في ظل التغيرات المناخية المتسارعة، يتزايد الاهتمام بتقييم تأثيرات الاحتباس الحراري على الاقتصاد العالمي، وغالباً ما يُستخدم الناتج المحلي الإجمالي كمقياس رئيسي لهذه التأثيرات.. فهل يعد الـ GDP فعلاً المقياس الذي يمكن من خلاله فهم التأثيرات الأوسع لتغير المناخ على الاقتصاد العالمي بشكل دقيق وواضح؟
الناتج المحلي الإجمالي هو مقياس اقتصادي يمثل القيمة الإجمالية للسلع والخدمات التي يتم إنتاجها في بلد معين خلال فترة زمنية محددة.
ويُستخدم كأداة لقياس النمو الاقتصادي والتقدم. لكن مع تعقد وتعدد أوجه تأثيرات التغير المناخي، يبدو أن الاعتماد على الناتج المحلي الإجمالي وحده يكون قاصراً في تقديم صورة شاملة عن هذه التأثيرات.
من بين أبرز الإشكالات التي يثيرها استخدام الـ GDP في تقييم تأثيرات التغير المناخي، ما يرتبط بتجاهل التكاليف البيئية والاجتماعية، ذلك أنه قد لا يأخذ في الحسبان التكاليف البيئية والاجتماعية المرتبطة بتغير المناخ، مثل تدهور الأراضي الزراعية وفقدان التنوع البيولوجي، وتزايد الكوارث الطبيعية، علاوة على عدم مراعاة الاستدامة، وتجاهل توزيع الثروات، وغيرها من الأمور.
وبالتالي، فإنه رغم أن الناتج المحلي الإجمالي يعد مقياساً مهماً للنشاط الاقتصادي، إلا أنه غير كافٍ لتقييم التأثيرات الواسعة لتغير المناخ على الاقتصاد العالمي، وثمة حاجة إلى تبني مقاييس مكملة أو بديلة تأخذ في الاعتبار الجوانب البيئية والاجتماعية والاستدامة، مما يمكن من فهم أعمق وأكثر شمولية لهذه التأثيرات.
وبذلك، يمكن تحقيق توازن أفضل بين النمو الاقتصادي والمحافظة على البيئة والرفاهية الاجتماعية.
تناقض
يثير تيري كانون، وهو زميل أبحاث أول فخري بمعهد دراسات التنمية في جامعة ساسكس البحثية البريطانية، في تصريحات نقلتها صحيفة “الغارديان” البريطانية، هذه الإشكالية المرتبطة بقصور الناتج المحلي الإجمالي (GDP) كمقياس لتأثيرات الاحتباس الحراري. ويشير كانون إلى أن :
- الشكوى من أن الاحتباس الحراري سيضر بالناتج المحلي الإجمالي “هي نوع من التناقض”.
- “انخفاض الناتج المحلي الإجمالي العالمي هو أحد أفضل الأشياء التي يمكن أن تحدث للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي إذا أدى ذلك إلى تقليل استهلاك المنتجات والخدمات كثيفة الكربون”!
- الناتج المحلي الإجمالي هو مقياس غير كافٍ لتقييم الآثار السلبية للاحتباس الحراري.
- من المهم أن نفهم تأثيرات تغير المناخ على رفاهية الناس وسبل عيشهم، وهي أمور لا يقيسها الناتج المحلي الإجمالي بشكل جيد.
أزمة المناخ والناتج المحلي
يقول عضو البرلمان العالمي للبيئة، وفيق نصير، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن تقرير صحيفة الغارديان لمس موضوعاً مثيراً للجدل حول الناتج المحلي الإجمالي وأزمة المناخ.
يتفق نصير مع ما ورد في التقرير، لا سيما فيما يتصل بأنه من شأن انخفاض الناتج المحلي الإجمالي حتى أن يؤثر إيجاباً بصورة ما على البيئة والكوكب بشكل عام، على اعتبار أن تقليل الإنتاج والاستهلاك قد يسهم في تقليل انبعاثات غازات الدفيئة وتحسين جودة الهواء والماء. بينما على الجانب الآخر يؤثر تقلص الناتج في فقدان فرص العمل وزيادة مستويات الفقر والتأثير سلباً على المجتمعات والسياسات البيئية أيضاً.
ويضيف: “الأهم من ذلك هو ما يتعلق بخفض الإنتاج الذي يُستخدم فيه الوقود الأحفوري واستبدال الوقود المستدام به، والتوسع في مشاريع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرها من مصادر الطاقة النظيفة”.
