منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، رسّخ حلف «الناتو» مكانته كلاعب أساسي في تشكيل السياسة الدولية. تأسس في زمن الفوضى كحصن ضد التهديدات المتصاعدة، وتحوّل تدريجياً إلى كيان ذي تأثير عالمي لا يُستهان به. واجه الحلف تحدّيات متنوعة، من الحرب الباردة وتوتراتها النووية، إلى الصراعات الإقليمية، والتدخلات العسكرية التي أعادت تشكيل دوره، وأهميته.
يُعدّ كتاب «ردع الأرمجدون: سيرة حلف «الناتو» الصادر حديثاً عن دار «وايلدفاير» للصحفي البارز بيتر أبس ضمن 480 صفحة، استعراضاً موسعاً لتاريخ أكثر التحالفات العسكرية صموداً في العالم، منذ تأسيسه في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وحتى المواجهة الحالية مع روسيا بعد غزو أوكرانيا. يأخذ الكتاب القارئ في رحلة عبر العقود التي شكّلت خلالها منظمة حلف شمال الأطلسي («الناتو») معالم السياسة الدولية والعسكرية، بدءاً من الاتفاقيات السرية التي أدت إلى نشأتها، مروراً بفترة الحرب الباردة، وصولاً إلى التدخلات العسكرية في البلقان وأفغانستان، وأخيراً، التحديات الراهنة التي تواجهها في ضوء الصراع الروسي الأوكراني. يستعرض بيتر أبس في كتابه التحديات المتكررة التي واجهتها المنظمة عبر تاريخها، بما في ذلك الصراعات الداخلية بين الدول الأعضاء، والتي تراوح بين رغبة الولايات المتحدة في الهيمنة العسكرية، وأحياناً انكفائها نحو العزلة، وبين تطلعات الدول الأوروبية المتغيرة لتحقيق قدر أكبر من الاستقلال والتأثير. يسعى الكتاب إلى فهم كيفية توازن قادة «الناتو» على مدى السنوات، بين هذه الضغوط المتناقضة، وفي الوقت نفسه، التعامل مع التهديدات الخارجية، من ستالين، وصولاً إلى بوتين.
يُركّز الكتاب على كيفية نجاح «الناتو» في تجنب حرب مباشرة مع روسيا طوال سبعة عقود ونصف العقد، رغم الخلافات الكبيرة بين قادته وبين أعضاء التحالف أنفسهم. وعلى الرغم من أن «الناتو» تأسس في الأصل كتحالف دفاعي لمنع اندلاع حرب نووية مدمرة، إلا أن مسيرته شهدت تدخلات عسكرية في صراعات لم تكن متوقعة في الأصل. ويُحلل المؤلف، من خلال أمثلة محددة، كيف كان على «الناتو» التكيف مع واقع عالمي متغيّر والتفاعل مع أزمات غير محسوبة، بدءاً من الحرب الكورية وأزمة برلين إلى أزمة كوبا، وانتهاء بالانسحاب الفوضوي من كابول.
صدمة أوكرانيا
لا يكتفي الكتاب بالنظر إلى الماضي فحسب، بل يسلط الضوء أيضاً على المستقبل، حيث يشير المؤلف إلى أن «الناتو» قد يواجه أخطر فتراته على الإطلاق. ومع تصاعد التوترات العالمية والتهديدات الأمنية الجديدة، يطرح الكتاب تساؤلات حول قدرة التحالف على الاستمرار في أداء دوره كحصن للديمقراطيات الغربية. ومن خلال هذا العمل، يُقدّم بيتر أبس نظرة شاملة على مؤسسة دولية مركزية في التاريخ الحديث، مبرزاً كيفية تطور «الناتو» من تحالف دفاعي إلى لاعب، سياسي وعسكري، عالمي. ينقسم الكتاب إلى سبعة أجزاء رئيسية، يستعرض كل منها حقبة زمنية محددة في تاريخ التحالف، ويحلل الأحداث التي شكلت دوره وتأثيره في الساحة الدولية.
يركز «الجزء الأول بعنوان «صدمة أوكرانيا» على الفترة الحديثة من 2022 إلى 2023، حيث يتناول التهديد الروسي لأوكرانيا وتداعياته على «الناتو». ويستعرض كيف أثّر غزو أوكرانيا في الدول الأعضاء في الحلف، وأعاد إلى الأذهان المخاوف من اندلاع حرب شاملة في أوروبا. ويناقش كيفية تعامل «الناتو» مع هذا التحدي، والتوترات السياسية الداخلية بين الدول الأعضاء حول كيفية الرد، ما يعكس التحديات المستمرة التي تواجه التحالف في بيئة عالمية متغيرة.
