إعداد : محمد كمال
بعد أربعة أعوام من توليه زعامة حزب العمال، أصبح كير ستارمر رئيسا للوزراء في بريطانيا، إثر تحقيق حزبه فوزاً ساحقاً في الانتخابات، في واحدة من أكبر نسب الأغلبية في تاريخ الحزب، حيث فاز بـ 412 مقعداً من أصل 650 في البرلمان البريطاني. وفي الوقت نفسه، تراجع حزب المحافظين إلى أدنى نسبة تصويت لهم في التاريخ الحديث.
وفور الإعلان عن توليه المسؤولية، بدأ التنقيب عن توجهات ستارمر السياسية، وخصوصاً ما يتعلق بالسياسة الخارجية، والتي تموج حالياً بملفات ساخنة أبرزها الحرب الإسرائيلية في غزة، وكذلك الحرب الروسية الأوكرانية.
وبالعودة إلى عام 2020، فقد تولى ستارمر قيادة حزب العمال وسط ضجة اتهامات الحزب بـ«معاداة السامية» بقيادة جيريمي كوربين، والذي كان اشتراكياً معجباً بالثوري الفنزويلي هوغو شافيز، إذ دعا وقتها إلى تأميم قطاعات واسعة من الاقتصاد البريطاني، فيما لوح الناشطون بالأعلام الفلسطينية في الاجتماع السنوي لحزب العمال.
لكن ستارمر، وهو المدعي العام السابق، وفور توليه المسؤولية وضع حداً لكل ذلك، وحاول وضع الحزب في منطقة وسط، بل واقتلع الأعضاء الذين عبروا عن مواقف معادية للسامية، وبعد عامين من توليه المسؤولية أصدر تعليمات لأعضاء حزب العمال بغناء أغنية «فليحفظ الله الملك» خلال الاجتماع السنوي للحزب، فيما كانت الأعلام الوحيدة في القاعة هي أعلام الاتحاد.
وبعد سنوات من تصويت الناخبين البريطانيين لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي، ودخولهم في فترة من الاضطرابات السياسية والاقتصادية، يأملون من ستارمر المعروف باسم «النجم غير الدرامي» أن يحافظ على استقرار بريطانيا بأكملها بكفاءته البعيدة عن الأضواء.
ويأتي ذلك نظراً لأن حجم الانتصار الساحق الذي حققه «العمال» يقترب من أكبر فوز سابق حققه الحزب في عام 1997 تحت قيادة توني بلير، الذي أنهى أيضًا فترة طويلة من حكم المحافظين من خلال دفع حزبه إلى الوسط، مدشنًا فترة 13 عامًا في السلطة، وهي أطول فترة حكم لحزب العمال على الإطلاق.
لا كاريزما
لكن على النقيض من بلير، فإن ستارمر البالغ من العمر 61 عاماً لا يتمتع بشخصية كاريزمية، ولا يقدم رؤية للتغيير الشامل، ولا يحظى حتى بشعبية خاصة. وتظهر استطلاعات الرأي بانتظام أن عدد الناخبين الذين يرفضونه يزيد قليلاً على عدد الذين يوافقون عليه. وحتى أكثر أنصاره حماسة يقولون إنه يدين بانتصاره لانهيار حزب المحافظين بقدر ما يرجع إلى تحوله السياسي، وفقاً لصحيفة وول ستريت جورنال.
ومع ذلك، أقبل الناخبون على دعم ستارمر باعتباره علاجاً لفوضى ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فعلى مدار خمسة أشهر من عام 2022، كان لبريطانيا ثلاثة رؤساء وزراء مختلفين. وتم طرد رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون من قبل حزبه بعد فضائح متكررة، بما في ذلك إقامة حفلات في 10 داونينج ستريت أثناء الإغلاق الوبائي.
