هل يسبق البنك المركزي الأوروبي مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في خفض أسعار الفائدة؟، سؤال يتردد كثيراً في أسواق العالم وخصوصاً بعد البيانات الأخيرة التي تم الكشف عنها حول معدلات التضخم الصادرة عن كل من منطقة اليورو والولايات المتحدة.
وأظهرت البيانات الصادرة عن مكتب الإحصاءات الأوروبي “يورو ستات” أن القراءة النهائية لمؤشر أسعار المستهلكين السنوي بمنطقة اليورو جاءت متوافقة مع توقعات الأسواق، حيث تباطأ التضخم السنوي ليسجل 2.4 بالمئة خلال مارس الماضي، مقارنة مع 2.6 بالمئة في فبراير.
أما التضخم الأوروبي الأساسي (الذي يقيس التغيير في أسعار السلع والخدمات باستثناء تغيرات أسعار الغذاء والطاقة والكحول والتبغ) فقد أظهرت بيانات “يورو ستات” تباطؤ مؤشره إلى 2.9 بالمئة خلال مارس الماضي، وهو ما جاء متوافقاً مع توقعات الأسواق أيضاً مقارنة مع 3.1 بالمئة في فبراير.
في حين جاءت بيانات التضخم في الولايات المتحدة في مارس صادمة للفيدرالي وغير متوافقة مع توقعات الأسواق، حيث تسارع معدل التضخم السنوي للشهر الثاني على التوالي إلى 3.5 من 3.2 بالمئة في فبراير، وهو أعلى من توقعات السوق البالغة 3.4 بالمئة، بحسب بيانات مكتب إحصاءات العمل التابع لوزارة العمل.
وبالنسبة لمؤشر التضخم الأساسي، الذي يستثني التغير في أسعار الطاقة والغذاء، فاستقر في مارس عند 3.8 بالمئة، على أساس سنوي، على عكس توقعات المحللين بانخفاضه إلى 3.7 بالمئة.
هذه البيانات زادت شكوك الأسواق فيما إذا كان مجلس الاحتياطي الفيدرالي سيخفض أسعار الفائدة في يونيو المقبل، حتى أن جيروم بأول رئيس الاحتياطي الفيدرالي بدد الآمل بأي خفض قريب للفائدة وقتما حذر خلال حلقة نقاشية في مركز ويلسون أخيراً من أن التضخم المرتفع باستمرار من المرجح أن يؤخر أي خفض في أسعار الفائدة الفيدرالية حتى وقت لاحق من هذا العام لأن “البيانات الأخيرة لم تمنحنا ثقة أكبر بشكل واضح” في أن زيادات الأسعار تحت السيطرة.
بل ذهب بأول أبعد من ذلك عندما أضاف: “إن أحدث تقارير التضخم تشير إلى أنه من المرجح أن يستغرق الأمر وقتاً أطول من المتوقع لتحقيق تلك الثقة، في الوقت الحالي، نظراً لقوة سوق العمل والتقدم بالنسبة للتضخم حتى الآن، ومن المناسب السماح للسياسة التقييدية بمزيد من الوقت للعمل، والسماح للبيانات والتوقعات المتغيرة بإرشادنا”.
في حين أن أعطى معدل التضخم في أوروبا الذي بات قريباً من مستهدف المركزي الأوروبي، جرعة تفاؤل للأسواق بأن خفض الفائدة أضحى قريباً، حتى أن رئيسة البنك كريستين لاغارد قالت على هامش اجتماعات الربيع لصندوق النقد الدولي “إن البنك المركزي على مسار خفض أسعار الفائدة على المدى القريب ما لم تحدث صدمات كبيرة، إننا نراقب عملية تراجع التضخم التي تسير وفق توقعاتنا”.
وتصريحات لاغارد جاءت بعد أن أعطى البنك المركزي الأوروبي إشارات واضحة على احتمالية البدء في خفض أسعار الفائدة خلال اجتماع يونيو المقبل.
وأبقى الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة في مارس الماضي للمرة الخامسة على التوالي، دون تغيير، لتظل عند مستوى يتراوح بين 5.25 و5.5 بالمئة، بينما توقف عن رفع الفائدة للمرة الأولى في سبتمبر 2023، وذلك بعد زيادتها 11 مرة منذ مارس 2022.
كما أبقى البنك المركزي الأوروبي، على أسعار الفائدة الرئيسية دون تغيير، في أبريل الجاري للمرة الخامسة على التوالي، لتظل عند مستوى 4 بالمئة الذي وصل إليه في سبتمبر 2023، بعد 10 زيادات منذ ديسمبر 2021.
