكبر مستورد للطاقة في العالم، سواء من الغاز والنفط والفحم وحتى الوقود النووي، وبذلك تعتبر محرك الاقتصاد العالمي، وستستمر في ذلك الدور طوال القرن الحادي والعشرين وربما أبعد من ذلك، وبالتالي فإن الحديث عن فك ارتباط الصين بالاقتصاد العالمي كلام لا معنى له ولا يؤدي إلى نتيجة أبداً، بحسب سلامة.
ويوضح سلامة أن ما يخيف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن الصين مع روسيا وبدعم من دول “بريكس” يسعون ويسارعون إلى تحويل النظام العالمي الأحادي الذي تقوده الولايات المتحدة حالياً إلى نظام متعدد الأقطاب تقوده روسيا والصين والهند بتأييد من غالبية دول العالم.
ويرافق ذلك سعي الصين وروسيا للابتعاد عن الدولار وإبعاد العام ككل عن الدولار وقد نجحوا إلى حد كبير حتى الآن بحيث أن “البترويوان” ازدادت نسبته في سوق النفط العالمي إضافة إلى أن بعض دول مجلس التعاون الخليجي بدأت تقبل “بالبترويوان” ثمناً لنفطها وللغاز الذي تورده إلى الصين وهذا سيؤدي إلى شبه انهيار للاقتصاد الأميركي وإلى ضعف أو نقص في قيمة الدولار الأميركي بنسبة الثلث أو النصف في عام 2030 حيث سيكون البترو يوان هو عملة تجارة النفط في العالم واليوان سيكون عملة الاحتياطي للعالم وفقاً لخبير الاقتصاد والنفط العالمي سلامة.
تأثير تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني
بالعودة إلى تقرير شبكة “سي إن بي سي”، أشار كبير الاقتصاديين في بنك التنمية الآسيوي ألبرت بارك إلى أنه مع بقاء الروابط التجارية العالمية للصين واسعة النطاق، فإن قصة انتعاش النمو المحبطة لا تزال تشكل خطراً على البيئة التجارية في آسيا.
وقال بارك: “لا تزال الصين تشكل خطراً مهماً على جانب الطلب، لأنه لا يزال هناك الكثير من الأسئلة حول مرونة النمو الصيني، كانت لدينا في كثير من الأحيان قاعدة أساسية مفادها أن تباطؤ النمو بنسبة 1 بالمئة في الصين أدى إلى انخفاض الطلب على الصادرات بنحو 0.3 بالمئة، وتمثل عوامل أخرى أيضاً رياحًا معاكسة للنظام التجاري في آسيا، وأرجح أن يؤثر تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي على الطلب الخارجي على الصادرات من آسيا”.
ومع ذلك، يتوقع بارك أن تنتعش دورة أشباه الموصلات، الأمر الذي قد يوفر بعض الأمل لمصدري التكنولوجيا المتقدمة في آسيا مثل كوريا الجنوبية وتايوان واليابان.
إلى ذلك قال بنك التنمية الآسيوي في تقرير التكامل الاقتصادي الآسيوي لعام 2024 إن تحسن الطلب من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والنمو القوي في الهند من المرجح أن يفيد آفاق التجارة في آسيا.