تكافح ألمانيا اقتصادياً، بينما قد كانت “الاقتصاد الوحيد في مجموعة السبع الذي انكمش العام الماضي، ومن المتوقع أن يكون أبطأ اقتصاد نمواً في المجموعة مرة أخرى هذا العام”.. هذه هي الكلمات الافتتاحية لمدونة كتبها أعضاء قسم أوروبا في صندوق النقد الدولي ونُشرت في 27 مارس الماضي.
وفقاً لصندوق النقد الدولي، انكمش نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1 بالمئة بين عامي 2019 و 2023. وكانت هذه النتيجة الأسوأ رقم 34 من بين 41 اقتصاداً مرتفع الدخل.
من اقتصادات مجموعة السبع، كان أداء كندا فقط أسوأ. حتى المملكة المتحدة، بانخفاض بنسبة 0.2 بالمئة، وفرنسا بارتفاع طفيف بنسبة 0.4 بالمئة، كان أداؤهما أفضل.
“إذا كانت ألمانيا قد كانت أخيراً بمثابة “الرجل المريض”، فهل هذه حالة مؤقتة أم مزمنة؟” وهو السؤال الذي يطرحه الاقتصادي البريطاني،مارتن وولف، في مقال له بصحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية.
هناك أسباب وجيهة للقول بأنها حالة مؤقتة بشكل أساسي. وكما أشارت مدونة صندوق النقد، فقد تدهورت شروط التجارة في ألمانيا بشكل كبير بعد (الحرب في أوكرانيا)، حيث ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي بشكل كبير. لكنها عادت إلى مستويات 2018 بعد أن انخفضت أسعار الغاز الطبيعي مرة أخرى. وقد انعكس الارتفاع المصاحب في التضخم وبدأت السياسة النقدية للبنك المركزي الأوروبي في التخفيف.
كذلك كان إعادة التوازن في الطلب العالمي بعد الجائحة من السلع المصنعة إلى الخدمات غير مواتية أيضًا للاقتصاد الألماني. لكن هذا الاتجاه أيضًا في طريقه للانعكاس.
يضيف صندوق النقد الدولي أن المخاوف بشأن مستقبل الصناعة الألمانية في الأمد الأبعد مبالغ فيها. صحيح أن الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة انكمش حجمها، لكنها لا تمثل سوى 4 بالمئة من الاقتصاد.
وعلى النقيض من ذلك، ارتفع إنتاج السيارات بنسبة 11 بالمئة في العام 2023، في حين ارتفعت صادرات المركبات الكهربائية بنسبة 60 بالمئة. ويضيف الصندوق أن “القيمة المضافة للتصنيع ظلت ثابتة حتى مع انخفاض الإنتاج الصناعي”.
ومن المتوقع أن يبلغ النمو الألماني 0.2 بالمئة فقط في العام 2024. ولكن من المتوقع أن يصل إلى 1.1 بالمئة في العام المقبل. وإذا كان هذا هو الوضع الطبيعي الجديد، فهو وضع ضعيف إلى حد ما، بحسب كاتب المقال، الذي يشير إلى أن هذه الاتجاهات طويلة الأجل وليست الصدمات الأخيرة هي القضية الكبرى.
خمس معضلات
وحدد في هذا السياق خمسة اتجاهات سلبية يعاني منها الاقتصاد الألماني، على النحو التالي:
- أولاً: من المتوقع أن ينخفض نمو القوى العاملة في ألمانيا (الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 64 عامًا) بنسبة 0.66 نقطة مئوية بين عامي 2025 و 2029، مقارنة بالنمو بين عامي 2019 و 2023. وهذا هو أكبر انخفاض من نوعه في مجموعة السبع.
- ثانياً: كانت حصة الاستثمار العام الإجمالي في الناتج المحلي الإجمالي، والتي بلغت 2.5 بالمئة من العام 2018 إلى العام 2022، هي الأدنى بين البلدان ذات الدخل المرتفع المهمة، باستثناء إسبانيا. بل كانت أقل حتى من نسبة 3 بالمئة الفقيرة في المملكة المتحدة.
- ثالثاً: انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا (عند تعادل القوة الشرائية) من 89 بالمئة من مستويات الولايات المتحدة في العام 2017 إلى 80 بالمئة في عام 2023. وكان هذا أكبر انخفاض نسبي لأي عضو في مجموعة السبع خلال تلك الفترة.
- رابعاً: تواصل ألمانيا لعب دور غير مهم في الاقتصاد الرقمي. ولأنها أكبر اقتصاد في أوروبا، فإن هذا مهم للاتحاد الأوروبي ككل أيضاً.
