“الإجراءات التي جرى الإعلان عنها تعتبر بداية المسار الصحيح نحو دولة متوازنة وقوية اقتصاديا”، هكذا وصف محافظ البنك المركزي المصري، حسن عبد الله، في مؤتمر صحافي يوم الأربعاء الماضي، الخطوات التي اتخذتها الدولة المصرية في الآونة الأخيرة، والتي نجحت من خلالها في إحداث زخم واسع على المشهد الاقتصادي، وتوجيه ضربة قوية للسوق الموازية، والتمهيد لاستقرار مأمول في الأسواق كافة.
بداية من الإعلان عن تفاصيل صفقة “رأس الحكمة” ووصولاً إلى رفع معدلات الفائدة بصورة استثنائية وتحرير سعر العملة ليخضع لآليات العرض والطلب، شكلت تلك العوامل مجتمعة خطوات مؤثرة على توافر العملة الأميركية بالسوق المصرية، وإنهاء واحدة من أكثر المشكلات التي عانت منها الدولة المصرية خلال السنوات الماضية.
وبتوافر السيولة الدولارية في مصر على ذلك النحو، فإن هذا من شأنه تعزيز قدرة البلاد على الوفاء بالتزاماتها الدولارية المختلفة، سواء لكفاية السلع الأساسية وكذلك سداد الإلتزامات الخارجية، مع وجود فائض أيضاً، بحسب ما تُظهره البيانات الرسمية.
وقال وزير المالية المصري محمد معيط، الأحد:
- مصر خطت خطوات كبيرة لخفض عجز ميزانيتها من خلال مشروع رأس الحكمة وكذلك الاتفاق على حزمة دعم مع صندوق النقد الدولي.
- مصر تتوقع تحقيق فائض أولي في الميزانية لا يقل عن 3.5 بالمئة في السنة المالية التي تبدأ في الأول من يوليو.
- ولا يشمل الفائض الأولي المتوقع مدفوعات الفوائد، التي مثلت في الأشهر السبعة حتى نهاية يناير أكثر من نصف إجمالي الإنفاق ما أدى إلى أن تصبح مصر في عجز مالي شديد.
وتوقعت وزارة المالية الشهر الماضي تحقيق فائض أولي في الميزانية العامة يعادل 2.5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للعام المالي الحالي 2023-2024.
موارد الدولار
تتمثل الموارد الدولارية الجديدة التي تنعش الخزينة المصرية في:
- “مليارات رأس الحكمة”: تسلمت الدولة المصرية حتى الآن 10 مليارات دولار من استثمارات رأس الحكمة، وهو المشروع الذي من المقرر أن يصل حجم الاستثمارات فيه إلى 150 مليار دولار.
- قرض صندوق النقد: وافق الصندوق، الأربعاء، على زيادة قيمة قرض مصر إلى 8 مليارات دولار، من ثلاثة مليارات دولار، كان قد تم الاتفاق عليها في ديسمبر 2022. فيما تسمح تلك الموافقة للحكومة المصرية بالتقدم للحصول على قرض إضافي بقيمة 1.2 مليار دولار من صندوق الاستدامة البيئية التابع لصندوق النقد الدولي، ليصبح المجموع الكلي نحو 9 مليارات دولار، بحسب رئيس مجلس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي.
وقال وزير المالية المصري، الأحد، إن بلاده ستحصل على تمويل يبلغ ثلاثة مليارات دولار من البنك الدولي، وذلك في إطار حزمة تمويل من صندوق النقد الدولي للبلاد بقيمة إجمالية متوقعة 20 مليار دولار.
وكانت السوق المصرية قد شهدت صعوبات بالغة على مدى الشهرين الماضيين في توفير العملة الأجنبية تسببت في تعزيز قوة السوق موازية للدولار، والتي وصل فيها سعر العملة الصعبة إلى حوالي 70جنيهاً، فيما كان السعر الرسمي في البنوك المحلية لا يتخطى 31 جنيهاً.
كيف يمكن الاستفادة من تلك التمويلات؟
وفي ظل هذه التحسن الاقتصادي الملموس ، يطفو سؤال عن الآلية التي يتعين على مصر اتباعها حتى لا يتكرر الموقف الاقتصادي الصعب الذي مرت به مصر في الفترة الماضية وهو موقف لم يشهده الاقتصاد المصري طوال الـ 50 سنة الماضية.
