يرزح عديد من البريطانيين تحت وطأة أوضاع معيشية صعبة، في ظل مجموعة من العوامل التي عقّدت المشهد وفاقمت أزمة تكلفة المعيشة، ابتداءً من تبعات الخروج من الاتحاد الأوروبي، ووصولاً إلى فاتورة دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا وأزمات الطاقة والغذاء المصاحبة للحرب، مروراً بأزمة جائحة كورونا وانعكاساتها الاقتصادية الممتدة.
وتم الكشف عن أزمة الفقر التي ترسخت في المملكة المتحدة على مدى السنوات الـ 14 الماضية في تقريرين حديثين، يكشفان عن الآثار المدمرة التي خلفها انخفاض الأجور وارتفاع الأسعار على حياة 900 ألف طفل.
تقرير حديث صادر عن مؤسسة ريزوليوشن فاونديشن، سلط الضوء على ارتفاع معدلات الفقر بالبلاد.
وتشير المؤسسة إلى أن متوسط الأجور أعلى بـ 16 جنيهاً إسترلينياً فقط في الأسبوع بالقيمة الحقيقية عما كان عليه في العام 2010.
ومع اقتراح كلا الحزبين الرئيسيين خطط صارمة للإنفاق على الرعاية الاجتماعية، سلطت التقارير الضوء على العلاقة بين ارتفاع معدلات الفقر بين الأطفال وبطء نمو الأجور في ظل خمس حكومات محافظة منذ العام 2010 – وهو أبطأ نمو منذ الحرب العالمية الثانية.
ووجد بحث أجراه اتحاد نقابات العمال (TUC) أنه على مدى الأعوام الأربعة عشر الماضية، تم جر 1350 طفلاً إضافياً أسبوعياً في الأسر التي لديها أحد الوالدين العاملين على الأقل إلى الفقر.
وقال الأمين العام لاتحاد نقابات العمال، بول نوفاك: “لا ينبغي لأي طفل في بريطانيا أن ينشأ تحت خط الفقر، ولكن في ظل حكم المحافظين شهدنا ارتفاعاً هائلاً في عدد الأسر العاملة التي يتم دفعها إلى الفقر.. نحن بحاجة ماسة إلى إعادة ضبط الاقتصاد وحكومة تجعل العمل مربحاً”، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
كما وجد اتحاد نقابات العمال أن ركود الأجور كان جزءا من “مزيج سام” من العمل غير الآمن وتخفيضات الضمان الاجتماعي التي كان لها تأثير مدمر على ميزانيات الأسر، مما أدى إلى زيادة عدد الأطفال الذين يعيشون في الفقر مع وجود أحد الوالدين على الأقل في العمل بمقدار 900 ألف طفل بين عامي 2010 و2010. و 2023.
وقال معهد الدراسات المالية، مطلع الأسبوع، إن 30 بالمئة من الأطفال يعيشون الآن في أسر تحت خط الفقر الرسمي، مقارنة بـ 27 بالمئة في العام 2010. وعلى مدار الدورة البرلمانية المقبلة، سيتأثر 670 ألف طفل إضافي بالمشروعين.
وتشير الأبحاث إلى أن الحد الأقصى لإعانة الطفلين هو “المحرك الرئيسي لفقر الأطفال” في المملكة المتحدة.
فيما تعهد حزب العمال بمراجعة الائتمان الشامل ووضع استراتيجية للحد من فقر الأطفال، لكنه لم يعلن عن أي خطط لإلغاء حد الطفلين .
وقال تحليل منفصل من مؤسسة ريزوليوشن فاونديشن البحثية إن متوسط الأجور الآن أعلى بنحو 16 جنيها استرلينيا فقط في الأسبوع، أو بنسبة 2.5 بالمئة، من حيث القيمة الحقيقية مقارنة بما كانت عليه عندما تولى المحافظون السلطة في عام 2010.
