تتنامى المخاوف في منطقة اليورو من نمو “بنوك الظل” بشكل مطرد، تلك المؤسسات المالية والأنشطة التمويلية غير المنظمة التي تقدم خدمات إقراضية واستثمارية تشبه ما تقدمه البنوك التقليدية، ولكن دون الخضوع لنفس القواعد واللوائح الصارمة.
ويشير خبراء اقتصاد إلى أن هذا القطاع “الظل” يشكل تهديداً متزايداً للاستقرار المالي في منطقة اليورو، حيث أن نموه السريع يخفي مخاطر جسيمة قد تنكشف بشكل مفاجئ، كما حدث في الأزمة المالية العالمية عام 2008.
وفي هذا السياق، حذر مسؤولون كبار في البنك المركزي الأوروبي من مخاطر “بنوك الظل” ودعوا إلى اتخاذ خطوات حاسمة لتنظيمها والحد من مخاطرها، ولكن، ما هي الخطوات التالية التي يجب اتخاذها لمعالجة هذه المخاطر؟ هل حان الوقت لفرض قيود صارمة على “بنوك الظل”؟
ما هي بنوك الظل؟
نظام الظل المصرفي أو ما يُعرف أحياناً ببنوك الظل (Shadow Banking System) هو نظام مالي موازي يشمل مجموعة متنوعة من المؤسسات المالية والأنشطة التمويلية التي تؤدي وظائف تشبه إلى حد كبير وظائف البنوك التقليدية، ولكنها ليست تحت نفس القوانين واللوائح الرقابية التي تنطبق على البنوك التقليدية.
روابط غير شفافة
إليزابيث ماكول، عضو المجلس الإشرافي للبنك المركزي الأوروبي حذرت من أن النمو “الملحوظ” للصناديق الخاصة وغيرها من مصادر التمويل خارج البنوك المنظمة يشكل أكبر تهديد لاستقرار النظام المالي لمنطقة اليورو، بحسب تقرير نشرته صحيفة “فايننشال تايمز” واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
ونقلت الصحيفة عن ماكول قولها: “هناك بالتأكيد أضواء تحذير أمامنا، المجال الأكثر شيوعاً هو الذي يحتمل أن تكون رؤيتنا فيه الأقل والذي يمكن أن تتحرك فيه الأمور بشكل أسرع من ديناميكيات الائتمان المعتادة – أي سوق الوسطاء الماليين غير المصرفيين”.
ووفقاً للمفوضية الأوروبية، احتفظ الوسطاء الماليون غير المصرفيين، الذين يطلق عليهم غالباً “بنوك الظل”، بأصول بقيمة 42.9 تريليون يورو في الربع الثالث من العام الماضي، مقابل 38 تريليون يورو تحتفظ بها البنوك التقليدية.
وتعبيراً عن قلقها أضافت ماكول: “إن نمو القطاع منذ الأزمة المالية العالمية كان ملحوظاً وشيئاً يقلقنا دائماً، هذا الأمر خارج نطاق إشراف البنوك والرقابة عليها”، مشددة على أن الروابط غير الشفافة بين هذا القطاع والبنوك من خلال اتفاقيات إعادة الشراء أو خطوط الائتمان أو المشتقات تثير مخاوف بشأن “ما يترجم ذلك إلى مخاطر منهجية”.
نشأة النظام المالي غير التقليدي وتوسعه
من جهته، أعادنا الدكتور نضال الشعار الخبير الاقتصادي وكبير الاقتصاديين في شركة “ACY”، في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إلى الماضي وتحديداً نشأة مفهوم هذا النظام المالي غير التقليدي وتوسعه بقوله: “إن مفهوم المؤسسات المالية غير المصرفية (المصارف التي هي ليست بمصارف تقليدية) هو مفهوم قديم نشأ في أوائل ستينيات القرن الماضي كخدمة جانبية قدمتها المصارف التقليدية وتمثلت ببطاقات الائتمان ثم بدأت المصارف الاستثمارية ومنشآت الادخار وصناديق الاستثمار وحتى صناديق التقاعد بذات المنحى إلى أن أصبح هذا النشاط يهيمن وبشكل واسع على التصرفات المالية للأفراد في عمليات الشراء والاقتراض”.
ونظراً لتشعب أعمال هذه النشاطات المالية واختلاف أنواعها لم تكن الهيئات التشريعية والقانونية قادرة على (قوننة) وتنظيم هذه النشاطات واكتفت بالموقف المالي العالم للمؤسسات التي اقترحت هذه الخدمات، أي أنها لم تقم بتدقيق نوعية وماهية هذه الخدمات، بحسب الشعار الذي أوضح أنه مع تطور التكنولوجيا الرقمية واتساع استخدام الإنترنت ازدهرت هذه النشاطات الائتمانية لتبلغ تريليونات من الدولارات حتى أنه لا يمكن تحديد حجمها الواقعي بسبب ضعف الشفافية والقوانين الناظمة لها.
