تشهد العديد من دول العالم تغيرات ديموغرافية سريعة، بسبب انخفاض معدلات الخصوبة وطول العمر المتوقع للإنسان، حيث من المنتظر أن تكون لهذا الاتجاه، انعكاسات بعيدة المدى على الاقتصاد.
فآثار التغيرات الديموغرافية وشيخوخة السكان، تمتد بشكل متزايد في أرجاء العالم وخصوصاً في أوروبا، التي لطالما أثار موضوع تقلص عدد سكانها، المخاوف المرتبطة بالآفاق الاقتصادية في القارة العجوز.
ورغم أن الحكومات الأوروبية تشعر بقلق بالغ من مشكلة شيخوخة السكان، إلا أن هذا الأمر تحوّل بالنسبة للبعض إلى فرصة استثمارية كبيرة، حيث كشف تقرير لوكالة “بلومبرغ” اطلع عليه موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” عن وجود اتجاه لدى عدد من الشركات، لاستثمار المزيد من الأموال في صناعة الجنازات.
خدمات غير تقليدية لمراسم العزاء
أدى ارتفاع تكاليف المقابر والتنقل إلى زيادة الحاجة إلى المحارق وبدائل الخدمات التقليدية في صناعة الجنازات، وهذا ما دفع شركة Funecap الممولة من الأسهم الخاصة إلى إنفاق حوالي مليار يورو (1.1 مليار دولار)، لشراء أكثر من 300 محرقة ومركز جنازة بشكل رئيسي في أوروبا، التي تحتل المرتبة 17 في قائمة أكثر 20 دولة ومنطقة، ذات أعلى معدلات الوفيات في العالم.
وتستفيد شركة Funecap الفرنسية، من الدعم الذي توفرّه لها شركة “تشارترهاوس كابيتال بارتنرز”، المالية البريطانية وصندوق “لاتور كابيتال” الفرنسي للأسهم الخاصة.
وقد استحوذت في عام 2022 على شركة Facultatieve Technologies الهولندية، التي تعتبر شركة رائدة عالمياً في مجال معدات حرق الجثث، كما أصبحت Funecap مؤخراً شريكاً في محرقة Rhein-Taunus-Krematorium في ألمانيا التي تعد أكبر محرقة في البلاد.
وبحسب تييري جيسيروت، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة Funecap، فإن صناعة الجنازات هي أكثر من مجرد حفر قبور، كاشفاً في تقرير لبلومبرغ أن سوق حرق الجثث في أوروبا، على وجه الخصوص، يستفيد من النمو المرتفع في هذا الخيار، الذي يتراوح بين 5 إلى 7 بالمئة سنويا في المتوسط، إذ ازدهرت شعبية عمليات الحرق، خاصة في البلدان ذات الجذور الكاثوليكية، مع تخفيف بعض القيود على هذه الخطوة في العقود الأخيرة.
بدورها قامت شركة ميموريا لخدمات الجنازة، بشراء المزيد من المشارح في السنوات الأخيرة، وهي تخطط للاستمرار بهذا الأمر، إذ يقول مؤسس الشركة بيورن وولف، إن سوق دفن الموتى ومحارق الجثث، مجزأة في أوروبا أكثر من غيرها من الدول المتقدمة، خاصة في ألمانيا، مشيراً إلى أن شركته ومن خلال خدمات الجنازة التي تقدمها، أصبحت قادرة على الجمع بين عدة مجالات مثل الإدارة وتحسين كفاءة التكلفة.
استثمار مربح
يبلغ عمر واحد من كل خمسة أوروبيين حالياً 65 عاماً، أو أكثر، وبحلول عام 2050، سوف تقترب هذه النسبة من 30 بالمئة، وعلى النقيض من أميركا الشمالية التي تواجه تهديداً مماثلاً لانخفاض عدد السكان، فإن أوروبا لديها مساحة محدودة لدفن السكان، عندما يموتون في نهاية المطاف.
