تشهد العلاقات الروسية الصينية تطورات واسعة في الفترة الأخيرة، خاصة بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا وفرض العقوبات الاقتصادية والسياسية على روسيا من قبل الولايات المتحدة والدول الغربية.
هذه العقوبات أدت إلى تعزيز توجيه روسيا أنظارها نحو الشرق، وخاصة نحو الصين، لتطوير شراكات جديدة وتحقيق توازن في علاقاتها الدولية. ففي مواجهة العقوبات الغربية، وجدت روسيا في الصين شريكاًستراتيجياً قوياً يمكنه تقديم الدعم الاقتصادي والتكنولوجي اللازم.
من أبرز مظاهر هذه الشراكة المتنامية هو الاعتماد المتزايد على اليوان الصيني في سوق النقد الأجنبي في روسيا، وذلك في محاولة لتخفيف تأثير العقوبات الغربية على اقتصاد موسكو، وقد عززت روسيا في تبني اليوان كعملة تداول رئيسية بدلاً من الدولار واليورو.
هذا التحول يعكس استراتيجية موسكو لتطوير تعاونها المالي مع بكين وتجنب التأثيرات السلبية للعقوبات الأميركية والأوروبية. كما أن الاعتماد على اليوان يعزز مكانة العملة الصينية عالميًا، مما يصب في مصلحة بكين التي تسعى لتعزيز دورها الاقتصادي الدولي.
بالإضافة إلى ذلك، تتسع مجالات التجارة والعلاقات الاقتصادية المزدهرة بين البلدين. وتعمل موسكو وبكين على تعزيز تعاونهما في مجالات متعددة تشمل الطاقة والتكنولوجيا.
اليوان يتصدر
أصبحت سيطرة اليوان الصيني على سوق الصرف الأجنبي في روسيا “شبه كاملة”، وذلك بعد أن أجبرت العقوبات الأميركية البورصة الرئيسية في البلاد على قطع العلاقات مع الدولار واليورو ، بحسب تقرير لـ “بلومبيرغ”.
- في يونيو المضي، شكلت معاملات اليوان 99.6 بالمئة من أحجام تداول العملات الأجنبية في البلاد، وفقاً لتقرير صادر عن بنك روسيا . وقبل شهر واحد، لم تشكل العملة سوى 53.6 بالمئة من هذه السوق.
- في منتصف يونيو، استهدفت العقوبات الأميركية الجديدة بورصة موسكو، المركز الرئيسي للمعاملات المالية في البلاد. وإلى جانب ذلك، فُرضت قيود أيضاً على كيانين آخرين يسهلان استخدام الدولار في روسيا.
- ورداً على ذلك، حظرت شركة مويكس (شركة إدارة البورصة) تبادل الدولارات واليورو في نفس اليوم، مما أدى إلى إغلاق السوق التي كانت نشطة منذ الحرب الباردة.
وذكر تقرير البنك أن متوسط أحجام التداول اليومية في سوق الصرف الأجنبية انكمش بنحو الثلث في النصف الثاني من الشهر. وفي غياب الدولار أو اليورو للتنافس ضده، ساعد ذلك فقط على ارتفاع قيمة اليوان.
ورغم أن الروس ما زالوا أحراراً في شراء العملات الغربية من خلال أسواق ما بين البنوك أو خارج البورصة، فإن هذه البدائل باهظة التكلفة.. وهنا أيضاً اكتسب اليوان مكاسب ــ فقد ارتفعت حصته من الصفقات خارج البورصة إلى 40 بالمئة، وفقاً لبلومبرغ.
وبعد فترة وجيزة من فرض وزارة الخزانة الأميركية عقوباتها، توقعت ألكسندرا بروكوبينكو، من مركز كارنيغي روسيا، أن الروس سوف يحتاجون إلى إيجاد بديل عملة مستقر لتسهيل تجارتهم ــ ومع استخدام اليوان بالفعل وسط علاقات أقوى بين موسكو وبكين، فسوف يفوز اليوان .
