تعزز عديد من العوامل المتزامنة المستويات القياسية للذهب، لا سيما في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية حول العالم، وفي ضوء حالة “عدم اليقين” التي تلف الاقتصاد العالمي، وبما يدعم الاتجاه نحو المعدن النفيس كملاذ آمن تقليدي في مواجهة تقلبات الأسواق والسيناريوهات الوخيمة التي تفرض نفسها على المشهد.
من بين تلك العوامل الأكثر أهمية، والتي تقود بشكل كبير مستويات وأسعار المعدن الأصفر الذي عرف أخيراً مستويات قياسية غير مسبوقة بعدما اجتاز مستوى الـ 2400 دولار للأونصة أخيراً، ما يتعلق بمشتريات البنوك المركزية التي دأبت خلال العامين الماضيين على تعزيز حيازتها من الملاذ الآمن لعوامل مختلفة، وبشكل خاص الاقتصادات الناشئة والبلدان التي تواجه عملتها تحديات واسعة، وفي خطٍ متوازٍ أيضاً مع مساعي الانفكاك من هيمنة الدولار الأميركي كعملة احتياطي بالنسبة لعدد من الدول التي تتطلع إلى رسم خيوط وملامح نظام دولي جديد قائم على التعددية القطبية.
تتعدد الأسباب ويظل المعدن النفيس المستفيد الأكبر في هذا السياق، مع زيادة الطلب عليه، سواء من قبل البنوك المركزية والمؤسسات والأفراد، كمخزن قيمة ووسيلة تحوط وملاذ آمن تقليدي في فترات الاضطرابات الاقتصادي وحالة اللايقين التي تفرض نفسها.
وتبزغ الصين في هذا السياق كأبرز مشترٍ للذهب على مدار 17 شهراً على التوالي، بينما تتبنى رؤى وأسباب مختلفة تعزز اندفاع بنك الشعب الصيني نحو المعدن النفيس.
الملاذ الآمن
يقول المدير التنفيذي لشركة VI Markets، أحمد معطي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن:
- الصين وروسيا بشكل خاص تسعيان إلى التخلص من هيمنة الدولار واليورو، والاعتماد على عملتيهما المحلية في التبادل التجاري، لا سيما بعد العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية على موسكو.
- الذهب هو الملاذ الآمن لهما ولعديد من الدول وقت الأزمات، كما أنه يعد الآداة السلعية الوحيدة في العالم المتفق عليها في هذا السياق.
- بعض الدول تلجأ لمشتريات الذهب لتجنب فرض أي عقوبات مستقبلية عليها من قبل الولايات المتحدة.. الصين على سبيل المثال لجأت لزيادة الاحتياطي من الذهب بشكل واسع، مع مشتريات الذهب لمدة 17 شهراً متتاليين عززت فيهم احتياطياتها.
- دول الاقتصادات الناشئة مثل “مصر وتركيا” على سبيل المثال، تلجأ لمشتريات الذهب لحماية العملة وتنويع استثماراتهم وتحويل الذهب لأية عملة في حال حدوث أزمات.. ولا يعني هذا التخلي عند الدولار.
وأكد أن هذه العوامل إلى جانب الأحداث والاضطربات (الجيوسياسية) التي تمر بها كثير من الدول، أدت إلى ارتفاع سعر الذهب عالمياً حتى وصل إلى مستويات قياسية، إذ سجلت أونصة الذهب 2440 دولاراً، وهو مستوى غير مسبوق لم يتم الوصول إليه من قبل (..).
وفيما يخص تأثير مشتريات البنوك المركزية من الذهب على الدولار، أكد المدير التنفيذي لشركة VI Markets، في معرض حديثه مع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن الدولار هو الأقوى في المعاملات العالمية، ولم يتأثر إلا بنسبة لم تتعدى الـ 1 بالمئة؛ خاصة في استمرار تسعير “السلاح والدواء والنفط” بالدولار.
وتابع: حتى أن التكنولوجيا يتم تسعيرها بالدولا، مثلما يحدث مع “العظماء السبع” “تسلا وآبل وأمازون وميتا وألفابت ومايكروسوفت وإنفيديا”.. ومازال الدولار الأكثر تحكماً في أكثر من40 بالمئة عالمياً (نصيب الدولار من الصادرات العالمية)، وأي محاولات جاءت من أجل تقليل الاعتماد عليه وليس لإنهائه.
وفي السياق، توقع معطي تراجع سعر الذهب في الفترة المقبلة بحيث يكون “انخفاضًا تصحيحيًا” وليس هبوطًاً بالمعني الحرفي.
تشير البيانات الصادرة عن بنك الشعب الصيني، إلى أن البلاد عززت في شهر مارس الماضي احتياطياتها من المعدن النفيس للشهر الـ 17 على التوالي، في موجة شراء طويلة، أسهمت بدورها بشكل أو بآخر في ارتفاعات المعدن النفيس وبلوغه مستويات قياسية أخيراً.