ومن ثم، تبزغ الحاجة إلى أدوات تقييم شاملة أوسع وأكثر دقة لتداعيات أزمة المناخ، تتجاوز حدود قياس الخسائر الاقتصادية الناجمة عنه من أرقام الناتج المحلي الإجمالي.
ويشار إلى أن أحدث الدراسات التي ربطت بين تداعيات أزمة تغير المناخ وخسائر الناتج المحلي الإجمالي العالمي، قد قدّرت خسارة بنحو 20 بالمئة أو بما يعني تقلص الناتج بحوالي 38 تريليون دولار في العام 2050.
الدرسة المنشورة في مجلة نيتشر، قبيل أسابيع، ذكرت أن تلك الخسائر تأتي “بعض النظر عن طبيعة وقوة الجهود المبذولة من أجل خفض التلوث الكربوني”.
رفاهية الناس وسبل عيشهم
وبالعودة لحديث تيري كانون في “الغارديان” فإنه يلفت إلى أن ما يقرب من نصف سكان العالم في ما يسمى بـ “الجنوب العالمي” الذين يعيشون في فقر يعتمدون على أشكال زراعية أو رعي هشة.. هؤلاء الناس يعيشون كأصحاب أراضي يعتمدون على الكفاف أو كأجراء في مزارع الآخرين، ومساهمتهم في الناتج المحلي الإجمالي أقل بكثير من أهمية سبل عيشهم، على اعتبار أن قيمة إنتاجهم مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية.
ويتوقع صندوق النقد الدولي نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي العالمي 3.2 بالمئة لعامي 2024 و2025، وهو المعدل ذاته لعام 2023. وجرى تعديل توقعات عام 2024 بالرفع 0.1 نقطة مئوية عن تقديرات تقرير آفاق الاقتصاد العالمي السابق في يناير، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى المراجعة الصعودية الكبيرة لتوقعات نمو الاقتصاد الأميركي.
تأثير عكسي!
وتعبيراً عن فكرة التناقض فيما يتعلق بالشكوى من أن الاحتباس الحراري سيضر بالناتج المحلي الإجمالي، يؤكد استشاري التغيرات المناخية بالأمم المتحدة، عضو الهيئة الدولية لتغير المناخ، سمير طنطاوي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن انخفاض الناتج المحلي على الجانب الآخر بالفعل قد تكون له تأثيرات إيجابية على الحد من استهلاك الطاقة، وبالتالي “خفض معنوي” في حجم الانبعاثات بمعدل يتناسب طردياً مع تقلص الناتج المحلي، وقد يسبب ذلك تعافياً مؤقتاً للغلاف الجوي من تركيزات غازات الاحتباس الحراري التي وصلت تركيزاتها حالياً إلى أكثر من 420 جزء في المليون.
ويشير إلى أن الوصول إلى تركيزات تعادل 450 جزءاً في المليون يعني ارتفاع في متوسطات حرارة الغلاف الجوي لأكثر من 2 درجة مئوية، وهو ما أنشئ على أساسه اتفاق باريس للمناخ للحيلولة دون حدوث ذلك السيناريو.
لكنه يلفت إلى التأثيرات البيئية أيضاً لتراجع الناتج المحلي، والذي قد يتبعه خفض في الإنفاق على مناحي التنمية كافة وخاصة النواحي البيئية والاجتماعية، وهي قطاعات تعاني في الأساس من محدودية الإنفاق. ويشدد على أن أحد أسباب المشاكل البيئية والتغيرات المناخية هو عدم توفير التمويل اللازم للعمل المناخي تحديداً.
ويشير استشاري التغيرات المناخية بالأمم المتحدة، عضو الهيئة الدولية لتغير المناخ، إلى المخرجات الصادرة عن مؤتمر الأطراف “COP28” في دبي نوفمبر الماضي وما أكدت عليه من إجراءات مختلفة، لافتاً إلى أهمية مضاعفة الاستثمارات في المجالات التي تسهم في خفض الانبعاثات على المدى المتوسط والبعيد، مثل تحسين كفاءة الطاقة والتوجه نحو الطاقات المتجددة والحفاظ على الغابات ومنع قطعها، وتعزيز الاستثمار في الاقتصاد الأزرق والذي يشمل الحفاظ على البحار والمحيطات من التلوث.