وعلى النقيض من ذلك، في السنوات الـ 14 التي سبقت عام 2010، ارتفع متوسط الأجور الأسبوعية بمقدار 145 جنيهاً إسترلينياً.
وقبل الأزمة المالية في عام 2008، كان بوسع العمال أن يتوقعوا نمو الأجور بنسبة 2.2 بالمئة، وهو نفس القدر الذي حدث على مدى الأعوام الأربعة عشر الماضية، في عام واحد.
ووفق الصحيفة البريطانية، فلو كانت الأجور في المملكة المتحدة قد واكبت نظيراتها في الولايات المتحدة وألمانيا بين عامي 2010 و2022، لكان العمال سيحصلون على زيادة في الأجور بنسبة 0.8 بالمئة سنويا، أي ما يعادل 3600 جنيه إسترليني في المتوسط خلال هذه الفترة. وحتى لو كانت الأجور تضاهي النمو السنوي بنسبة 0.4 بالمئة في أيرلندا خلال هذا الفصل، فإن حزم الأجور ستكون أكثر بدانة بمتوسط 1600 جنيه إسترليني.
وتؤكد التقارير التحدي الذي يواجه الحكومة المقبلة، حيث تتنافس الخدمات العامة المتهالكة على الموارد.
وتوقع معهد الدراسات المالية أن حكومة حزب العمال ستزيد الضرائب أو تخفف قواعد الديون بدلا من خفض الإنفاق على الخدمات العامة، خاصة في ضوء الضغط من أجور القطاع العام.
وذكرت صحيفة الغارديان أن الأسر تلجأ بشكل روتيني إلى المعلمين والأطباء العامين للمساعدة في إطعام الأطفال وملابسهم. وتظهر الأرقام أن أكثر من مليون طفل عانوا من الفقر المدقع – المشقة المادية الشديدة – في العام الماضي.
انخفاض مستوى المعيشة
وفي حديثه مع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، يقول الخبير الاقتصادي وكبير الاقتصاديين في شركة “ACY” نضال الشعار، إن الفقر وانخفاض المستوى المعيشي في اقتصاد ما موضوع مركب ومعقد بعض الشيء، وله طبيعة تراكمية، وبالتالي فهو ليس وليد سبب قائم فعلياً حالياً، بل نتاج لمجموعة من الأسباب مجتمعة نجم عنها الموقف الراهن.
ويضيف الشعار: وضع الاقتصاد البريطاني حالياً ليس وليد اللحظة، بل يتشكل منذ سنوات، وله أسباب كثيرة، من بينها:
- الأزمة المالية العالمية التي ألمت بالاقتصاد العالمي في العام 2008 وتداعياتها على أغلب الاقتصادات العالمية، ومنها البريطاني، والتي نتج عنها تغير هيكلي في اقتصاد الكثير من الدول بغض النظر عن الحزب الحاكم وتوجهات الدولة.
- تغيير طبيعة القوة العاملة في بريطانيا عقب أزمة كورونا.
- اندلاع الحرب في أوكرانيا التي أضافت تحدياً جديداً على كثير من الحكومات، ومنها البريطانية.
- بريطانيا تعاني من تدني في مستوى المعاشات والأجور، وذلك بسبب مزيج من السياسات الحكومية السيئة ومثال على ذلك سياسات الأمان الاجتماعي.
- حزب المحافظين لازال يعزف على نفس الوتر فيما يتعلق بتقليص المميزات الممنوحة للمواطن البريطاني وتقليصها دون وجود برنامج حقيقي وواضح يكون بمثابة تعويض من الناحية المالية، وهذا من شأنه تقليص مستوى الفقر وتوفير فرص عمالة والنهوض بمستوى المعيشة.