يقول مدير مركز رؤية للدراسات الاقتصادية، بلال شعيب، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إنه كي لا تكرر مصر السيناريو الاقتصادي الذي تعثرت فيه سابقاً عليها الاهتمام بشكل أكبر بمصادر الحصول على الدخل الدولاري، خصوصًا وأن الاقتصاد المصري اقتصاد متنوع ولا يعتمد على مصدر واحد للدخل الدولاري، لذلك فمصر مطالبة بالعمل على عدة محاور
- أولا الصناعة، فالقطاع الصناعي هو الأقرب لتعزيز السيولة الدولارية المتوفرة حاليًا فيه كونه سريع العوائد، كما أن الاهتمام بهذا القطاع سيقضي على الخلل الهيكلي في الميزان التجاري.
- ثانيًا الزراعة، ذلك أنه لا بد من رفع نسبة الاكتفاء الذاتي من الإنتاج الزراعي، مستشهداً بمحصول القمح فمصر تستهلك سنويا 20 مليون طن من القمح تنتج منهم 9 ملايين طن وتستورد 11 مليون طن، وبالتالي فإن التركيز على الزراعة سيقضي على مشكلة نقص الغذاء في مصر.
- ثالثًا السياحة وهي أحد الملفات الهامة التي يتعين أن تولي الدولة اهتمامًا بالغًا بها خصوصًا وأن مدخول مصر الدولاري من السياحة يبلغ 13.6 في العام المالي (2022-2023) بالمقارنة بتنوع السياحة في مصر بين العلاجية والدينية والشاطئية
- رابعًا: لابد من إعادة هيكلة الديون باستبدال الديون طويلة الأجل بقصيرة الأجل، كي نؤمن التدفقات النقدية لمصر لمدة 3 سنوات مقبلة.
- خامسًا: ضرورة دمج الاقتصاد غير الرسمي والذي يشكل 50 بالمئة من حجم الاقتصاد المصري، حسب وزارة التخطيط بنهاية 2022، لأن هذا سينتج عنه زيادة مخزون الدولة من الضرائب والقضاء على السوق الموازية بشكل مباشر.
حلول عملية
وتوقع معهد التمويل الدولي، الخميس، أن يبلغ إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي في مصر ما يزيد عن 50 مليار دولار، أي ما يكفي ثمانية أشهر من الواردات، بنهاية السنة المالية الحالية، بدعم من صفقة رأس الحكمة الاستثمارية وإبرام الحكومة اتفاق موسع مع صندوق النقد الدولي.
وأضاف المعهد في تقرير صدر حديثا أن إبرام مصر لاتفاق بقيمة ثمانية مليارات دولار مع صندوق النقد، بدلا من ثلاثة مليارات دولار في السابق، والخفض القوي لسعر صرف الجنيه، الذي تجاوز 50 جنيها في البنوك التجارية أمس الأربعاء، فاقا التوقعات.
الخروج من الأزمة
من جهته، يؤكد الخبير الاقتصادي، علي الإدريسي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أنه لخروج مصر من أزمتها الحالية وعدم تكرارها مستقبلًا عليها العمل على عدة محاور:
- الأول: محاربة الفساد بأشكاله كافة في كل القطاعات، فوجود الفساد تدمير لأي سياسات اقتصادية متبعة.
- ثانيًا: لابد من اتباع سياسات إنتاجية واضحة سواء في الزراعة والصناعة، مع وجود خطوات واضحة بجدول زمني للتنفيذ بالتوازي مع دعم صغار المزارعين والمصنعين، عبر منحهم حوافز في ظل ارتفاع تكلفة الاقتراض والتمويل لمجابهة أعباء التضخم وارتفاع تكلفة الإنتاج.
- ثالثًا: استمرار تخارج الدولة من النشاط الاقتصادي، لأن سيطرة القطاع العام على النشاط الاقتصادي رغم جدواها لكنها لها جوانب سلبية عدة، لذلك فلابد من إطلاق يد القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي بشكل أكبر من الحالي، مع تحفيز مفهوم المشاركة في الاستثمار، مستشهداً بمشروع رأس الحكمة الذي يضمن للدولة دخل مستدام من العملات الأجنبية.
- رابعًا: لابد من وضع تصور لكل قرض يتم الحصول عليه من حيث الجدوى الاقتصادية، وطريقة الاستفادة منه، مع ضرورة تنويع عوائد المشروعات التي ستضخ هذه القروض فيها ما بين قصيرة وطويلة الأجل، مشدداً على ضرورة أن يتم الاقتراض عند الضرورة القصوى فقط.
وفقًا لتعديلات قانون المالية العامة الموحد، سيتم سنويًا تحديد سقف لدين أجهزة الموازنة والهيئات الاقتصادية، ولايمكن تجاوزه إلا بموافقة رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء ومجلس النواب، وذلك في ظل اتباع الدولة استراتيجية هادفة في المقام الأول إلى وضع معدلات الدين في مسار نزولي، وبدء تخفيض نسبة الدين للناتج المحلي لأقل من 80 في المئة خلال الثلاث سنوات المقبلة.
