تواجه العاصمة البريطانية لندن تحولات جذرية في مشهدها الاقتصادي، حيث تتزايد المخاوف من هجرة أعداد كبيرة من الأثرياء. فبعد سنوات من كونها مركزاً عالمياً للأعمال والمال، تشهد المدينة الآن تحديات جديدة تهدد مكانتها كوجهة جاذبة للاستثمارات والأثرياء.
وتثير السياسات الضريبية الجديدة التي تتبناها الحكومة البريطانية تساؤلات حول مدى تأثيرها على قرارات الأثرياء بالبقاء أو المغادرة. فهل ستدفع هذه السياسات المزيد من الأثرياء إلى البحث عن ملاذات ضريبية أخرى؟ وما هي التداعيات المحتملة لهذا الهروب على الاقتصاد البريطاني؟
في حي مايفير المالي والمكاتب الأنيقة للمستشارين للأثرياء للغاية، يزداد الحديث بأن الجميع يعرف شخصاً يفكر في استراتيجية خروجه أو غادر بالفعل، فالخطوات التي كانت محصورة في الهمسات والشائعات أصبحت في العلن منذ تولى حزب العمال السلطة ووعوده بفرض قيود أكثر صرامة على المعاملة الضريبية التفضيلية للمقيمين الأجانب الأثرياء، وكذلك استثمارات رأس المال الخاص ورسوم المدارس الخاص، حسبما ذكر تقرير نشرته وكالة “بلومبرغ” واطلعت عليه سكاي نيوز عربية بعنوان “أثرياء لندن يهربون من تهديد ارتفاع الضرائب”.
وأوضح التقرير أن بعضهم يسحبون استثماراتهم في المملكة المتحدة، لكن البعض الآخر وضعوا خطط مغادرة أو نفذوها بالفعل، وفقا لما قاله عدد من مستشاري الثروة والأفراد ذوي القيمة الصافية العالية.
وذكر التقرير أنه “بالنسبة للأثرياء، تشمل خطط المملكة المتحدة الأكثر إثارة للجدل ضريبة ميراث بنسبة 40 بالمئة على الثروة الخارجية، وفرض ضريبة على الفائدة المحمولة – جزء من عوائد الاستثمار، المشتركة بين مديري الصناديق – بمعدل يصل إلى 45 بالمئة، بدلاً من 28 بالمئة حالياً.
وفاز حزب العمال بقيادة كير ستارمر بالانتخابات الصيفية بعد 14 عاماً من حكم المحافظين، وذلك بوعوده بإعادة توزيع الثروة وإصلاح الخدمات العامة، وأشارت المستشارة راشيل ريفز وزيرة الخزانة إلى وجود ثغرة في الميزانية تبلغ 22 مليار جنيه إسترليني تحتاج إلى سدادها. ومع ذلك، فإن المؤيدين لحزب العمال في مؤتمر الحزب هذا الأسبوع يميلون إلى الحديث عن فرض ضرائب على الأثرياء كمصدر للإيرادات بدلاً من النظر إليها كسبب للهجرة.
وبحسب التقرير، كتبت شركة General Atlantic إلى الخزانة الشهر الماضي لتحذر من أن بعض العشرات من صانعي الصفقات في لندن التابعين للشركة الأميركية قد يغادرون إذا مضت الخطط لزيادة الضرائب على الفائدة المحمولة قدماً. وأشارت الشركة إلى أن أكثر من نصف فريق الاستثمار المكون من حوالي 50 شخصاً في لندن ليسوا مواطنين بريطانيين.
ثروة بريطانيا
لدى المملكة المتحدة ثالث أكبر عدد من أصحاب الملايين بالدولار في العالم – أكثر من ثلاثة ملايين شخص في المجموع، وفقاً لمجموعة UBS AG، وتتجه المملكة المتحدة نحو خسارة 9500 مليونير هذا العام، وهو أكبر عدد في أي بلد باستثناء الصين وأكثر من ضعف العدد الذي غادر البلاد في عام 2023، وفقاً لشركة Henley & Partners، التي تقدم الاستشارة للعملاء الأثرياء بشأن الهجرة. وقد يؤدي تأثيرهم المالي الكبير، حتى مع مغادرة عدد صغير من الأثرياء للغاية بدلاً من دفع المزيد من الضرائب، إلى تعطيل توقعات الحكومة للإيرادات بشأن سياساتها الجديدة.
