د. أيمن سمير
«غير المتوقع يأتي دائماً». هكذا يقول المثل الأمريكي الشهير، وغير المتوقع لكلا المرشحين، الديمقراطي والجمهوري، في الانتخابات الأمريكية التي ستجرى في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، قد يأتي من «المرشحين الصغار»، أو«النيران الصديقة»، من المنشقين عن الحزبين، أو حتى من الذين اعتادوا الترشح في كل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لكن كل المخاوف تدور حول ما يسمى ب«الأحصنة السوداء» التي يمكن أن تشكل «الخيار الثالث» للناخبين المستقلين، أو الساخطين على اختيارات، الجمهوريين والديمقراطيين، معاً، فجميع استطلاعات الرأي، بلا استثناء، تؤكد ارتفاع نسب التأييد لمرشحين من خارج صفوف الجمهوريين والديمقراطيين في ظل حالة الاستقطاب السياسي والحزبي التي سادت البلاد منذ انتخابات نوفمبر 2016، وتعمقت في انتخابات 2020، وتجسد ذلك في أحداث اقتحام الكونغرس في 6 يناير/ كانون الثاني 2021.
- افتقاد الهوية الحزبية
هناك من يرى أن كلا الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، فقد روحه وهويته الحقيقة التي تأسست عليها مبادئ الحزبين الكبيرين، وتشير الاتهامات هنا، إلى اختطاف اليسار والجناح اليساري للحزب الديمقراطي، بينما اختطف اليمين القومي والمتشدد الحزب الجمهوري، وبات الناخبون يبحثون عن مرشح جديد يمثل منطقة «الوسط»، وهذا الشعور لا يخالج المستقلين فقط، بل أطياف واسعة من منتسبي الحزبين، وفق أحدث استطلاعات الرأي التي أجراها معهد بيو، وعدد من الجامعات الأمريكية، وهو ما يقول إن المرشح الجمهوري، أو الديمقراطي، الذي سيدخل البيت الأبيض في 20 يناير المقبل سيكون مديناً بالفضل ليس للمؤسسة الجمهورية أو الديمقراطية التي رشحته، ووقفت بجانبه، بل لمرشح أو مرشحين آخرين حرموا غريمه السياسي من الحزب الآخر من النجاح في الانتخابات، فهل يمكن أن يفوز مرشح مستقل، أو من الأحزاب الصغيرة بالرئاسة الأمريكية؟ وهل هناك سوابق لنجاح رئيس أمريكي بسب وجود مرشحين مستقلين، أو من أحزاب صغيرة ومجهولة على قائمة المرشحين ؟ ولماذا يخشى الديمقراطيون، دون غيرهم، هذا السيناريو؟
- استحالة الحصول على 50+1
الاستطلاعات التي جرت منذ بداية العام، وحتى 30 إبريل الماضي، تؤكد أنه لن ينجح أي من المرشحين المحتملين، جو بايدن عن الحزب الديمقراطي، ودونالد ترامب عن الجمهوري، في الحصول على 50 % +1 من أصوات الناخبين، وهناك اعتقاد سائد بين منظمي الحملات الانتخابية أن تكرار سيناريو فوز الديمقراطي، بيل كلينتون ب 43 % فقط أمام جورج بوش الأب، يمكن أن يتكرر بقوة بعد 5 أشهر من الآن، لعدد من الأسباب منها:
- أولاً: الانقسام السياسي بين الحزبين
تعيش الولايات المتحدة حالة غير مسبوقة من الانقسام السياسي، لدرجة أن البعض بات يشبّه الاقتتال السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين، بحالة التشظى والخلافات التي سادت النخبة السياسية الأمريكية ليلة الحرب الأهلية الأمريكية عام 1861، والتي أدت لمقتل نحو 650 ألفاً، فلا توجد «مساحة مشتركة» بين الحزبين في القضايا التي تتصدر اهتمام الناخب، مثل ملف تأمين الحدود مع المكسيك، أو حيازة السلاح الشخصي، وجرائم القتل الجماعي، أو كيفية التعامل مع الملفات الخارجية، مثل الصراع الروسي الأوكراني، والحرب في الشرق الأوسط، وزيادة وتيرة التنافس مع الصين، كما أن الاتهامات المتبادلة غير مسبوقة، فالرئيس جو بايدن يصف المرشح الجمهوري المحتمل دونالد ترامب بأنه خطر على أمريكا والديمقراطية، وأن انتخابه يمكن أن يقوض الاتحاد الذي جمع 50 ولاية أمريكية منذ نحو 250 عاماً، ويشير في هذا الأمر إلى احتمالية عدم تعاون حكام الولايات الديمقراطيين مع الحكومة الفيدرالية لو فاز ترامب.