- يحظر القانون على الجهات الإدارية الارتباط بأى مصروفات أو إبرام أي تعاقدات أو اتفاقات مالية أو بروتوكولات أو مبادرات أو غيرها يترتب عليها التزامات أو أعباء مالية إضافية.
- يحظر أيضًا على ممثلي الوزارة بالوحدات الحسابية الموافقة على صرف أي مبالغ قبل التأكد من وجود ارتباط مالي، وسماح البند المختص بذلك، وأن المشروع مدرج بالخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية أو حصل على موافقة الوزارة المختصة بشئون التخطيط والتنمية الاقتصادية.
- القانون يلزم بضرورة أخذ رأي وزارة المالية في مشروعات القوانين أو القرارات التي من شأنها إضافة أعباء مالية على الخزانة العامة للدولة.
تقوية موقف مصر
وبناءً على التطور في موقف السيولة الدولارية في مصر، يقول الخبير الاقتصادي والمصرفي، محمد عبد العال أن: “قدرة مصر على جذب الاستثمارات الأجنبية سترتفع بقوة خلال الفترة المقبلة، لاسيما بعد الشروع في تنفيذ مشروع رأس الحكمة والذي يمثل ما يزيد عن ثلاثة أضعاف حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة سنوياً في مصر والمقدر بحوالي من 7 إلى 10 مليارات دولار”.
وتطرق عبد العال إلى أن المحاور الأساسية في اتفاق صندوق الدولي تضمنت تقوية موقف مصر وقدرتها على سداد ديونها، وبالتالي فإن حجم الدين الذي يبلغ 160 مليار دولار مازال يمثل نسبة معقولة من الناتج القومي الإجمالي، بينما كان التخوف في الفترات القليلة الماضية هو إمكانية تعثر الدولة عن السداد بالتزاماتها، لاسيما بعد توجه مؤسسات التصنيف الائتماني إلى خفض التصنيف الائتماني لمصر.
ويتابع عبد العال: “تسببت تلك الخطوات في تراجع أسعار السندات المصرية بالعملات الأجنبية لاسيما بالدولار واليورو”، مؤكدا على أن التحركات الأخيرة في الموارد الدولارية ستحسن من قدرة مصر خلال المرحلة المقبلة.
وعلى مدى العام الجاري 2024، يتعين على مصر سداد ما يزيد عن 42 مليار دولار من إجمالي الالتزامات الخارجية بما في ذلك الأقساط وفوائد الديون.
وقال محافظ البنك المركزي المصري، حسن عبد الله، الأربعاء، في مؤتمر صحافي إن إمكانيات البنك كانت تكفي فقط لتدبير الدولار للسلع الأساسية والاستراتيجية، لكنه اليوم “بات لدينا ما يكفي لسداد التزاماتنا ويفيض، خاصة مع توحيد سعر الصرف”. وأكد أن المركزي بالتعاون مع الحكومة المصرية يعمل حاليا على “تحقيق اكتفاء ذاتي من العملات الأجنبية”.
وكان البنك المركزي المصري قد كشف، الثلاثاء، عن ارتفاع صافي احتياطيات النقد الأجنبي إلى 35.31 مليار دولار بنهاية فبراير، من 35.25 مليار دولار بنهاية يناير.
الديون
وإلى ذلك، تؤكد الخبيرة المصرفية، سهر الدماطي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، على أن الدور الذي ستلعبه تلك التدفقات الدولارية خلال الفترة المقبلة سيسهم في
- تحسين موقف مصر على مستوى قدرتها على الوفاء بالتزاماتها سواء من أقساط الدين أو من مصروفات خدمة الدين.
- الموارد الدولارية ممثلة في استثمارات مشروع رأس الحكمة أو في القرض الجديد لصندوق النقد الدولي من شأنها أن تمنح الاقتصاد المصري شهادة ثقة من قبل المؤسسات المختلفة المالية أو الجهات الاستثمارية كذلك.
- هذا بدوره يسهم في تحسين التصنيف الائتماني من مؤسسات التصنيف الدولية مثل موديز، وفيتش، وستاندرد آند بورز.
وأعلنت وكالة موديز للتصنيف الائتماني أنها قررت تعديل النظرة المستقبلية لمصر إلى إيجابية مؤكدة تصنيفها عند CAA1.
وقالت الوكالة في بيانها، إن التغيير في النظرة المستقبلية للاقتصاد المصري يعكس الدعم الكبير الذي تم الإعلان عنه والخطوات الملحوظة التي تم اتخاذها على صعيد السياسة خلال الفترة الماضية .