وقال إيان تيت، رئيس مكتب الاستثمار الخاص في شركة إدارة الثروة London & Capital: “: “لقد تغيرت الأجواء بالتأكيد، حيث يعيد جميع العملاء تقريباً، وهم في الغالب بريطانيون، مراجعة أصولهم، حيث يسعى البعض إلى بيع استثماراتهم قبل الميزانية الشهر المقبل ليكونوا متأكدين من مدفوعات الضرائب الخاصة بهم.
بدوره، ذكر ارسيلو غولارت، الشريك الإداري في شركة الخدمات المالية First Alliance Group ومقرها زيورخ، أن معظم عملائه البالغ عددهم حوالي 40 عميلاً مقيمين في المملكة المتحدة يضعون خططاً لمغادرة البلاد. وقال: “هذا يحدث بالفعل”.
رأس المال جبان
في حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” قال علي حمودي الخبير الاقتصادي، المختص في الشأن البريطاني، “إن الهجرة في الواقع هي نتيجة حتمية عند رفع الضرائب خاصة على الأثرياء وأصحاب الثروات الضخمة، وكما يقول المثل، رأس المال جبان لذا فمن المتوقع أن يغادر المملكة المتحدة هذا العام 9500 مليونير، مما يجعلها في المرتبة الثانية بعد الصين عندما يتعلق الأمر بهجرة الأثرياء”.
وقد حذر بالفعل العديد من محامي الضرائب ومستشاري الثروات البارزين من أنهم يتلقون استفسارات قياسية حول فكرة الانتقال إلى الخارج، ومع تزايد المخاوف من “هجرة الثروات” في الأسابيع التي سبقت أول ميزانية لوزيرة الخزانة راشيل ريفز في أكتوبر، من المرجح أن تجتذب إحدى المقترحات التي قدمتها مؤسسة ريزوليوشن – وهي مؤسسة فكرية مؤثرة من يسار الوسط – حول الطرق التي قد تضطلع بها ريفز إلى ملء “الثقب الأسود المالي” الذي يبلغ 22 مليار جنيه إسترليني قدراً غير متناسب من الاهتمام، بحسب تعبيره.
وأوضح حمودي أنه “إلى جانب مقترحات مثل زيادة المعدل الهامشي لضريبة مكاسب رأس المال، فهم يقترحون أنه يجب تطبيق ضريبة مكاسب رأس المال على أي مكاسب يحققها الأشخاص عندما يتطلعون إلى الانتقال أو الهجرة إلى بلد آخر، وحالياً إذا انتقل فرد ثري إلى مكان مثل دبي أو موناكو بعد أن جمع أرباحاً من الأسهم أو السندات المؤسسية أو الاستثمارات الأخرى أثناء وجوده في المملكة المتحدة، فلن يدفع ضريبة مكاسب رأس المال على أي مكاسب حققها أثناء وجوده في المملكة المتحدة”.
لكنه ذكر “أنه من غير الواضح حتى الآن ما هو تأثير مثل هذا الخروج من أصحاب الثروات العالية على الاقتصاد الحقيقي في المملكة المتحدة، لكن رأينا بالفعل تأثيرات على سوق العقارات الراقية في لندن، والآن، يخفض حوالي 30 بالمئة إلى 40 بالمئة من العملاء أسعار عقاراتهم على أمل تحقيق بيع أسرع، فالكثير من الناس قلقون. إنهم يفضلون الخروج الآن قبل فوات الأوان”.
تراجع جاذبية لندن كمركز مالي عالمي
من جانبه، أكد الرئيس التنفيذي لمركز “كروم للدراسات الاستراتيجية” في لندن طارق الرفاعي في حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن سياسة رفع الضرائب على الأثرياء، التي يعتمدها حزب العمال، هي سياسة فاشلة ولن تحقق أهدافها. وأشار إلى أن هذه السياسة ستؤدي إلى تراجع جاذبية لندن كمركز مالي عالمي، مما سيؤثر سلباً على الاقتصاد البريطاني ونموه.
ويرى أن حزب العمال يعتمد بشكل كبير على زيادة الضرائب كحل للمشاكل الاقتصادية، متجاهلاً الآثار السلبية المحتملة لذلك. ويشدد على أن رفع الضرائب، وخاصة على الأثرياء، سيؤدي إلى تراجع الاستثمار وتدفق رأس المال إلى دول أخرى، وذلك يؤثر سلباً على النمو الاقتصادي.
ومع ذلك يشير الرفاعي إلى أن هذا التأثر لن تراه على المدى القصير في غضون العامين المقبلين، بل سيكون على المدى الطويل، لأنه هناك مراكز جذب أخرى ناجحة ستستقطب الأثرياء مثل دبي وسنغافورة.
#الاقتصاد البريطاني
#بريطانيا