في ظل تذبذب الأسواق المالية العالمية وترقب المستثمرين لأدنى مؤشر حول السياسات النقدية المقبلة، تبرز تصريحات رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي جيروم باول أمام منتدى البنوك المركزية في سينترا بالبرتغال، كعامل رئيسي في توجيه توقعات المستثمرين.
خلال المنتدى أكد باول أن الاحتياطي الفيدرالي أحرز تقدماً ملموساً في مكافحة التضخم، لكنه رفض بحزم تحديد تواريخ لخفض أسعار الفائدة، حيث تأتي هذه التصريحات في وقت يعيد فيه الفيدرالي تقييم سياساته لضمان استدامة التعافي الاقتصادي ومنع عودة التضخم للارتفاع مرة أخرى.
وعبر باول عن مخاوفه من أن التحرك بسرعة كبيرة قد يهدد الانجازات المحققة في السيطرة على التضخم، بينما التحرك ببطء شديد قد يقوض الانتعاش الاقتصادي. هذه الاستراتيجية تثير تساؤلات المهتمين والخبراء حول الأسباب الكامنة وراء تجنب باول الواضح لتحديد تواريخ محددة، هل يخفي خطط الفيدرالي بشأن خفض الفائدة الأمريكية أم أن هناك اعتبارات أخرى تدفعه للتريث؟
وأبقى مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في 12 يونيو الماضي على معدلات الفائدة دون تغيير للمرة السابعة على التوالي عند مستوى 5.25 و5.5 بالمئة، بينما توقف عن رفع الفائدة للمرة الأولى في سبتمبر 2023، وذلك بعد زيادتها 11 مرة منذ مارس 2022.
وانخفض مؤشر التضخم الأساسي في أميركا، خلال مايو الماضي، إلى 3.4 بالمئة على أساس سنوي للشهر الثاني على التوالي، وبأكثر من التوقعات، وكان متوسط التوقعات أن ينخفض مؤشر أسعار المستهلك الأساسي –الذي يستبعد تكاليف الغذاء والطاقة- إلى 3.5 بالمئة مقابل 3.6 بالمئة في أبريل، وعلى أساس شهري، ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين الأساسي، بنسبة 0.2 بالمئة في مايو، مقارنة بشهر أبريل.
وتوقع الفيدرالي الأميركي، في أحدث تقاريره وصول معدل التضخم إلى مستوى 2.6 بالمئة خلال العام الجاري.
وأوضح باول في تصريحاته بمنتدى “سينترا” أن “قراءة التضخم الأخيرة والتي قبلها بشكل أقل قليلاً، تشير إلى أننا نعود إلى المسار الانكماشي، نريد أن نكون أكثر ثقة بأن التضخم يتحرك بثبات نحو 2 بالمئة قبل أن نبدأ عملية تقليل أو تخفيف السياسة”.
هذه التصريحات تأتي وقت تراقب فيه الأسواق عن كثب تحركات الاحتياطي الفيدرالي ونظرائه العالميين، حيث تظهر علامات التخفيف من التضخم وبدأت بعض البنوك المركزية، بما في ذلك البنك المركزي الأوروبي، في تخفيض أسعار الفائدة ببطء.
وفي وقت سابق من هذا العام، كانت الأسواق تتوقع على الأقل ستة تخفيضات في أسعار الفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية لكل منها، تعدلت توقعات السوق منذ ذلك الحين لتتوقع تخفيضين، أحدهما في سبتمبر وآخر قبل نهاية العام. ومع ذلك، توقع أعضاء لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية في اجتماعهم في يونيو تخفيض واحد فقط.
وعند سؤاله عما إذا كان يعتقد أن الاحتياطي الفيدرالي قد يخفض في سبتمبر، أجاب باول: “لن أتناول تواريخ محددة هنا اليوم”، كما سُئل عما إذا كان قلقاً بشأن المناخ السياسي وخاصة إذا فاز دونالد ترامب، الذي كان ينتقد باول بشدة، في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر.، “أنا لا أركز على ذلك على الإطلاق، وليس هذا مجرد كلام أنا حقاً أعتقد أننا نستمر في القيام بعملنا”.
هل يخضع الفيدرالي لآراء السياسيين؟
في حديثه لموقع اقتصاد سكاي نيوز عربية قال الدكتور نضال الشعار الخبير الاقتصادي وكبير الاقتصاديين في شركة “ACY”: “يعد البنك الاحتياطي الفيدرالي منذ إنشائه في عام 1913 مؤسسة مستقلة من ناحية الأفعال والقرارات، ولكنه في ذات الوقت يخضع لمراقبة الكونغرس من حيث تقديم المعلومات وتبرير القرارات ويتبع للرئيس الذي يقوم بتعيين مجلس الإدارة فيه ويتم تأكيد هذا التعيين من قبل الكونغرس أي أنه يمكن اعتبار هذه المؤسسة شبه حكومية”.
وهناك خلاف تاريخي حول تبعية السياسة النقدية وضرورة استقلاليتها وتجنب وضعها عرضة لآراء السياسيين والذين يمكن أن يستخدمونها لأغراض انتخابية قصيرة الأجل، ولكن بتأثير سيء على المدى المتوسط والطويل، بحسب الدكتور الشعار الذي ذكر أن هناك رأي آخر بأن تكون السياسات المالية والنقدية في يد الحكومة الفيدرالية لتحقيق التناغم والتوازن في السياسات الاقتصادية.