استقلال أوروبا عن أميركا في السياسات النقدية
قال الرئيس التنفيذي ورئيس الاستثمار في “ATA Global Horizons”، علي حمودي “يبدو أن الأسواق أصبحت مقتنعة أخيراً بأن بنك الاحتياطي الفيدرالي سيبقي أسعار الفائدة أعلى لفترة أطول مما توقعها، نتيجة الأرقام الواردة من الولايات المتحدة عن التضخم وفرص العمل، غير المتوقعة، وهذا يعني أنه يتعين على مجموعة من الجهات الفاعلة المختلفة في الاقتصاد والأسواق تعديل استجابتها وتفاعلها، إن كيفية قيامهم بذلك سيكون له تأثيرات عميقة، ولكنها ستكون مدفوعة في النهاية بمشاعر المستثمرين أي كيف يشعرون تجاه البيانات التي يرونها، وكيف يغير ذلك سلوكهم؟”.
وأضاف حمودي في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية: “لو انتقلنا إلى منطقة اليورو، فأعلنت مؤخراً كريستين لاغارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي، استقلال أوروبا عن الولايات المتحدة بالنسبة لمجرى السياسات النقدية، ومن ثم استيقظت الأسواق العالمية على الصدمة الهائلة التي أحدثتها أرقام مؤشر أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة، وقررت أن لاغارد كانت على حق”.
يونيو المقبل موعد خفض الفائدة في منطقة اليورو
وفي آخر مؤتمر صحفي حول السياسة النقدية للمركزي الأوروبي، تمكنت لاغارد، من إعادة التأكيد على أن الجميع يجب أن يتوقعوا خفض أسعار الفائدة في يونيو المقبل، على الرغم من أنه يبدو الآن من غير المرجح أن يفعل بنك الاحتياطي الفيدرالي نفس الشيء، ولم يكن الأمر مفاجئاً، فقد تجنبت أي شيء يمكن تفسيره بشكل مقلق، وارتفعت سوق السندات الأوروبية بعد تصريحاتها، بحسب تعبيره.
ويستطرد الرئيس التنفيذي ورئيس الاستثمار في “ATA Global Horizons” بقوله: “الكلمات الرئيسية الجديدة من بيان لاغارد، والتي تكررت عدة مرات خلال الأسئلة، وردت في هذه الجملة: إذا كان تقييمنا المٌحدث لتوقعات التضخم وديناميكيات التضخم الأساسي وقوة انتقال السياسة النقدية سيزيد من ثقتنا في أن التضخم يقترب من هدفنا بطريقة مستدامة، فسيكون من المناسب تقليل تشديد السياسة النقدية التصحيحية الحالية”.
وأوضح حمودي أن هذا الأمر لا يزال مشروطاً وليس “التزاما مسبقاً” كما كررت لاغارد عدة مرات، ولكنها تحاول ان تُخبر السوق أنه سيكون هناك تخفيض في أسعار الفائدة في الاجتماع التالي، ما لم تُظهر البيانات من الآن وحتى اجتماع البنك المركزي الأوروبي في يونيو أن التضخم لا يزال راسخاً في منطقة اليورو.
تأثير خفض الفائدة على اليورو
ويرى محلل الأسواق حمودي أن “المشكلة الكبرى التي يواجهها البنك المركزي الأوروبي في المضي قدماً بمفرده بخفض الفائدة هي التأثير على اليورو، الذي شهد بالفعل بضعة أيام صعبة، وهذا أمر منطقي لأن الفجوة بين أسعار الفائدة المتاحة في منطقة اليورو والولايات المتحدة اتسعت لصالح الأخيرة، ولكن في السياق الأوسع، يظل اليورو ضمن نطاقاته الأخيرة، ويتماشى مع الاتجاه طويل المدى”.
حالتا التضخم في أوروبا وأميركا غير متماثلتين
ومع ذلك يبرز السؤال المهم.. هل من الحكمة أن ينفصل البنك المركزي الأوروبي عن بنك الاحتياطي الفيدرالي؟
حمودي يطرح التساؤل ويجيب عليه بقوله: “رفضت رئيسة البنك المركزي الاوروبي هذه المقارنة عندما أشارت إلى أن حالتي التضخم ليستا متماثلتين، وعلى وجه التحديد، كانت السياسة المالية الأميركية مختلفة تماماً، وكذلك كانت استجابة المستهلكين الأميركيين”.