ويأخذنا الجزء الثاني «الحمل والولادة» إلى جذور «الناتو» بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يناقش أبس الفترة من 1945 إلى 1949. يستعرض هذا القسم الأحداث التي أدت إلى تأسيس الحلف، بما في ذلك جسر برلين الجوي، وكيفية بناء التحالفات بين الدول الغربية لمواجهة التهديد السوفييتي. ويوضح أبس كيف تطورت فكرة «الناتو» من مجرد تحالف دفاعي إلى كيان سياسي واستراتيجي، قادر على التأثير في المشهد الدولي. ويُبرز الجزء كيف كانت هذه السنوات الأولى حاسمة في تحديد شكل ووظيفة الحلف.
ويركز الجزء الثالث «الحرب الباردة الأولى» على مرحلة الحرب الباردة الأولى من 1949 إلى 1962. ويستعرض المؤلف كيف كان «الناتو» يسعى إلى تحقيق التوازن بين الردع النووي والتحالفات السياسية مع تعزيز قدراته العسكرية. يُناقش هذا الجزء الأحداث البارزة مثل أزمة برلين، وأزمة الصواريخ الكوبية التي كادت أن تؤدي إلى مواجهة نووية بين القوى العظمى. ويعرض أبس كيف تعامل قادة «الناتو» مع هذه الأزمات، وكيف أثرت في تشكيل استراتيجيات الحلف المستقبلية.
مواجهات متجددة
وفي الجزء الرابع «التهدئة والخلافات والدوران السريع مع ريغان»، يغطي أبس الفترة من 1963 إلى 1989، حيث كانت التوترات العالمية في ذروتها بسبب التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. ويُناقش الكتاب فترة التهدئة والعودة إلى التصعيد خلال فترة حكم رونالد ريغان. يوضح المؤلف كيف أن هذه الفترة شهدت خلافات حادة بين دول «الناتو» حول أفضل السبل لمواجهة التهديد السوفييتي، وكيف كان التحالف يسير على حبل مشدود بين تعزيز قدراته الدفاعية، وتجنب اندلاع حرب نووية.
ويتناول الجزء الخامس «عصر التدخلات» التحول الذي شهده «الناتو» بعد نهاية الحرب الباردة من 1990 إلى 2010، حيث بدأ التحالف بالتدخل في صراعات خارج حدوده التقليدية. ويركز هذا الجزء على عمليات «الناتو» في البلقان، بما في ذلك حرب كوسوفو، وكيف أعادت هذه التدخلات تشكيل دور «الناتو» في العالم. ويُبرز أبس كيف تعامل «الناتو» مع هذه التحديات الجديدة، وكيف أن هذه الفترة كانت مملوءة بالنجاحات، والإخفاقات، التي أثرت في تماسك الحلف، وصورته على الساحة الدولية.
ويغطي الجزء السادس «المواجهة المتجددة» الفترة من 2007 إلى 2020، حيث يناقش التحديات الجديدة التي واجهها «الناتو» مع عودة روسيا كلاعب رئيسي على الساحة الدولية. ويستعرض هذا الجزء كيف تعامل «الناتو» مع الغزو الروسي لجورجيا، والهجمات السيبرانية، والثورات العربية. ويُحلل المؤلف هنا كيفية استجابة «الناتو» لهذه التحديات، وكيف أن دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أعاد تشكيل الديناميكيات الداخلية للحلف، ما أثار تساؤلات حول استمرارية التزام الولايات المتحدة بالحفاظ على التحالف.
ويستعرض الجزء السابع «الطريق إلى عام 2049» التحديات المستقبلية التي قد تواجهها منظمة «الناتو»، مع اقترابها من مئويتها في عام 2049. ويطرح أبس تساؤلات حول قدرة «الناتو» على التكيف مع التغيرات الجيوسياسية السريعة، والتحديات الجديدة مثل تغير المناخ، والهجمات السيبرانية، وتغير موازين القوى الدولية. ويسلط المؤلف هنا الضوء على العلاقات الأمريكية الأوروبية، وأهميتها في تحديد مستقبل الحلف، وكيف يمكن أن يواجه «الناتو» تحديات القرن الحادي والعشرين، مع الحفاظ على وحدته، وفعاليته، في عالم متزايد التعقيد.
ويعدّ هذا الكتاب مرجعاً مهماً لفهم دور «الناتو» في التاريخ الحديث واستشراف مستقبله في العقود القادمة.