وفي وقت تشهد أحزاب اليمين المتطرف الشعبوية صعوداً في أوروبا، ويهيمن وجود دونالد ترامب على السياسة الأمريكية، سيختبر ستارمر ما إذا كان البريطانيون سيستجيبون لشخص يقدم «البراغماتية» على الخطابة الصاخبة والوعود الكاسحة والشعبوية. وقبل بضع سنوات قال ستارمر إن: «السياسة ملأى بالأشخاص الذين يصرخون بصوت عالٍ بشأن مشكلة ما.. هناك نوع مختلف وهو أن نقول: ما الجواب لهذه المشكلة؟».
صفات شخصية
وبصفته طالباً للقانون في جامعة أكسفورد، ساعد ستارمر في تحرير مجلة تسمى «البدائل الاشتراكية». ولا يتذكره أقرانه بسبب ما كتبه، بل لأنه تأكد من طباعة المجلة وتوزيعها. وفي وقت لاحق، بصفته المدعي العام في بريطانيا، قام بوضع إرهابيين في السجن، لكنه يعتبر أحد أكبر إنجازاته نقل نظام العدالة الجنائية من الورق إلى النظام الرقمي. وكزعيم لحزب العمال، كان أول عمل قام به هو تعديل اللوائح الداخلية «الغامضة» للحزب لتشديد سيطرته على رسم السياسات العامة.
نقيض جونسون
ووفق التقرير فإن ستارمر هو نقيض جونسون، آخر زعيم انتخبته بريطانيا في عام 2019. إذ كان جونسون ذو الشخصية الجذابة نتاج مدرسة خاصة للنخبة، وكان يتمتع بشعر أشقر جامح، ويقتبس اللغة اللاتينية، ويرسم رؤية شاملة لـ «الأراضي المرتفعة» في ظل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. أما ستارمر فهو من خلفية متواضعة، ومتحدث عام «خشبي»، يقدم نفسه كرجل يمكنه اتخاذ خيارات صعبة في الأوقات الصعبة.
أزمات الداخل
ويشير التقرير إلى أن البريطانيين غير صبورين من أجل التغيير، وقد نما الاقتصاد بمعدل 1.3٪ منذ عام 2016، وشهدت الأجور الحقيقية ركودًا في السنوات الأخيرة. كما يوجد في البلاد 6.3 مليون شخص ينتظرون العلاج على نفقة الدولة. كما تعاني البلاد قيوداً مالية بعد ضخ المليارات خلال الوباء وأزمة الطاقة الناجمة عن حرب أوكرانيا. كما أن السجون ممتلئة للغاية لدرجة أنه قد يتعين إطلاق سراح المجرمين مبكرًا.
وخلال الحملة الانتخابية ركز ستارمر كثيراً على ما لن يفعله وهو: زيادة الضرائب على نطاق واسع أو تعزيز الإنفاق بشكل حاد، لأنه يقول إن بريطانيا لا تستطيع تحمل ذلك. أما تعهداته فهي عبارة عن خطة من عدة نقاط تتضمن الحد من الروتين لبناء المزيد من المنازل، والحد من الهجرة، وإنشاء صندوق لتسريع تطوير البنية التحتية للطاقة الخضراء، وتسهيل حصول الناس على مواعيد في الصحة.
وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية، يعد حزب العمال أيضًا بالاستمرارية، في المحافظة على العلاقات مع الولايات المتحدة، وكذلك دعم أوكرانيا. كما يقول إنه مؤيد للأعمال التجارية ويريد إصلاح العلاقات مع أوروبا ولكن ليس التراجع عن خروج بريطانيا من الاتحاد.
ليس سياسياً
وينظر إلى ستارمر على أنه «غريب» في وستمنستر، فنادراً ما يُرى في حانات البرلمان ولا يشتهر بخطبه، ويقول روبرت هايوارد، خبير استطلاعات الرأي والعضو المحافظ في مجلس اللوردات، إنه لم يُسمع تقريبًا عن سياسي بريطاني يتمتع بخبرة قليلة جدًا في السياسة ويفوز في الانتخابات العامة. ولم يدخل ستارمر السياسة إلا قبل تسع سنوات.
والمقابلات التي أجريت مع عشرات الأشخاص الذين عملوا مع ستارمر ترسم صورة للكادح الذي اجتهد بعناء لتحقيق النتائج. وعندما سأله أحد الناخبين أثناء الحملة الانتخابية عن سبب «جفافه الشديد»، ضحك ستارمر بإجابته: «تحياتي يا صديقي!».