طبقاً للبيانات، فقد نما إجمالي السبائك لدى بنك الشعب الصيني إلى 72.74 مليون أونصة بنهاية شهر مارس الماضي، بزيادة بنحو 0.2 بالمئة، وبما يعد أقل زيادة في سلسلة عمليات الشراء الشهرية التي بدأت في نوفمبر 2022.
صندوق النقد الدولي والاحتياطي النقدي
من استراليا، أشار كبير الاقتصاديين في شركة ACY، نضال الشعار، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إلى أن هناك عدّة أسباب لارتفاع الطلب على الذهب أخيراً، تمثلت فيه:
- يعتبر الذهب “احتياطي نقدي” لدى المصارف المركزية في الدول النامية بشكل خاص.
- الاعتراف بالذهب كاحتياطي نقدي لدى صندوق النقد الدولي ولدى عدّة دول ومنظمات ومؤسسات دولية.
- الطلب على الذهب لدعم العملة المحلية وليس للاستثمار في عديد من الدول، وفي حال انخفاض العملة يمكن التصرف في الذهب.
- التوقعات بانخفاض أسعار الفائدة في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، بما يؤثر على سعر الدولار مقابل العملات الأخرى.
- هناك علاقة عكسية بين سعر الفائدة والذهب.
- محدودية العرض من الذهب مقارنة بالطلب عليه من المصارف المركزية وحتى من الأفراد أنفسهم.
- التوترات الجيوسياسية في نقاط مختلفة من العالم.
- يعتبر الذهب منذ آلاف السنين ملاذاً آمناً للمستثمرين.
- ظهر خلال السنوات الأخيرة نوع من “العدائية” تجاه الدولار من بعض الدول الناشئة بعد الحرب في أوكرانيا، واستخدام الدولار كسلاح اقتصادي (بالإشارة إلى العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا).
- شكلت بعض الدول “سلة عملات” من “اليورو والين” مقابل الاحتفاظ بالدولار كعملة احتياط، فأصبح الذهب منافساً للدولار.
وأكد في الوقت نفسه أن الضبابية المرتبطة بالانتخابات الأميركية، تخلق حالة من الحذر في شراء الدولار أو بيعه، خاصة في حال انتخاب دونالد ترامب الرئيس الأميركي السابق في ولاية جديدة، كونه يمتلك سياسات تحفزية، تولد هذه السياسات حالة من التضخم (..).
بحسب بيانات مجلس الذهب العالمي، فإن مشتريات ثاني أكبر اقتصاد في العالم من الذهب في العام الماضي 2023 بلغت 225 طناً، وذلك من إجمالي 1037 طناً مشتريات البنوك المركزية خلال العام.
وجاء خلف الصين (البلد المتصدر لمشتريات الذهب العام الماضي) كل من بولندا وسنغافورة وليبيا والتشيك والهند والعراق وقطر والفلبين، على التوالي.
وتصدرت ليبيا قائمة مشتريات البنوك المركزية العربية من الذهب في 2023، بإجمالي نحو 30 طناً، من أصل 54.8 طن للبنوك المركزية العربية، ومن بعد ليبيا –على المستوى العربي- جاء المركزي العراقي بمشتريات بلغت 12.3 طن.
التحديات الاقتصادية
من جانبه، أفاد محلل أول لأسواق المال في مجموعة إكويتي، أحمد عزام، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، بأن:
- بنك الصين قام بشراء الذهب لمدة 17 شهراً متتالياً، مما يجعله المشتري الأكثر شراهة بين البنوك المركزية في العام 2023.
- مشتريات الصين من المعدن النفيس العام الماضي كانت عند 225 طنًا؛ أي ما يقرب من ربع الـ 1037 طنًا التي اشترتها جميع البنوك المركزية في العالم.
وأشار إلى أن أحد الأسباب المحتملة لحيازات الصين للذهب هو زيادة حالة عدم اليقين الاقتصادي والمالي والتوترات الجيوسياسية، كما أن حيازات روسيا ارتفعت في محاولة لتجنب الآثار السلبية للعقوبات على الاقتصاد.
واستطرد: “يُنظر إلى الذهب تقليديًا على أنه ملاذ آمن خلال أوقات الاضطرابات الاقتصادية والسياسية، وأسهمت عدة أسباب في جاذبية المعدن النفيس، من ضمنها التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط وأوكرانيا، إلى جانب ارتفاع معدلات التضخم في مرحلة ما بعد كوفيد”.
بالنسبة للصين، لفت إلى أن “فورة الشراء في بكين يُنظر إليها على أنها وسيلة للتحوط ضد انخفاض قيمة العملة؛ خاصة وأن اليوان وسوق الأسهم الصينية يواجهان ضغوطًا جراء التحديات الاقتصادية التي تواجهها البلاد”.