وكتبت: “إن العقوبات الجديدة تحول اليوان إلى العملة الرئيسية للتداول والتسويات في روسيا مرة واحدة وإلى الأبد”.
وحذرت من أن هذا قد يمثل تحولاً بطيئاً ولكنه دائم بعيداً عن هيمنة الدولار العالمية.
ومن المؤكد أن العقوبات الأميركية تؤثر بشكل كبير على البنوك الصينية أيضاً، وقد أنهى العديد من كبار المتعاملين معاملاتهم باليوان مع روسيا بسبب هذا.
قنوات بديلة
من جانبه، يقول الاستاذ بكلية موسكو العليا للاقتصاد، رامي القليوبي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن روسيا تستمر في التجارة بالعملات الأخرى، بما في ذلك الدولار واليورو، ولكن خارج البورصة في قنوات بديلة، في مقدمتها البنوك والشركات المصرفية.
ويضيف: “لكن يمكن الإقرار فعلياً بأن اليوان الصيني استحوذ على أكثر من نصف التعاملات حتى قبل فرض عقوبات على بورصة موسكو.. وهذا يساعد روسيا في الالتفاف على العقوبات الغربية؛ لأن التحويلات إلى الصين يصعب رصدها في المنظومة الاقتصادية الغربية، على عكس الحسابات بالدولار واليورو التي تمر عبر حسابات المراسلة في الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي”.
وبذلك أصبح اليوان لأول مرة عملة احتياطية لدولة كبرى، بعد أن كان ذلك مقتصراً على بعض حلفاء الصين مثل باكستان، وفق القليوبي.
إيجابيات وسلبيات!
من جانبه، يشير مدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، ديمتري بريجع، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إلى أن تحول تجارة النقد الأجنبي الروسي بشكل شبه كامل إلى اليوان الصيني يمثل خطوة استراتيجية كبيرة، بما لها من تداعيات اقتصادية متعددة على اقتصاد روسيا.
ويشدد على أن هذا التحول يمكن أن يُفهم من عدة جوانب، ذلك أنه في ظل التبعية الاقتصادية للصين مع تزايد استخدام اليوان، قد تصبح روسيا أكثر ارتباطًا اقتصاديًا ببكين، وهذا يمكن أن يزيد من النفوذ الصيني على الاقتصاد الروسي، ويحد من مرونة روسيا في تحديد سياساتها النقدية والاقتصادية.
كما أن “الاستقلال عن الدولار الأميركي وتحويل التجارة النقدية إلى اليوان يمكن أن يُعتبر خطوة نحو تقليل الاعتماد ليس على الدولار فحسب وإنما النظام المالي الغربي، وهذا قد يسهم في تقليل تأثير العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي”، وفق بريجع.
ويوضح في الوقت نفسه أن استخدام اليوان، يمكن أن يُسهّل ويُعزز التجارة الثنائية بين روسيا والصين، بما في ذلك التبادلات التجارية والاستثمارية. وهذا يمكن أن يؤدي إلى نمو اقتصادي مستدام على المدى البعيد، إذا ما تمت إدارة العلاقات الاقتصادية بين البلدين بشكل استراتيجي.
لكن على الجانب الآخر، وفيما يتعلق بتأثير ذلك على “الروبل” الروسي، أفاد بريجع في معرض حديثه مع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” بأن الانتقال إلى اليوان قد يؤثر على قيمة الروبل الروسي واستقرار النظام المالي الروسي، مشدداً على أن الطلب على الروبل قد ينخفض إذا ما تم تحويل الاحتياطات النقدية والتجارة الدولية إلى اليوان، مما قد يتطلب سياسات نقدية جديدة للحفاظ على استقرار الروبل.
ويعتقد بأن هذا التحول نحو اليوان يمكن أن يعكس تحولات في التحالفات الجيوسياسية، حيث تظهر روسيا استعدادها لتعميق التعاون الاقتصادي مع الصين كجزء من استراتيجيتها لمواجهة الضغوط الغربية.