- خامساً: ينتقل العالم إلى عصر التفتت. وسيكون لهذا أهمية خاصة بالنسبة للاقتصاد الألماني الذي يعتمد نسبيا على التجارة.
ويقول وولف إن هذه الرياح المعاكسة تشكل تحديات كبيرة، ولابد من النظر فيها ومعالجتها. ولكن أياً منها لن يكون مفاجئاً بشكل خاص. ذلك أن الانفتاح على الهجرة، والحد من البيروقراطية، وإنشاء سوق أوروبية موحدة، مع اتحاد ديناميكي ومتكامل لأسواق رأس المال، تشكل جميعها أجزاء من الحل.
ولكن هناك سمة أخرى لا ينظر إليها أحد تقريباً باعتبارها مشكلة في ألمانيا أو في أي مكان آخر: فوائض الادخار الهيكلية الضخمة، والتي مولت بطبيعة الحال فوائض الحساب الجاري الضخمة.
ويرى عديد من خبراء الاقتصاد الألمان في هذه الفوائض دليلاً على قدرة ألمانيا التنافسية الدولية، ويصرون على أن الجميع، وخاصة في منطقة اليورو، لابد أن يحذوا حذوها. ولكن هذا محض هراء، بحسب وولف.
السبب الأول هو أن الجميع لا يستطيعون أن يحذوا حذوها. فعلى مستوى العالم، لابد أن يتطابق الادخار والاستثمار. وعلى هذا فإذا ادخر اقتصاد ما أكثر مما يستثمر، فإن الاقتصادات الأخرى لابد أن تفعل العكس. وسوف يتجلى هذا في تراكم المطالبات المالية على البلدان التي تعاني من العجز، في شكل ديون في المقام الأول.
ويضيف: إن هذا العداء الألماني للديون هو حماقة، أو ما هو أسوأ من ذلك (..). إذ يجب موازنة فوائضها بعجز وديون الآخرين. وعلاوة على ذلك، فإن الدعوات الموجهة إلى أعضاء منطقة اليورو لخفض عجزهم المالي لن تنجح إلا إذا ذهب الحساب الجاري لمنطقة اليورو إلى فائض أكبر أو اضطرت القطاعات الخاصة في أعضاء آخرين في منطقة اليورو (فرنسا، على سبيل المثال) إلى العجز.
والخطر هنا هو أن يُنظَر إلى مثل هذه التعديلات باعتبارها ركوداً “إفقارياً” تسببت فيه ألمانيا. وقد حدث هذا لمنطقة اليورو بشراسة قاتلة تقريباً في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ولا ينبغي لها أن تفعل ذلك مرة أخرى، وخاصة في ظل السياسة المحمومة اليوم.
السبب الثاني هو أن هناك حلاً محلياً بسيطاً. إذ يتعين على ألمانيا أن تستخدم المزيد من مدخراتها الفائضة في الداخل. والطريقة الواضحة للقيام بذلك تتلخص في رفع مستواها المنخفض للغاية من الاستثمار العام من خلال السماح للحكومة الألمانية، وهي واحدة من أكثر الحكومات جدارة بالائتمان في العالم، بالاقتراض من الناس الذين يثقون بها أكثر من غيرهم، أو على وجه التحديد الشعب الألماني، من أجل زيادة الاستثمار في الداخل.
ويوضح أن المشاكل قصيرة الأمد التي تواجهها ألمانيا سوف تمر. أما المشاكل الأطول أمداً فإنها أكثر تحدياً. ولكن المشكلة الأكثر أهمية هي إحجام ألمانيا عن تمويل الاستثمارات العامة اللازمة في الداخل. والآن هو الوقت المناسب لإلغاء “كبح الديون” في الدستور.
تباطؤ الاقتصاد
من برلين، يوضح الخبير الاقتصادي، ناجح العبيدي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن الاقتصاد الألماني لا يزال يعاني من تباطؤ واضح، ويعود ذلك إلى عدة عوامل جوهرية.
أول تلك العوامل ارتفاع مستوى أسعار الطاقة؛ إذ تعتبر أسعار الكهرباء في ألمانيا الأعلى في العالم، ولا يعود ذلك إلى تداعيات أزمة الطاقة جراء (الحرب في أوكرانيا) فقط وإنما أيضاً إلى مشاكل في التحول الطاقي، إذ نتج عن تصاعد مساهمة مصادر الطاقات المتجددة تناقضات واختلالات جديدة.