على الجانب الآخر، يعتبر ترامب أن كل مشاكل العالم، وليس أمريكا وحدها، سببها سياسات بايدن، وكل هذا يعني عملياً غياب المرشح الديمقراطي الذي يمكن أن يحصل على أصوات الجهوريين على يسار الحزب الجمهوري، وأيضاً غياب المرشح الجمهوري الذي يستطيع أن يحصل على أصوات من الديمقراطيين على يمين الحزب، وبسبب كل ذلك يؤيد نحو 60% من الجمهور الأمريكي اختيار «شخصية معتدلة» بعيداً عن «الاستقطاب الحزبي»، ودعم 62% من الديمقراطيين مرشح «الطريق الثالث»، بينما دعم هذا التوجه 49% من الجمهوريين، و78% من المستقلين، وما يؤشر على قوة هذا المسار أن هناك 67% من الشباب من مختلف الانتماءات السياسية قالوا إنهم سوف يصوتون لمرشح ثالث، وفي تأكيد على جدية هذا التوجه، وفي استطلاع رأي منفصل لمصلحة جامعة ميتشغان قال 66% إنهم لا يريدون ترشح بايدن مرة أخرى، ورفض 58% ممن شاركوا في هذا الاستطلاع ترشح ترامب مجدداً.
- ثانياً: تعميق سلبيات الحزبين
تحليل الحالة الانتخابية لكلا المرشحين المحتملين تؤكد أن كلاهما يعاني مشاكل وسلبيات لم تكن موجودة لدى أي مرشح خلال الخمسين عاماً الأخيرة، فكلا الرجلين متقدم في السّن، ما دفع 59% من الأمريكيين يقولون إنهم يحتاجون إلى رئيس أصغر من بايدن الذي سيبلغ 86 عاماً في 20 يناير 2029 لو فاز في الانتخابات، بينما منافسه الجمهوري ترامب سيكون يكون عند 82 عاماً عام 2029 لو فاز مرة أخيرة في نوفمبر، وليس مشاكل السّن فقط، بل تشكل القضايا القانونية التي تلاحق ترامب سابقة في التاريخ الأمريكي، حيث يمكن أن يكون ترامب أول رئيس يحكم من خلف القضبان في ظل ما يقوله الديمقراطيون من جدية القضايا المرفوعة عليه، وهو مأزق ليس بعيداً عن المرشح الديمقراطي بايدن المتهم في قضايا فساد ارتكبها نجله هانتر، الأمر الذي دفع أعضاء جمهوريين في مجلس النواب للدعوة لاستكمال خطوات عزل بايدن في الكونغرس
رغم هذه المؤشرات القوية على توجه نسبة لا يستهان بها لاختيار رئيس من خارج الجمهوريين والديمقراطيين إلا أن هناك اتفاقاً على أن فوز رئيس من خارج الحزبين لا يزال صعباً، رغم كل المشاكل الكبيرة التي يعانيها الحزبان، رغم تحقيق بعض المرشحين المستقلين نتائج جيدة في بعض الانتخابات، منها حصول ميلارد فيلمور مرشح «الحزب الأمريكي» عام 1865 على 21.5 % من الأصوات، وحصول جورج والاس مرشح «حزب المستقلين الأمريكيين» عام 1868 على 13.5 % من الأصوات لكن كل الخوف يأتي من تحوّل المرشحين الصغار إلى «صانعي رؤساء»، بمعنى أن أي نسبة يحصل عليها مرشح مستقل مثل روبرت كينيدي جونيور، إبن شقيق الرئيس الأسبق جون كينيدي، أو مرشحة حزب الخضر جيل شتاين، يمكن أن تأخذ أصوات من ناخبي أحد المرشحين، لمصلحة المرشح الآخر، وتاريخ الانتخابات شاهد على تسبب مرشحين مستقلين، أو من حزب الخضر، بأصوات لعبت الدور الحاسم في ترجيج كفة مرشح على الآخر، ومنها على سبيل المثال:
- 1 – فوز ترامب وخسارة هيلاري عام 2016
لا يزال يتذكر الديمقراطيون أن مرشحتهم خسرت انتخابات 2016 بسبب المرشحين المغمورين على المستوى الوطني، ويتهمون الأصوات التي حصلت عليها جيل شتاين، مرشحة حزب الخضر، وأصوات جاري جونسون مرشح «الحزب التحرري»، بأنها لعبت الدور الحاسم في فوز ترامب على هيلاري كلينتون، بخاصة أن هيلاري فازت بأعلى الأصوات على المستوى الوطني، بينما فاز ترامب في المجمع الانتخابي، ويعود هذا إلى أن فوز ترامب على هيلاري كان بأعداد قليلة للغاية، بينما سحب المرشحون الآخرون الأصوات من هيلاري كلينتنون، ويؤكد تحليل الأرقام والبيانات لانتخابات عام 2016 أن ترامب فاز في ولاية بنسلفانيا بأغلبية 47 ألفاً و292 صوتاً، وفاز بولاية ميشيغان بأغلبية 10 آلاف و704 أصوات فقط، وفي ولاية ويسكونسن بأغلبية 22 ألفاً و748 صوتاً، وكان يمكن لهيلاري كلينتنون أن تفوز ما لم تترشح جيل شتاين مرشحة حزب الخضر، أو جاري جونسون مرشح «الحزب التحرري»، فقد حصل جاري جونسون في هذه الولايات على ما بين 2.5 و3.6 % من الأصوات، ولا تشك مؤسسة الحزب الديمقراطي في أن أغلبية الأصوات التي ذهبت إلى شتاين وجونسون كانت ستذهب لهيلاري كلينتتون، لأن أجندة حزب الخضر أقرب للديمقراطيين منها إلى الجمهوريين، ويعزز هذه الرؤية لدى الديمقراطيين أن مجموع ما حصلت عليه هيلاري كلينتون ودونالد ترامب 129 مليون ناخب، ما يساوي 94.2 % فقط، بينما ذهبت أصوات 5.8 % أي نحو 7 ملايين ناخب إلى جيل شتاين وجاري جونسون، وغيرهما من المرشحين المستقلين، أو مرشحي الأحزاب الصغيرة، لكن ما يجعل الديمقراطيين يتحسرون أكثر، هو أن عدد الأصوات التي فاز بها جاري جونسون وحده بلغت أضعاف الفارق الذي خسرت به كلينتون في عدة ولايات حاسمة، إذ حصل جونسون على ١٧٢ ألف صوت في ولاية ميشيغان، و146 ألفاً في ولاية بنسلفانيا، و106 آلاف في ولاية ويسكونسن
- 2 -آل جور الفائز الحقيقي
لا يشك ديمقراطي واحد في أن مرشح حزب الخضر رالف نادر، هو سبب خسارة الديمقراطيين للانتخابات الرئاسية عام 2000 التي جمعت المرشح الجمهوري جورج بوش الابن، والديمقراطي آل جور، وهناك يقين لدى قاعدة الناخبين الديمقراطيين بأن آل جور الفائز في الانتخابات عام 2002 ما لم يترشح رالف نادر، فوفق النتائج الرسمية كان هناك تقارب شديد بين الحزبين، وكانت ولاية فلوريدا التي يمثلها 29 عضواً في المجمع الانتخابي هي الفيصل، وبعد الخلافات والذهاب للمحكمة وإعادة فرز الأصوات فاز جورج بوش الابن بفارق 537 صوتاً فقط، وفي الولاية نفسها حصل رالف نادر الذي ترشح عن حزب الخضر على 97 ألفاً و488 صوتاً في فلوريدا، وكان آل جور يحتاج فقط لنحو 538 صوتاً فقط، ليعلن فوزه.