ومن المتوقع أن تتزايد الوفيات في أوروبا بسرعة في السنوات المقبلة مع تقدم السكان في السن، وهذا الأمر من المرجح أن يؤدي إلى زيادة التدفق النقدي في هذا القطاع ما سيرفع من إيرادات شركات مثل Funecap وMymoria، إذ تكشف جوديث كونسجين، الرئيسة التنفيذية لمحرقة Rhein-Taunus-Krematorium في ألمانيا، أن هناك أطرافاً أخرى حضرت أيضاً للاستثمار في هذا القطاع.
وأشارت إلى أن بعض هؤلاء المستثمرين يفترضون أن محارق الجثث هي آلة لطباعة الأموال، ولكن هذه الفكرة وهمية، إذ يتطلب هذا العمل استثمار الكثير من الأموال في المعدات والعمليات، إضافة إلى الاهتمام بعمليات الصيانة، ولكن إذا كان المستثمر يعرف ما يفعله، فيمكنه تحقيق عائد مناسب.
علي حمودي وهو الرئيس التنفيذي ورئيس الاستثمار في “ATA Global Horizons” في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن شيخوخة السكان في أوروبا تعطي إشارة إلى وجود نسبة متزايدة من كبار السن من ضمن السكان، وهذا الاتجاه يمكن أن يشكل فرصاً استثمارية في عدة مجالات أخرى غير صناعة الجنازات، مثل الرعاية الصحية.
ومن المتوقع أيضاً، بحسب قوله، أن يزداد الطلب على الخدمات الصحية والرعاية طويلة الأجل، فالمعمرون باتوا يتمتعون بصحة تخوّلهم العيش لمدة أطول، وهذا ما يدفع المستثمرين الى الاستثمار في دور الرعاية والمستشفيات، وشركات الأدوية والتكنولوجيا الطبية، وشركات تطوير الأجهزة والتقنيات الطبية الموجهة لتحسين جودة حياة كبار السن.
ويلفت حمودي إلى أن شيخوخة السكان ساهمت أيضاً في ظهور فرص استثمارية في قطاع العقارات، من خلال إنشاء وتطوير مراكز سكنية متخصصة لكبار السن، توفر لهم أماكن إقامة تتناسب مع وضعهم، كما أن الفرص الاستثمارية تشمل أيضاً خدمات التأمين والخدمات المالية، فشيخوخة السكان قد تزيد الطلب على منتجات التأمين الصحي والمعاشات التقاعدية وخدمات التخطيط المالي.
مخاطر شيخوخة السكان
أما بالنسبة لمخاطر شيخوخة السكان على الاقتصاد الأوروبي، فيرى حمودي أن هذا الموضوع سيتسبب بعدة تحديات للقارة العجوز، من أبرزها الضغط على نظام الرعاية الاجتماعية عبر زيادة تكاليف الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية، ما سيضع عبئاً على الميزانيات الحكومية، كما أن شيخوخة السكان ستؤدي إلى نقص في القوى العاملة، فانخفاض نسبة السكان في سن العمل، ستؤثر سلباً على الإنتاجية وعلى النمو الاقتصادي، مشيراً إلى أن النقص في القوى العاملة الشابة، يؤدي عادة الى تباطوء الابتكار والنمو، ومن ثم يؤثر على القدرة التنافسية للاقتصاديات.
وبحسب حمودي فإن شيخوخة السكان قد تؤدي أيضاً إلى زيادة العبء الضريبي، فالحكومات الأوروبية ستجد نفسها أمام هاجس تلبية النفقات الكبيرة، الناتجة عن تزايد طلبات الرعاية الاجتماعية، ولذلك فإنها قد تضطر إلى زيادة الضرائب على السكان، ما يؤثر بالتأكيد سلباً على الاستهلاك والاستثمار المحلي والخارجي.