كما أوضح أن:
- اعتماد الصين على الدولار الأميركي في التجارة الدولية كان سبباً في إثارة المخاوف بشأن تعرضها لتقلبات العملة الأميركية، وباعتبار الدولار الأميركي كعملة الاحتياطي في العالم وعملة التجارة العالمية.
- بكين حريصة على تنويع احتياطياتها من النقد الأجنبي لتقليل الاعتماد عليه. وانخفضت حيازات الصين من الدولار بشكل كبير منذ العام 2011، وهو الاتجاه الذي تسارع في مرحلة ما بعد الوباء.
- التحول نحو الذهب يتماشى مع أهداف دول البريكس، التي تفكر في عملة مشتركة لتحدي سيادة الدولار بحلول العام 2050.
- الولايات المتحدة قادرة على تسليح الدولار واستخدامه لفرض العقوبات والحفاظ على مكانتها الجيوسياسية وقد أثار هذا الموقف مخاوف بين دول البريكس، وخاصة بالنسبة للصين وروسيا.
- العقوبات المفروضة على روسيا في أعقاب حربها في أوكرانيا واستبعاد البنوك الروسية من نظام سويفت تُجسد قوة الدولار.
- العقوبات جعلت الكثير من البنوك المركزية تفكر بشكل واسع فيما تحتفظ به من احتياطياتها.
- تخشى الصين من إمكانية اتخاذ إجراءات مماثلة ضدها بسبب طموحاتها العسكرية والتوترات التجارية المستمرة مع الولايات المتحدة، وكانت هذه التخوفات سبباً في دفع بكين إلى تنويع احتياطياتها، حيث يلعب الذهب دوراً رئيسياً في هذه الاستراتيجية.
- التنويع الاقتصادي في الصين يبدو أنه توجهٌ على المدى الطويل، وعلى الرغم من ما يقرب من 17 شهراً من مشتريات الذهب المتواصلة، فإن احتياطيات الصين من الذهب لا تزال تمثل جزءاً صغيراً نسبياً من إجمالي احتياطيات بنك الشعب الصيني.
- يتوقع مجلس الذهب العالمي أن تستمر مشتريات البنوك المركزية، بقيادة الصين لعدة سنوات، مما يؤكد الالتزام بالتنويع، وذلك قد يدفع أسعار الذهب لمزيد من الارتفاعات جراء عمليات الشراءات المتتالية من البنوك في محاولة للحماية من حالة عدم اليقين الجيوسياسية والاقتصادية، كما أن قيمة الذهب المستمدة من ندرته وفائدته في مختلف الصناعات تؤكد جاذبيته.
- تكديس الصين الاستراتيجي للذهب لا يعكس فقط الجهود الرامية إلى حماية اقتصادها، بل يعكس أيضاً تحدياً للنظام المالي العالمي الحالي الذي يهيمن عليه الدولار الأميركي.
- ترغب الصين بشكل خاص في تقليل اعتمادها على الاحتياطيات المقومة بالدولار، نظرا لزيادة التوتر مع الولايات المتحدة لكن يبقى ذلك التغير الاستراتيجي في بدايته ويحتاج إلى المزيد من عمليات الشراء.
- من غير المرجح أن تحاول الصين استبدال حصة كبيرة من احتياطياتها المقومة بالدولار الأميركي بالذهب، خاصة أن الذهب ليس لديه معدل عائد متأصل مما قد يعطي تماسكاً لأداء الدولار الأميركي في الفترة المقبلة، وقد يكون أداء الدولار الأميركي إيجابياً في العام 2024 جراء إمكانية خفض الفائدة بشكل أقل مما تتوقعه الأسواق.
مزيد من الارتفاع
وتنذر زيادة مشتريات البنوك المركزية من الذهب بمزيد من ارتفاعات في أسعار المعدن النفيس خلال الفترة المقبل، وهو ما لفت إليه أخيراً كبير المحللين في أكتيف تريدز، ريكاردو إيفانجليستا، في تصريحات له، شدد خلالها على أن هناك احتمالا لمزيد من الارتفاع في أسعار الذهب وسط مشتريات البنوك المركزية ومع ارتفاع الطلب على الأصول التي تعتبر ملاذات آمنة مع تزايد القلق بين المستثمرين بشأن تصاعد الصراعات الجيوسياسية.
وأضاف أن الشكوك حول “الاقتصاد الصيني تغذي المخاوف بشأن نمو الاقتصاد العالمي، وهذا يؤدي أيضا إلى تزايد المعنويات في السوق التي تميل للبحث عن أصول الملاذات الآمنة”.
ورفع بنك غولدمان ساكس توقعاته لأسعار الذهب نهاية العام الجاري إلى 2700 دولار للأونصة، فيما كانت توقعاتُه السابقة تحوم حول مستويات الــ 2300 دولار للأونصة.