وأضاف: “انتشر هذا النشاط المالي الجانبي وغير الأساسي (غير المصرفي التقليدي) في أغلب شركات الاستثمار المصرفي، وقد يكون من المفاجئ أن شركة مثل “بلاك روك” والتي تعد من أفضل وأكبر المؤسسات الاستثمارية والمالية في العالم وكذلك شركات مثل مورغان ستانلي وجيه بي مورغان يمكن تصنيفهم بأنهم يقومون بأعمال مصرفية، ولكنها ليست كأعمال المصارف”.
ويرى الدكتور الشعار أن المشكلة الرئيسية في هذا النوع من النشاط المالي هو ضعف الشفافية وعدم الالتزام بالإفصاح والذي له تأثير كبير على مجمل النشاط المالي في أي اقتصاد، لأنه من أساسيات الإدارة الجيدة للسياسة النقدية هو معرفة حجم النقد المتداول وحجم الائتمان على كافة المستويات سواء افراد أم مؤسسات.
ميزات وعيوب
بدوره تحدث علي حمودي الخبير الاقتصادي، الرئيس التنفيذي ورئيس الاستثمار في “ATA Global Horizons”، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية ” عن مزايا وعيوب نظام الظل المصرفي قائلاً: “من مميزاته أنه يقلل الاعتماد على البنوك التقليدية كمصدر للائتمان. وهذه فائدة إيجابية للاقتصاد لأنها تعمل كمصدر إضافي للإقراض وتوفر التنويع في النظام المالي، لكن من ناحية أخرى، هناك خطر في أن يساهم بزيادة الإقراض في الاقتصاد، وهو يؤدي إلى انكماش اقتصادي ضار”.
لماذا يعتبر البنك المركزي الأوروبي أن نظام الظل المصرفي يشكل خطراً؟
يجيب حمودي على هذا التساؤل بقوله: “تتمثل أحد المخاوف الرئيسية بالافتقار إلى الشفافية، وهو ما يخلق (ثقوباً سوداء) في البيانات المالية ما يجعل من الصعب على الجهات التنظيمية تتبع المخاطر وإدارتها، ويمكن أن يؤدي هذا التعتيم إلى مشاكل كبيرة، كما اتضح من انهيار شركة (أركيغوس كابيتال مانجمنت) عام 2021، والذي أدى إلى خسائر كبيرة لبنك ريدي سويس”.
يسلط البنك المركزي الأوروبي الضوء على النمو الملحوظ للصناديق الخاصة وغيرها من الوسطاء الماليين غير المصرفيين باعتباره أكبر تهديد للاستقرار المالي في منطقة اليورو، وليس هناك شك في أن التوسع السريع لقطاع بنوك الظل، إلى جانب طبيعته الغامضة، يجعل من الصعب على الجهات التنظيمية مراقبة وإدارة المخاطر بشكل فعال، بحسب تعبيره.
وأضاف حمودي: “ويشعر أيضاً البنك المركزي الأوروبي بالقلق بشكل خاص إزاء الروابط الخفية بين بنوك الظل والبنوك التقليدية، والتي قد تؤدي إلى مخاطر شاملة، وكثيراً ما تتعرض البنوك التقليدية بشكل مباشر للكيانات غير المصرفية من خلال اتفاقيات إعادة الشراء، وخطوط الائتمان، والمشتقات المالية، مما يخلق شبكة من المخاطر المترابطة”.
لكن الحقيقة هي أن مقرضي الائتمان من القطاع الخاص، على سبيل المثال، أصبحوا مصادر مهمة لتمويل الشركات التي تجد صعوبة في الحصول على قروض من البنوك التقليدية، ومع ذلك، فإن الافتقار إلى الرقابة التنظيمية والشفافية في قطاع الظل المصرفي يعرض هذه المؤسسات غير المصرفية لمخاطر أعلى، طبقاً للخبير الاقتصادي حمودي.
الاستجابات التنظيمية والتوقعات المستقبلية
ورداً على سؤال حول الاستجابات التنظيمية والتوقعات المستقبلية قال الرئيس التنفيذي ورئيس الاستثمار في “ATA Global Horizons”: “يركز المنظمون الآن بشكل متزايد على معالجة المخاطر التي يفرضها نظام الظل المصرفي، ويقوم مجلس الاستقرار المالي بجمع بيانات عن المؤسسات غير المصرفية وعلاقاتها مع الجهات المقرضة الخاضعة للتنظيم، ومن المتوقع أن يتوصل إلى نتائج في وقت لاحق من هذا العام”.
كما أجرى بنك إنكلترا أول اختبار جهد على مستوى القطاع لبناء حالة من القواعد الجديدة. ومن ناحية أخرى، تدرس هيئة حماية البيانات متطلبات الإبلاغ الإلزامية لمعالجة “الثقوب السوداء” في المعلومات، وكل هذه الجهود تهدف إلى تعزيز الشفافية وتخفيف المخاطر النظامية.
