تعتبر عملية تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي أمراً مرهقاً ومكلفاً، ويحتاج للكثير من الوقت، فهذه العملية المعقدة تتطلب موارد وأجهزة ومعدات وبرامج متخصصة باهظة الثمن، وذات كلفة تشغيلية مرتفعة، وهذا ما يجعل مردود هذه الأنظمة أقل من كلفتها في الكثير من الأحيان.
ويبدو أن مشكلة الكلفة الباهظة للذكاء الاصطناعي دفعت شركة ألفابت للتفكير جدياً، بخيار تحويل عملية البحث المدعومة بالذكاء الاصطناعي التوليدي، عبر محرك غوغل إلى “خدمة مدفوعة”، حيث ذكر تقرير حديث لصحيفة فايننشال تايمز، أن الشركة الأميركية تدرس فرض رسوم، مقابل الوصول إلى نتائج البحث التي ستوفرها خدمتها الجديدة التي يطلق عليها اسم “تجربة البحث التوليدية” أو Search Generative Experience، والتي تتيح للمستخدمين الحصول على معلومات تخص الموضوعات التي يبحثون عنها على نحو سريع ومركّز، استناداً إلى الذكاء الاصطناعي.
في المقابل ستظل عمليات البحث التقليدية المدعومة بالإعلانات عبر محرك غوغل مجانية، حيث تشير الخطوة المحتملة إلى أن ألفابت، لم تتوصل بعد إلى كيفية دمج التكنولوجيا الجديدة في خدماتها، دون أن تشكل تهديداً لإيراداتها، فنتائج البحث المدعومة بالذكاء الاصطناعي مكلفة للشركة، مقارنةً بنتائج البحث التقليدية، لأن الذكاء الاصطناعي التوليدي يستهلك الكثير من موارد الحوسبة.
قرار غير مسبوق
ويعد خيار فرض رسوم مالية على نتائج بحث غوغل، الأول من نوعه بالنسبة لألفابت التي لطالما حصرت خدماتها المدفوعة بعيداً عن محرك بحثها، حيث اعتبر المحلل في بلومبرغ إنتليجنس، مانديب سينغ، أن فرض رسوم على جوانب معينة من بحث الذكاء الاصطناعي، يمكن أن يساعد ألفابت على تحقيق بعض الإيرادات الإضافية، دون أن تتضرر أعمالها في مجال عرض الإعلانات ضمن نتائج البحث، خصوصاً أن بعض المحللين كانوا قد حذروا من أن نتائج البحث المدعومة بالذكاء الاصطناعي، ستقدم إجابات مكتملة تجعل من المعلومات التي يوفرها المعلنون عديمة الفائدة.
ومن غير الواضح بعد، ما هي آلية التسعير التي سيعتمدها محرك غوغل في تجربة البحث التوليدية، أو متى قد تكون هذه الخدمة جاهزة للإطلاق، إذ يعمل المهندسون في ألفابت على تطوير التكنولوجيا اللازمة لنشر هذه الخدمة، رغم أن المديرين التنفيذيين في الشركة، لم يتخذوا بعد قراراً نهائياً بخصوص إطلاقها بحسب ما نقلت بلومبرغ عن فايننشال تايمز، في حين أكد متحدث باسم ألفابت، أن الشركة لا تعمل أو تفكر في تجربة بحث خالية من الإعلانات، مشيراً إلى أنها ستواصل بناء إمكانات وخدمات متميزة جديدة، لتحسين عروض الاشتراك عبر غوغل.
خدمة تحرق الأموال
ويقول الكاتب والمحلل المختص بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي ألان القارح، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن عملية البحث التقليدية عبر محرك غوغل، هي مصدر صافٍ للأموال، في حين أن عملية البحث المدعومة بالذكاء الاصطناعي ستكون بمثابة محرقة للأموال، وهذا ما دفع ألفابت للتفكير في جعل هذه الخدمة مدفوعة، فكلفة تدريب وتشغيل وصيانة وتحديث نماذج الذكاء الاصطناعي، التي تمنح الإجابات للمستخدمين باهظة، لدرجة يصعب تعويضها في الوقت الراهن، إلا من خلال نظام الاشتراكات المدفوعة، مشيراً إلى أن ما لا يدركه معظم المستخدمين هو أن شركات مثل ألفابت وأوبن أيه آي، تتكلف يومياً مئات الآلاف من الدولارات، على تقديمها للإجابات لمستخدمي برامج جيميناي وشات جي بي تي، وكلما ارتفع عدد الأسئلة الموجهة من المستخدمين، كلما تكبدت هذه الشركات مصاريف أكبر.