ومع ذلك يرى الرئيس التنفيذي ورئيس الاستثمار في “ATA Global Horizons” أن “التضخم له تشابه واضح، إن صدمة الطاقة الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا أصابت أوروبا أكثر من الولايات المتحدة، ولكن تضخم أسعار الطاقة اتبع نمطاً مشابهاً إلى حد كبير، وكانت أوروبا أكثر تأثراً، ولكن ليس بشكل كبير.
هل يحتاج الاقتصاد الأميركي لخفض الفائدة؟
إن السبب الرئيسي وراء توجه البنك المركزي الأوروبي لخفض سعر الفائدة مبكراً يعود إلى أن اقتصاده أضعف من اقتصاد الولايات المتحدة، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال ارتفع مؤشر مديري المشتريات التصنيعي في مارس الماضي فوق مستوى الـ 50 الذي يشير إلى الحد الفاصل بين التوسع والركود. ومن الواضح أن مقياس التصنيع في أوروبا يظل في منطقة الركود. لذا يمكن الاستنتاج أن الأميركيين فعلاً لا يبدو أنهم بحاجة إلى خفض أسعار الفائدة بشكل سريع لكن الأوروبيين يحتاجون إليها، وفقاً لحمودي.
بنك أوروبا سيتصدر البنوك المركزية الكبرى في تخفيض الفائدة
من جانبه، قال محلل أول لأسواق المال في مجموعة إكويتي، أحمد عزام في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “بناء على الأرقام الاقتصادية الحالية ونبرة صانعي السياسة النقدية، يمكنني القول بأن البنك المركزي الأوروبي سيتجه لتخفيض الفائدة قبل البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي”.
إن انخفاض التضخم بشكل أسرع من المتوقع في أوروبا وتتجاوز التضخم في أميركا التوقعات يجعل الأسواق تعتقد بأن بنك أوروبا قد يقود طليعة البنوك المركزية الكبرى لتخفيض الفائدة، حيث وصول التضخم في منطقة اليورو إلى مستوى 2.4 بالمئة وهو الانخفاض الشهري الرابع على التوالي ما يبث الآمال بأن الوصول إلى مستهدف البنك المركزي الأوروبي للتضخم (2 بالمئة) بات في المتناول، بحسب عزام.
وأضاف محلل الأسواق عزام “بينما التضخم في الولايات المتحدة سجل زيادة ليصل إلى 3.5 بالمئة وحتى مؤشر نفقات الاستهلاكي الشخصي وهو المؤشر المفضل للفيدرالي الأميركي لتتبع حالة التضخم ارتفع، ويبدو أن الأدلة الحالية خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام تعطي انطباعاً بأن زخم التضخم قد تراجع في أوروبا بشكل أكبر من الولايات المتحدة”.
الفائدة والنمو الاقتصادي
كما أن النمو الاقتصادي في أوروبا يعاني منذ 15 شهراً، حيث سجل ثلاث قراءات ربع سنوية عند الصفر وواحدة سلبية وأخرى 0.1 بالمئة، بمعنى أن النمو الاقتصادي مسطح في أوروبا مما يدفع التوقعات بأن لا يكون هناك تأثير إيجابي على التضخم من ناحية، ومن ناحية أخرى، قد يحرك صانعي السياسة النقدية في أوروبا لتخفيض الفائدة في محاولة لدفع النمو الاقتصادي بشكل إيجابي، حسب تعبيره.
وذكر محلل أول لأسواق المال في مجموعة إكويتي أن النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة لايزال قوي بشكل مدهش، حيث كانت ست قراءات ربع سنوية ممتازة، ختامها مع قراءة الربع الأخير لعام 2023 عند 3.4 بالمئة، فالنمو الاقتصادي القوي يعتبر جيداً في خضم الفائدة المرتفعة، لكن يبقى يثير المخاوف بأن النمو الاقتصادي الجيد قد يشعل فتيل التضخم مرة أخرى، لذا قد يتأخر الفيدرالي الأميركي في عملية خفض الفائدة لمتابعة حالة التضخم والاقتصاد.
وبالنظر إلى نبرة رؤساء البنوك المركزية، فكريسيتن لاغارد (رئيسة البنك المركزي الأوروبي) قد أشارت إلى إمكانية خفض أسعار الفائدة في الصيف، بينما رئيس الفيدرالي الأميركي جيروم باول كان قد أشار إلى أهمية متابعة الأرقام الاقتصادية القادمة، وأنه من الممكن أن يمر التضخم بعدد من المطبات على حد تعبيره. بمعنى أن المخاوف لا تزال قائمة من أن موجة تضخم قد تكون قادمة، طبقاً لما قاله عزام.