ومع تزايد الإجماع العالمي حول مخاطر نظام الظل المصرفي يرجح حمودي أن تكون هناك قواعد تنظيمية أكثر صرامة، تهدف إلى تثبيت استقرار النظام المالي ومنع الأزمات في المستقبل.
تجاهل البنوك المركزية ملفت للنظر
ويعتبر الخبير الاقتصادي الدكتور الشعار أن تغاضي أغلبية البنوك المركزية في العالم عن مثل هذا النشاط المالي الجانبي ملفتاً للنظر، مع أنه من الناحية النظرية والعملية يؤثر سلبياً في قدرة هذه البنوك على ضبط وإدارة الكتلة النقدية وحجم الائتمان وهذا بالإضافة إلى الشبهات الكثيرة التي تحيط بمثل هذا النوع من العمل المصرفي والذي هو ليس بمصرفي تقليدي.
وأردف: “أيضاً الملفت للنظر هو تجاهل البنوك المركزية لظهور نوع آخر وبعد آخر من النشاطات المصرفية اللامصرفية من خلال العملات الرقمية التي من الممكن استخدامها حالياً في الإقراض والاقتراض ودفع المصاريف والمشتريات وحتى الرهن والاستعارة، ولا شك أن ذلك سيكون له تداعيات كبيرة على قدرة البنوك المركزية في إدارة السياسة النقدية”.
وعلى الرغم من المحاولات الخجولة من قبل البنوك المركزية في إصدار عملات رقمية فمازال يمكننا القول إن هناك نشاطاً مالياً مهماً غير معروف وغير ملحوظ وغيم مقيم كالنشاطات المصرفية اللامصرفية. وأرى أن هذا سيستدعي قريباً مراجعة مقبل المصارف المركزية بشكل خاص في حالات التضخم والركود الاقتصادي، طبقاً لما قاله كبير الاقتصاديين في شركة “ACY” نضال الشعار.
علامات تحذير لكيفية ظهور المخاطر
وبالعودة إلى تقرير صحيفة “فايننشال تايمز”، فقد أوضحت إليزابيث ماكول عضو المجلس الإشرافي للبنك المركزي الأوروبي أنه “هناك علامات تحذير حول كيفية ظهور مخاطر بنوك الظل بشكل مفاجئ، بما في ذلك انهيار شركة “أركيغوس كابيتال مانجمنت” قبل ثلاث سنوات، والذي أدى إلى خسائر بقيمة 10 مليارات دولار لبنوك الاستثمار بما في ذلك كريدي سويس ونومورا”.
وأردفت ماكول التي المواطنة الأميركية الوحيدة التي تشغل منصباً في المجلس الإشرافي للبنك المركزي الأوروبي منذ إنشائه قبل عقد من الزمان: “لقد شهدنا بعض التقلبات، وربما أكثر من مجرد تقلبات عابرة، إن عمليات البيع المكثفة في سوق سندات المملكة المتحدة قبل عامين والتي سببها خسائر من استراتيجيات معقدة مرتبطة بالمشتقات في صناديق التقاعد كانت ضوء تحذير آخر”.
إن القطاع المصرفي الأوروبي قد “أثبت قدرة كبيرة على الصمود في مواجهة بعض التحديات المهمة للغاية في السنوات القليلة الماضية، بعد أن ارتفعت مستويات رأس المال بنسبة تقارب الربع وانخفضت القروض المتعثرة بمقدار الثلثين خلال العقد الماضي، بحسب ماكول، التي أشارت إلى أن صعود مؤسسات الإقراض غير المصرفية ذكّرها بانهيار صندوق التحوط الأمريكي Lono-no-no-ng-Term Capital Management في عام 1998 عندما كانت تشغل منصب مراقبة البنوك في نيويورك.
ونوهت ماكول إلى أن “بعض هذه الصناديق، وخاصة بعض صناديق التحوط، أصبحت كبيرة جداً لدرجة أنها تستطيع تحريك السوق جزئياً بمفردها ومن غير المرجح أن تعمل كممتصات للصدمات بنفس الطريقة التي تعمل بها البنوك أحيانًا”.
وقالت إن البنك المركزي الأوروبي “يضع تركيزاً خاصاً على أسواق الأسهم الخاصة والائتمان الخاص”، ورفضت تأكيد بعض مسؤولي الأسهم الخاصة بأنهم يقللون المخاطر عن طريق نقل الأنشطة خارج الميزانيات العمومية للبنوك وتنويعها بين المستثمرين، وأردفت: “إن حججهم تردد صداها للادعاءات التي قدمها من قاموا بتجميع وبيع قروض الرهن العقاري عالية المخاطر كالتزامات ديون مضمونة قبل انهيار تلك السوق وحدوث الأزمة المالية في عام 2008.