وأوضح أن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يختلف عن باقي المصارف المركزية في العالم في تعدد أهدافه، مشيراً إلى أن الفيدرالي يسعى إلى ضبط معدلات التضخم، وتخفيض البطالة وتحقيق الاستقرار المالي من خلال استخدام أدوات معينة مثل أسعار الفائدة ومستوى الاحتياطي لدى المصارف وعمليات السوق المفتوحة في شراء وبيع السندات لتحقيق التوازن في حجم الكتلة النقدية.
وتعدد أهداف الاحتياطي الفيدرالي يستدعي في أغلب الأحيان استعمال تلك الأدوات جميعها في آن واحد ومحاولة لإيجاد وصفة معقدة لهذه السياسة مما يجعل الإفصاح عن مسار ما أو أداة ما أمراً شائكاً وخطراً وقد يقوض هذا الإفصاح مسار السياسة بسبب ردة فعل الأسواق والمؤسسات والمستهلكين مما يستدعي في أغلب الأحيان إعادة تركيب الوصفة مرة أخرى وبناء سياسة جديدة، طبقاً لما قاله محلل الأسواق الدكتور الشعار.
وأردف بقوله: “هناك حالات اقتصادية كثيرة يكون من الصعب حلها من خلال مسار اقتصاد معين أو واضح، وقد تحتاج هذه الحالات الاقتصادية أو المشاكل إلى العلاج بالصدمة وهو أمر معروف في التاريخ الاقتصادي كواحد من أدوات تصحيح المسار الاقتصادي، وبالتالي في هذه الحالة لن يكون ممكناً للمصرف المركزي الإفصاح عن قراراته وبما يخص العلاج بالصدمة إذ أن الإفصاح سيضعف من فعالية القرارات ويمكن أن تصبح هذه القرارات غير مؤثرة أو أن يكون لها منعكسات سلبية”.
طرق سرية في صنع القرار
وأكد كبير الاقتصاديين في شركة “ACY” أن “الاحتياطي الفيدرالي كان له حصته في فشل السياسات وبشكل خاص خلال الأزمة المالية العالمة عامي 2008 و2009 إذ أنه لم يكن ملماً بتفاصيل الوضع الاقتصادي وبشكل خاص الحالة الائتمانية في المصارف ومع المستهلكين، وبالتالي لم يكن ممكناً له أن يقوم بإنقاذ الوضع الاقتصادي بالسرعة التي كان متوقع له أن يقوم بها كونه المسؤول الأول عن السياسة النقدية في الولايات المتحدة”.
ورداً على سؤال فيما إذا كان الفيدرالي لديه بيانات سرية يعتمد عليها في صنع قراراته قال الدكتور الشعار: “لست مع الاعتقاد السائد بأن الاحتياطي الفيدرالي قد تكون لديه بيانات خاصة سرية غير منشورة يعتمد عليها في صنع قراراته لكن أجزم بأن لديه طرقه الخاصة في التحليل والاستنتاج وصنع القرار هذه الطرق قد تكون غير معروفة لدى المستثمرين والمؤسسات المالية وإنما قد تكون طرقاً أو أساليب شبه سرية.
علاقة النفط بتأخر تخفيض الفائدة
بدوره قال عامر الشوبكي مستشار الاقتصاد والطاقة الدولي في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: ” تشكل أسعار الفائدة الأميركية عاملاً حساساً يؤثر بعمق على الاقتصاد العالمي، والإعلان عن بدء تخفيض أسعار الفائدة له تأثير كبير، خاصة وأن العالم يعيش في ظل فائدة مرتفعة منذ مارس 2022. بالتالي، أي إعلان عن تخفيض أسعار الفائدة سيؤدي إلى نشاط اقتصادي أكبر وارتفاع في أسعار النفط، وهذا يتعارض مع أهداف الإدارة الأميركية الديمقراطية الحالية التي تسعى للحفاظ على أسعار معتدلة للنفط حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة في نوفمبر.”
ويرى أنه “لن يتم الإعلان عن بدء تخفيض أسعار الفائدة إلا بعد الانتخابات الأميركية، وهذا بات واضحاً من امتناع جيروم باول عن الكشف عن خططه في هذا الصدد. السبب هو أن النشاط الاقتصادي العالمي مرتبط بأسعار فائدة أقل، وفور الإعلان عن تخفيضها، سنشهد نشاطاً أكبر في الأسواق المالية العالمية ونمواً اقتصادياً أوسع، وبالتالي فإن النشاط الاقتصادي المتزايد يعني طلباً أكبر على الوقود، وبالتالي زيادة في أسعار النفط قد تصل بين 2 إلى 5 دولارات مع بدء الإعلان عن تخفيض الفائدة”.
وأشار الشوبكي إلى أن “أسعار البنزين مهمة لأي مرشح للرئاسة الأميركية، خصوصاً إذا كان يسعى لتجديد فترة رئاسته، كما هو الحال للرئيس جو بايدن، نحن نتحدث عن أسعار البنزين والديزل التي تؤثر على أسعار مختلف البضائع، وحالياً، سعر الديزل أقل من 4 دولارات للغالون، والبنزين أقل من 3.5 دولارات للغالون وأي زيادة في هذه الأسعار قد تؤثر سلباً على الرئيس بايدن، خاصة وأن المواطن الأميركي لا يزال يشعر بالتضخم بنسب أعلى مما يتم الإعلان عنه”.