5 سنتات مقابل إنتاج 750 كلمة
وبحسب القارح فإن فواتير الذكاء الاصطناعي باهظة الثمن، تؤكد حقيقة غير سارة، سواء بالنسبة للشركات التي تطور هذه التقنيات، أو لأولئك الذين يستخدمونها، فمثلاً يقدر المحللون الماليون أن برنامج مثل Bing AI من Microsoft، والذي يتم تشغيله بواسطة نموذج ChatGPT، يحتاج إلى ما لا يقل عن 4 مليارات دولار من البنية التحتية، ليكون قادراً على تلبية طلبات مستخدميه، وفي الوقت نفسه فإن تكلفة حصول الشركات على حقوق الوصول إلى نماذج GPT الخاصة بـ OpenAI تبلغ 5 سنتات مقابل إنتاج 750 كلمة تقريباً، لافتاً إلى أنه وفقاً لمجموعة جيفريز المصرفية، فإن ما نسبته 10 بالمئة فقط من الأموال النقدية المستثمرة في الذكاء الاصطناعي، تذهب إلى تطوير نماذج مثل جيميناي وشات جي بي تي وبينج، بينما يتم تخصيص باقي الأموال لتمويل العمليات المستمرة لهذه البرامج.
أسباب الكلفة المرتفعة
ويكشف القارح أن الكلفة المرتفعة جداً لتشغيل برامج الذكاء الاصطناعي، هي كلفة هيكلية تبدأ من الأسعار المرتفعة لوحدات معالجة الرسوميات، لتنفيذ أحمال الحوسبة عالية الأداء، والتي قد يفوق ثمن الواحدة منها مبلغ الـ 40 ألف دولار، إضافة إلى أسعار الأجهزة التقنية المطلوبة لتشغيل هذه البرامج وتدريبها وصيانتها، دون أن ننسى كلفة الكهرباء التي تحتاجها عملية تشغيل برامج الذكاء الاصطناعي، مشيراً إلى أن شركة Hugging Face، وهي شركة تعمل بمجال تطوير الذكاء الاصطناعي، أفادت بأن أداة الذكاء الاصطناعي الخاصة بها لإنشاء النصوص متعددة اللغات، استهلكت نحو 433 ميغاواط/ ساعة أثناء التدريب، وهو ما يكفي لتزويد 40 منزلاً أميركياً بالكهرباء لمدة عام.
ويضيف القارح إن الشركات التي تقوم بتطوير برامج للذكاء الاصطناعي، لم تتمكن من ذلك لو لم يكن ذلك مرتبط بدعم مالي تتلقاه أو مردود تحققه بعيداً عن الذكاء الاصطناعي، الذي لا تزال كلفته التشغيلية أكبر من الإيرادات التي يحققها، وبالتالي فإن فكرة ألفابت بجعل عملية البحث عبر الذكاء الاصطناعي ميزة مدفوعة، هي فكرة مبررة ولكن غير شعبية، والمشكلة الأكبر تكون بقيام الشركات الأخرى باتباع المسار نفسه بهدف تخفيف التكاليف، متوقعاً أن يكون هذا النمط متبعاً من مختلف الشركات، وذلك حتى انخفاض الكلفة التشغيلية للذكاء الاصطناعي.
الأكثر تحقيقاً للأموال من الذكاء الاصطناعي
من جهته يقول المطور التكنولوجي، جو زغبي، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن أكثر من يحقق الأموال من انتشار برامج الذكاء الاصطناعي في الوقت الراهن، هما شركتا إنفيديا و تي أس أم سي، بفضل احتلالهما موقعاً مهيمناً في تصميم وتصنيع وحدات معالجات الرسوميات المتطورة GPUs، التي تعمل عليها برامج LLM للذكاء الاصطناعي التوليدي، فأي شركة مثل ألفابت مثلاً، تحتاج لمئات لا بل الآلاف من المعالجات، التي يصل سعر بعضها لـ 45 ألف دولار، لزوم تشغيل هذه البرامج، وهذا ما يحفز الشركات على فرض رسوم على المستخدمين، مقابل الوصول إلى أدوات البحث التي تعمل بالذكاء الاصطناعي.
بحث خال من الإعلانات
ويرى زغبي أن الأسوأ من الكلفة المرتفعة التي تتكبدها ألفابت، مقابل عمليات البحث عبر الذكاء الاصطناعي، هو أن نتيجة هذا البحث تختلف كلياً عن التي نعرفها حالياً، والتي من الممكن دمج الاعلانات ضمنها، فمثلاً يقوم حالياً محرك بحث غوغل التقليدي، وعند إجراء عملية بحث، بعرض قائمة من الروابط التي تحتوي على نتائج قد تكون “مدفوعة”، لكن إجابة محرك الذكاء الاصطناعي ستكون مختلفة، إذ سيقوم بتلخيص جميع المعلومات من جميع أنحاء الويب في مقالة واحدة، يتم إنشاؤها بسرعة، وهذا أمر فظيع من ناحية تحقيق الأموال بالنسبة لألفابت، التي حققت إيرادات قدرها 175 مليار دولار من البحث والإعلانات في العام الماضي، أي أكثر من نصف إجمالي مبيعاتها.
وشدد زغبي على أن استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي، لتشغيل عمليات البحث أمر مكلف للغاية، وفي حين أنه لا يوجد مصدر للإيرادات لتمويل هذه العملية، قد يكون الحل بجعلها خدمة مدفوعة، وهكذا يمكن للشركات تخفيف تكاليف البحث، كونها خدمة خاصة وغير متوفرة للجميع، وفي الوقت عينه تحقيق الإيرادات إلى حين تغيير هذا الوضع عبر انخفاض الكلفة التشغيلية للذكاء الاصطناعي، وهو أمر يحتاج لعدة سنوات.