لا يعرف الرحمة
كما أنه يتمتع بنزعة لا تعرف «الرحمة» وأثبت عدم خوفه من التخلي عن الحلفاء أو السياسات، وبعد استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016، أمضى سنوات في الحملات لمنع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وأثناء ترشحه لقيادة حزب العمال في عام 2020، قدم نفسه كحليف لليسار، وتعهد بتأميم قطاع الطاقة في بريطانيا وإلغاء الرسوم الدراسية الجامعية. ووصف «كوربين» الزعيم السابق للحزب بأنه صديق.
لكن في غضون أشهر من توليه منصب زعيم حزب العمال، تخلى عن تلك السياسات، وأوقف كوربين من الحزب. وفي العام الماضي وحده، ألغى خطة الاستثمار الأخضر التي تبلغ قيمتها 28 مليار جنيه استرليني سنوياً، وقام بتخفيف سياسة تحسين حقوق العمال. لقد حوله ذلك إلى شخصية مكروهة في أقصى يسار الحزب، وترك العديد من ناخبي حزب العمال التقليديين غير متحمسين له.
ويقول جيمس شنايدر، الذي كان مسؤولاً عن اتصالات حزب العمال في عهد كوربين: «الرجل كاذب مكشوف الوجه». ويقول آخرون إنه ببساطة تطور ستارمر نحو المركز.
ويؤكد أندرو كوبر، الذي ذهب إلى المدرسة مع ستارمر وكان مستشاراً سابقاً لرئيس الوزراء المحافظ السابق ديفيد كاميرون: «لقد تبنى بعض وجهات النظر اليسارية تماماً، لكن ما اكتسبه على طول الطريق هو نوع من الفهم الذي قاد حكومة بلير، وهو أنه لا جدوى من وجود مبادئ تقدمية إذا لم تفز».
النشأة والتكوين
ونشأ ستارمر في ظروف متواضعة جنوب لندن في مكان يسمى أوكستيد، وهي ضاحية غنية ومعقل المحافظين. وأطلق والداه على ابنهما اسم مؤسس حزب العمال، كير هاردي. وكان والده صانع أدوات وكرس نفسه لرعاية والدة ستارمر، وهي ممرضة سابقة عانت شكلاً نادراً من التهاب المفاصل مما جعلها تكافح من أجل المشي. كما أصبح أول شخص في عائلته يتخرج من الجامعة.
وبعد المدرسة، بدأ ستارمر مسيرته المهنية كمحامي في مجال حقوق الإنسان. وقد نال الاستحسان لتمثيله الأشخاص الذين واجهوا عقوبة الإعدام في منطقة البحر الكاريبي وإفريقيا، وفاز في العديد من القضايا التاريخية بما في ذلك القضية التي ساعدت في إلغاء عقوبة الإعدام الإلزامية في أوغندا.
محامي بالمجان
وعمل مجانًا لما يقرب من عقد من الزمن في الدفاع عن اثنين من الناشطين النباتيين الذين قاضتهما شركة ماكدونالدز بتهمة التشهير بعد أن وزعا منشورات تنتقد الشركة. ولم تكن قضية «ماكليبل» ناجحة إلا جزئياً: فقد فازت شركة ماكدونالدز بالتعويضات ولكنها تعرضت لضربة قوية لسمعتها.
وكان أحد عملائه رجلاً يطلق على نفسه اسم آرثر بيندراجون، وهو كاهن معاصر يدعي أنه تناسخ للملك آرثر. وترافع له ستارمر مجاناً لتمكينه من الاحتفال بالانقلاب الصيفي في ستونهنج، أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وفي النهاية سُمح للكاهن بالتجمع عند الحجارة الشهيرة.
وفي عام 2008، أصبح ستارمر مديرًا للنيابة العامة في المملكة المتحدة. وأمضى تسعة أشهر في زيارة جميع المكاتب الإقليمية البالغ عددها 42 مكتبًا. وتم تخفيض ميزانيتها بنحو الثلث مع قيام حكومة المحافظين الحاكمة بتقليص الإنفاق العام لإصلاح الأوضاع المالية للحكومة.