معدلات الفقر
من لندن، يرصد خبير اقتصاديات الطاقة، نهاد إسماعيل، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، الواقع البريطاني، قائلاً:
- نسبة تصل إلى 25 بالمئة من أطفال بريطانيا يعيشون تحت خط الفقر في العام المالي 2022/2023، رغم تصريحات ريشي سوناك عندما كان وزير الخزينة في حكومة المحافظين قبل أعوام بأن إجراءات الحكومة أدت إلى تخفيض نسب الفقر في صفوف الأطفال.
- ارتفع عدد الأطفال المصنفين بالفقراء بمقدار 600 ألف طفل بين 2011 و 2019، حسب إحصاءات حكومية، إضافة إلى تأكيد مركز دراسات تابع لحزب المحافظين على أن هناك 150 ألف طفل انضموا للفقراء منذ تفشي وباء كورونا.
- فشل الوعود التي قدمها ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء السابق، فيما يتعلق بملفات الفقر والإسكان والهجرة غير شرعية وبناء 300 ألف مسكنًا سنويًا.
- لازالت حالة التشرد والنوم في العراء منتشرة في بريطانيا حتى اليوم!
- بوريس جونسون وعد بـ 40 مستشفى جديدة، وبعد خمس سنوات صدرت تصاريح لإنشاء 10 مستشفيات فقط.
- في العام 2016 تلقى الشعب البريطاني وعوداً بإنهاء الهجرة غير الشرعية لبريطانيا، وخلال العام 2023 دخل بريطانيا 52 ألف مهاجر غير شرعي.
- فشل خطة رواندا بعد إنفاق 300 مليون استرليني، ولا تزال القوارب تجلب مهاجرين غير شرعيين يومياً .
وعدد خبير اقتصاديات الطاقة الأسباب التي نتج عنها ارتفاع معدلات الفقر في بريطانيا، على النحو التالي:
- تركيز حكومات المحافظين المتعاقبة على تخفيض الضرائب، وعدم الانفاق الكافي على معالجة الفقر.
- وباء كوفيد-19 الذي أغلق الاقتصاد العالمي وأدى إلى ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء لمستويات غير مسبوقة.
- النمو الاقتصادي البريطاني الضعيف في السنوات الأخيرة.
- الخروج من الاتحاد الأوروبي، والذي أدى إلى تقلص الاقتصاد وارتفاع المديونية.
- أعباء الالتزام البريطاني بدعم أوكرانيا.
أزمات
من جانبه، يوضح خبير العلاقات الدولية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أحمد سيد أحمد، أن بريطانيا عصفت بها في الآونة الأخيرة أزمات عديدة، نتج عنها ارتفاع أسعار الكثير من المنتجات، ونقص شديد بها، وخير مثال على ذلك أزمة الطماطم والفلفل في وقت سابق، وهذا خير دليل على ارتفاع تكاليف معيشة المواطن البريطاني، وأيضاً ارتفاع أسعار الطاقة، ومعدلات الضرائب.
ويرصد خبير العلاقات الدولية جوانب من أسباب الأوضاع الحالية، على النحو التالي:
- فشل سياسات المحافظين في تجاوز الأزمات الاقتصادية وتحقيق نمو على أرض الواقع.
- الفشل في تكوين شراكات اقتصادية قوية تحل محل ما كانت قائمة قبل الخروج من الاتحاد الأوروبي، لذلك فإن استطلاعات الرأي أظهرت أن حوالي 70 بالمئة من البريطانيين نادمين على الخروج من الاتحاد الأوروبي.
- تضارب السياسات الاقتصادية ومنها فرض الضرائب المرتفعة على الشركات ورسوم جمركية حمائية، وهذا ما خلق حالة من التراجع الاقتصادي.
- سيكون لهذه المقدمات مردود واضح في الانتخابات االقادمة، في ظل المؤشرات التي تبين تراجع مؤيدي المحافظين مقابل حزب العمال، وهذا ما ظهر جلياً في فقدانه لكثير من المقاعد في الانتخابات البلدية الأخيرة.