ويكشف حمودي أن الكلام بدأ يزداد في أوروبا حول كيفية مواجهة مشكلة شيخوخة السكان، ومن الحلول التي يتم اللجوء اليها، تعزيز سياسات الهجرة، عبر تسهيل جذب العمالة الماهرة من الخارج، لملىء الفجوات في أسواق العمل المتعددة، إصلاح انظمة المعاشات، رفع سن التقاعد كما حصل في فرنسا، تحفيز الادخار الشخصي، وتشجيع العمل بعد التقاعد، من خلال تقديم حوافز لكبار السن للبقاء في سوق العمل، والطلب من الشركات إبقاء كبار السن في سوق العمل لفترة أطول، الاستثمار في التكنولوجيا والابتكار ما يساهم في تقليل الاعتماد على القوى البشرية العاملة.
وأضاف حمودي أن الحلول الأخرى التي تلجأ إليها بعض الدول الأوروبية، لمواجهة انخفاض نسبة الولادات، تقوم على تقديم حوافز لزيادة معدلات الولادة، مثل إعانات مالية وعلى منح الوالدين إجازات “أمومة” مدفوعة وتوفير خدمات رعاية الأطفال بأسعار مدعومة ومعقولة، إضافة إلى دعم مبدأ التعليم والتدريب المستمر، لتعزيز مهارات القوى العاملة الحالية، وتعزيز المرونة الاقتصادية وتشجيع ريادة الأعمال لدعم الابتكار وتعزيز النمو الاقتصادي، مشيراً إلى أن جميع هذه الحلول، من الممكن أن تساعد أوروبا في التعامل مع تحديات شيخوخة السكان، وتحويلها الى فرص ربما لتحسين اقتصادها ومستقبلها الاجتماعي.
من جهته يقول المحلل الاقتصادي محمد الحاج في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن المجتمعات في جميع أنحاء أوروبا تشيخ، وهذا الاتجاه الديموغرافي يحركه في المقام الأول، انخفاض معدلات الولادات وزيادة طول العمر، مشيراً إلى أن العواقب الاجتماعية والاقتصادية المترتبة على شيخوخة المجتمعات، معقدة ومتنوعة ولكنها ليست سلبية بالضرورة، لافتاً إلى أن كيفية التعامل مع هذا الواقع واستغلال الفرص المتوفرة، هي التي ستحدد مسار الأمور في أوروبا في المستقبل.
ويكشف الحاج أنه إذا مكّنت الحكومات الأوروبية الأفراد، من المشاركة بشكل أكبر ولفترة أطول، في سوق العمل، فإن نسب الإعالة يمكن أن تظل في الواقع مستقرة تماماً، إذ أن هناك الكثير من المجالات التي إذا تم استغلالها بالكامل، يمكن أن تساعد المجتمعات على عيش شيخوخة أكثر نشاطاً وصحة وإنتاجية.
وأضاف أن هناك اعتقاد سائد منذ فترة طويلة، بأن شيخوخة السكان تميل إلى أن تسير جنباً إلى جنب مع التدهور الاقتصادي، ومع ذلك، فإن تعزيز إنتاجية الشعوب، والاستفادة من المهارات التي يمتلكها كبار السن، علاوة على إدخال التكنولوجيا بشكل أوسع إلى سوق العمل، يفتح الفرصة للحفاظ على الإنتاجية ويحسن الاستدامة المالية في الاقتصاد.
وأكد الحاج أن بروز تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي، ودورها المتوقع في سوق العمل ستكون بمثابة رافعة كبيرة للاقتصاد الأوروبي، فهذه التكنولوجيا ستقلل الحاجة للانسان في الكثير من الأدوار الوظيفية، ورغم أن هذا الخبر هو أمر غير مسر للكثير من الأشخاص، إلا أنه يشكل فرصة يمكن أن تستفيد منها الحكومات الأوروبية، التي عليها ضخ استثمارات كبيرة في هذا المجال، والإسراع في تبني وتطوير هذه التكنولوجيا، ما يساعدها في تعويض النقص المتوقع في اليد العاملة، والمحافظة على الإنتاجية وبالتالي النمو الاقتصادي.