ويضيف: الطاقة الشمسية فائضة في الصيف، بينما الحاجة تزداد لها في فصل الشتاء البارد.. وطاقة الرياح تُتنج أساساً في الشمال، بينما تتركز الصناعة الثقيلة في الجنوب، ولهذا تدفع ألمانيا فاتورة باهظة من أجل تسوية هذه الاختلالات.. كما ارتكب وزير الاقتصاد الألماني من حزب الخضر خطأ قاتلاً عندما أقدم على إغلاق آخر ثلاث محطات كهرونووية في ربيع 2023 وسط أزمة طاقة غير مسبوقة.
العامل الثاني هو النقص في الأيدي العاملة المؤهلة بسبب التغير الديموغرافي وأخطاء سياسة الهجرة وتلاشي الحوافز لدى العاطلين للقبول بالوظائف المتدنية الدخل بعد الرفع الحاد في المساعدات الاجتماعية.
من جهة أخرى، تواجه الشركات الألمانية مصاعب كبيرة جراء استفحال ظاهرة البيروقراطية، لا سيما وأن الحكومة الألمانية والاتحاد الأوروبي يجبران الشركات على الالتزام بشروط قاسية وملئ استمارات لا حصر لها عن سلاسل الإمدادات من الخارج وعن ظروف العمل في تلك البلدان.
ويستطرد العبيدي: كما برزت أخيراً مشاكل كبيرة في البنى التحتية (شبكة السكك والطرق والشبكة الرقمية) وهذا ما ظهر مثلاً أثناء تنظيم بطولة الأمم الأوروبية حيث شكا كثيرون من التأخيرات المتكررة في حركة القطارات الألمانية المعروفة سابقا بدقتها.
كل هذا أدى إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة ويدفع الكثير من الشركات الألمانية العريقة إلى التفكير بنقل مصانعها إلى الخارج.
ولمواجهة هذه المشاكل أقرت الحكومة الألمانية حزماً وحوافز؛ لتحريك عجلة الاقتصاد ولكن كثيرين يشككون في قدرة السياسات الحكومية الحالية في إعادة ثالث أقوى اقتصاد في العالم إلى طريق النمو والازدهار.
الحرب في أوكرانيا
منسق العلاقات الألمانية العربية في البرلمان الألماني، الدكتور عبد المسيح الشامي، يقول في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن أهم التحديات التي تواجه الاقتصاد الألماني في الوقت الحالي ترتبط بالإشكالات التي ظهرت في أعقاب الحرب في أوكرانيا.
ويشير إلى “أزمة الطاقة” التي لم تحل بشكل كافٍ، لا سيما وأن مصادر الطاقة (الغاز تحديداً) التي كانت تأتي من روسيا كانت تأتي بكميات كبيرة وبأسعار أقل من نظيراتها.. والآن الألمان يحصلون على الغاز المسال من الولايات المتحدة بأربعة أضعاف السعر الوارد من قبل روسيا، وبالتالي هذا ينعكس بشكل سلبي جداً على كل قطاعات الاقتصاد، وبالتالي ارتفعت مستويات الأسعار.
ويضيف: “هذا إضافة إلى المواد الأولية التي انقطعت بسبب العقوبات التي فرضتها أوروبا على روسيا، فانعكست سلباً بشكل كبير جداً”، مشدداً على أن العلاقات الاقتصادية بين أكبر اقتصاد في أوروبا وموسكو والتي كانت تدعم الاقتصاد الألماني تضررت بشدة.. وبما انعكس على برلين وأثر على المؤشرات الاقتصادية فيها، بما في ذلك معدلات التضخم.
ويشدد على أن الحرب في أوكرانيا استنزفت أيضاً جزءاً من الخزينة الألمانية، بالنظر إلى الدعم الألماني لكييف، لا سيما وأن برلين من أكبر الدول الداعمة لأوكرانيا في الحرب، علاوة على فاتورة رفع مستوى الإنفاق الدفاعي والعسكري.. وجميعها عوامل أضافت إلى أزمة الاقتصاد الألماني(..) وبما عزز زيادة معدلات الإنفاق، مقابل تراجع كبير ي الدخل، الأمر الذي يهدد بعجز كبير.
ويعتقد عبدالمسيح بأنه “من الأسباب المهمة في أزمة الاقتصاد هي تشكيلة الحكومة القائمة (..) هذا الائتلاف أدى إلى حد ما لتعطيل حتى لو جزئياً لكثير من نواحي الاقتصاد وتخلي المانيا عن موقعها في الكثير من الأمور لتلبية مشاريع هذه الأحزاب”.