- 3 -روبرت جونيور كيندي وتيدي روزفلت
يخشى الديمقراطيون أن تتفتت أصوات حزبهم بسبب إصرار الديمقراطي «روبرت جونيور كنيدي»، ابن أخ الرئيس جون كنيدي على الترشح كمستقل، بعد أن فشل في الحصول على دعم الحزب الديمقراطي، وتقول استطلاعات الرأي أن روبرت كيندي الابن، قد يحصل على أصوات تصل لأكثر من 10 % من مجموع الناخبين، ما يؤثر سلباً في صلابة القاعدة الانتخابية الديمقراطية الداعمة للرئيس بايدن، كما يخشى الديمقراطيين تكرار سيناريو تيد روزفلت في بداية القرن العشرين، عندما حصل هذا المرشح الذي دخل الانتخابات بصفته «مستقلاً» على المرتبة الثانية في انتخابات نوفمبر 1912، وكان تيدي روزفلت قبل ذلك نائباً للرئيس الجمهوري وليام ماكينلي الذي اغتيل في 1900، وبموجب الدستور الأمريكي أصبح تيدي رئيساً خلفاً لماكينلي، ثم جرت إعادة انتخاب تيدي روزفلت عام 1904، لكنه لم يترشح لولاية ثالثة عام 1908 التي فاز فيها زميله الجمهوري وليام هوارد تافت، وأرادت مؤسسة الحزب الجمهوري أن تعيد انتخاب تافت لولاية ثانية عام 1912، كما جرت العادة بأن أي رئيس في البيت الأبيض هو مرشح لولاية ثانية ما لم يكن هناك عوامل غير طبيعية، مثل المرض الشديد، أو العجز، لكن تيدي روزفلت رفض هذا الرأي، وأصر على الترشح بدلاً من الرئيس تافت، وعندما اختار الحزب الجمهوري ترشيح تافت قام تيدي روزفلت بترشيح نفسه «كجمهوري مستقل»، ما أدى في النهاية إلى تفتيت أصوات الجمهوريين، حيث فاز تيدي بالمركز الثاني ب27.4 % من الأصوات، بينما حصل الرئيس تافت على 23.2 % فقط، وخسر كل من تيدي وتافت لمصلحة المرشح الديمقراطي وودرو ويلسون
- 4 – تفتيت الأصوات لمصلحة بيل كلينتون
ساهم تفتيت أصوات الجمهوريين في انتخابات 1992 في فوز الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون، على منافسه الجمهوري جورج بوش الأب، وحدث ذلك بسبب ترشح الملياردير الشعبوي روس بيرو، الذي حصل على 18.5 % من الأصوات يعتقد الجمهوريين أنها كانت أصوات جمهورية، وحصل وقتها الرئيس جورج بوش الأب على 37.5 % فقط، ولو أضيف إليها 18.5 % التي حصل عليها روس بيرو كان الرئيس بوش الأب حصل على أكثر من 50 +1، وما يؤكد هذه الفرضية أن الفائز في هذه الانتخابات وهو الرئيس، بيل كلينتون، حصل على 43 % فقط من الأصوات.
واضح أن المشهد الانتخابي الأمريكي معقد للغاية، وتزيد من تعقيداته عدم اليقين بشأن قضايا غير محسومة، ويمكن أن يطرأ عليها تغيرات دراماتيكية قبل 5 نوفمبر المقبل، مثل الحكم بالسجن على المرشح الجمهوري دونالد ترامب، أو حدوث عارض صحي للرئيس جو بايدن، لكن الثابت أن تأثير المرشحين المستقلين، ومرشحة حزب الخضر، سيجسد مكانة هذه الأحزاب ك«صناع رؤساء» في الانتخابات الأمريكية.