وقال ستارمر إنه شعر أن حجم تخفيضات الإنفاق يهدد بإلحاق الضرر بأسس دولة الرفاهية البريطانية التي أنشئت في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وقد دخل السياسة بالفعل، وهو في الخمسينيات من عمره، كنائب في البرلمان عن حزب العمال.
اعتذار لليهود
في غضون ثلاثة أيام من توليه زعامة حزب العمال، نظم ستارمر اجتماعاً عبر الفيديو مع ممثلين عن اليهود واعتذر، وقال ستارمر، وزوجته من أصول يهودية، إن حل المشكلة واجب أخلاقي وإن الناخبين البريطانيين لن يصوتوا أبدًا لحزب معروف بالعنصرية.
ووعد ستارمر المجموعة بأن جميع حالات معاداة السامية المزعومة سيتم وضعها على مكتبه بحلول نهاية الأسبوع، وفقًا للأشخاص المشاركين في المكالمة.
وبعد أن خلص تقرير لجنة المساواة وحقوق الإنسان إلى أن حزب العمال قد انتهك القانون من خلال التمييز غير المباشر ضد الأعضاء اليهود، قال كوربين إنه تمت المبالغة في حجم المشكلة، فقام ستارمر بإيقافه. ثم قام بطرد نائبة من حكومة الظل الخاصة به بعد أن أعجبت بتغريدة تحتوي على نظرية مؤامرة معادية للسامية ورفضت حذفها.
وفي الأشهر التالية، تم تعيين العشرات من الموظفين للنظر في الشكاوى، وتم تغيير قواعد الحزب لتسهيل تأديب أعضاء حزب العمال، وتم طرد المئات من الحزب.
هجمات 7 أكتوبر
بعد هجمات 7 أكتوبر، قال ستارمر إن لإسرائيل الحق في الدفاع عن النفس. وفي وقت سابق من هذا العام، وقبل إجراء انتخابات محلية خاصة، تم القبض على أحد مرشحي حزب العمال وهو يقول إن إسرائيل «سمحت» بهجمات حماس كذريعة لغزو غزة. وسحب ستارمر دعمه للمرشح وخسر حزب العمال المقعد، لكنه قال إنه لا يشعر بأي ندم.
وكادت فترة ولاية ستارمر أن تنتهي بسرعة. ويقول مساعدون إن الحزب خسر في عام 2021 انتخابات خاصة في هارتلبول، معقل حزب العمال، أمام المحافظين، الأمر الذي كاد أن يدفعه إلى الاستقالة.
خصوصية شديدة
ونظر مساعدو ستارمر إلى الديمقراطيين الاشتراكيين الآخرين في جميع أنحاء العالم للحصول على الإلهام. ورأوا كيف نجحت حملة بايدن ضد ترامب في عام 2020 من خلال الوعد ببديل للفوضى.
وكانت هناك علامات استفهام حول ما إذا كان ستارمر يتمتع بالشخصية اللازمة لقيادة حزب العمال، ولسنوات رفض ستارمر التحدث كثيرًا عن خلفيته، كما أنه يحمي بشدة طفليه، اللذين لا يزال يرفض ذكر اسميهما علنًا لحماية خصوصيتهما، وزوجته التي تعمل في الخدمة الصحية الوطنية.
ومع ذلك، لأنه يشار إليه في الصحافة البريطانية باسم «السير كير»، بسبب حصوله على لقب فارس في عام 2014، ولأنه يعيش في منطقة راقية في لندن، فإن العديد من الآراء تفترض أنه محامٍ ليبرالي ثري.
وفي عام 2021، نصح الرئيس السابق باراك أوباما ستارمر بأن يكون أكثر انفتاحًا من أجل التواصل بشكل أفضل مع الناخبين. وبدأ ستارمر يذكر في كل مقابلة تقريبًا أن والده كان صانع أدوات وأن والدته كانت ممرضة.