في مفارقة غريبة وعلى وقع تصاعد حدة الحرب في المنطقة، سجّلت إصدارات لبنان من سندات “اليوروبوندس” ارتفاعات سريعة وغامضة في الأيام القليلة الماضية.
ويعتبر هذا التطوّر مخالفاً لمجريات الأحداث التي يتوقّعها المراقبون عادة في الظروف المماثلة، فمن المفترض أن تكون الأعمال الحربية الواسعة التي يشهدها لبنان مصدر قلق للمستثمرين، لا مصدر تفاؤل يدفعهم للإقبال على شراء سندات “اليوروبوندس” ودفع أسعارها للارتفاع.
وهذا التناقض في مجريات الأحداث الاقتصادية في لبنان، ينطبق أيضاً على وضع العملة اللبنانية التي ورغم الوضع المالي المتأزم في البلاد، تمكنت من استيعاب صدمة توسع الأعمال الحربية، وبلوغها مشارف العاصمة بيروت.
وبقي سعر صرف الليرة اللبنانية مستقراً عند حدود 90 ألف ليرة للدولار أميركي، وهو المستوى المُسجل منذ مارس 2023، وذلك بعد انهيارات متتالية أفقدت العملة اللبنانية أكثر من 95 بالمئة من قيمتها منذ نهاية 2019.
وتُبرز هذه التطورات المالية غير التقليدية، خصوصاً فيما يتعلق بسندات “اليوروبوندس” اللبنانية، وجود عوامل واستراتيجيات خفية تؤثر على السوق، وتساهم في تجاوزها للأزمات الراهنة.
ما هي سندات “اليوروبوندس” اللبنانية؟
“اليوروبوندس” هي سندات الدين السيادي بالعملة الأجنبيّة أصدرها لبنان، والعملة المعتمدة لهذه الإصدارات هي الدولار الأميركي.
يبلغ عدد إصدارات لبنان من سندات “اليوروبوندس” 27 إصداراً، وهذه السندات مملوكة من قبل المصارف المحلية ومصرف لبنان ومستثمرين أجانب.
وتصل قيمة إصدارات الدولة اللبنانية من سندات “اليوروبوندس” إلى نحو 31.1 مليار دولار، ومع احتساب الفوائد، يرتفع الدين المستحق على الدولة اللبنانية وفق السعر الإسمي للسندات إلى أكثر من 40 مليار دولار.
وفي 9 مارس 2020، أعلن لبنان تخلفه عن سداد الأقساط المستحقة من ديون سندات “اليوروبوندس”، وهذا ما دفع المصارف المحلية في لبنان إلى بيع حصصها في هذه السندات إلى مستثمرين أجانب بسعر منخفض، لترتفع بذلك حصة المستثمرين الأجانب في سندات “اليوروبوندس” اللبنانية إلى ما يوازي 22.3 مليار دولار من حيث قيمتهما الإسمية.
ومنذ توقف لبنان عن دفع الأقساط المستحقة، سجلت سندات “اليوروبوندس” اللبنانية انخفاضات متتالية في قيمتها، حتى وصلت إلى نحو 5 سنتات للدولار الواحد (أي 5 بالمئة فقط من قيمة السند الإسمي).
وخلال عام 2024، ساهمت الأنباء المسربة عن رغبة الحكومة اللبنانية بإعادة شراء جزء من سندات “اليوروبوندس” برفع أسعارها، لتتراوح بين 5.875 سنتات و6.5 سنتات للدولار.
وحتّى الأسبوع المنتهي في 27 سبتمبر 2024، أي اليوم مقتل أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، لم تكن أسعار سندات “اليوروبوندس” اللبنانية قد سجّلت أي تحرّك إيجابي أو سلبي غير مألوف، رغم توسع الأعمال الحربية حينها.
ولكن وعلى نحو غريب وبعد مقتل نصرالله بأيام، سجّلت أسعار سندات “اليوروبوندس” اللبنانية قفزة غامضة فاقت نسبتها 25 بالمئة، لتصل إلى مستويات ناهزت الـ8.75 سنتات للدولار حالياً، وهو ما طرح تساؤلات عديدة حول هوية الجهة التي أقبلت على شراء هذه السندات بشهيّة بمجرّد مقتل نصرالله، وحول ما إذا كانت الحرب قد تحوّلت إلى مصدر تفاؤل للمستثمرين في سندات “اليوروبوندس” اللبنانية؟
مضاربة لجني الأرباح
ويقول كبير الاقتصاديين في مجموعة “بنك بيبلوس”، الدكتور نسيب غبريل، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن الارتفاع الذي يحكى عنه بأسعار سندات “اليوروبوندس” اللبنانية لا قيمة فعلية له، خصوصاً أن سعر هذه السندات حالياً لايزال يعد في القعر، وما حصل من ارتفاع لا علاقة له بعملية اغتيال نصرالله بل بالمضاربة وتحقيق أرباح سريعة.
ويكشف غبريل أن تدني سعر سندات “اليوروبوندس”، ليصل الى مستوى 0.6 سنت للدولار، أتى بعد إعلان الحكومة اللبنانية السابقة التعثر عن الدفع في عام 2020، حيث لم تبدأ الحكومة حينها أي مفاوضات مع الدائنين، وهو ما استمرت بالقيام به الحكومة الحالية التي ورغم الاتفاق الذي أعدته مع صندوق النقد الدولي لم تبدأ المفاوضات مع الدائنين، مشيراً إلى وجود إهمال كلي من قبل لبنان لقضية حاملي سندات “اليوروبوندس”.
واعتبر غبريل أن كل ارتفاع يحصل في الوقت الحالي في أسعار سندات “اليوروبوندس” اللبنانية، مرده الى تحقيق أرباح آنية ومضاربة، ولا علاقة له بالإصلاحات أو النظرة المستقبلية للاقتصاد اللبناني، ولا بقتل نصرالله.
وشدد على أن الحكومة اللبنانية غائبة كلياً عن هذا الملف، في حين أن الصورة في لبنان ضبابية اليوم ولا أحد يعرف متى تنتهي الحرب ومتى يتم انتخاب رئيس جمهورية أو يتم تأليف حكومة جديدة، ولذلك فإن تطبيق برنامج إصلاحي يعيد ثقة المستثمرين بلبنان وينهض باقتصاده هو أمر بعيد المنال في الوقت الراهن.
سبب صمود الليرة اللبنانية
بحسب ما كشف كبير الاقتصاديين في مجموعة بنك بيبلوس، الدكتور نسيب غبريل في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، فإن استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، بالرغم من ظروف الحرب التي يمر بها لبنان، يعود للعوامل المتعددة الآتية:
- العامل الأول: قيام مصرف لبنان ومنذ عام 2023 بالتوقف عن تمويل عجز الموازنة وحاجات الدولة اللبنانية، وبالتالي اضطرت الحكومة إلى إيجاد مصادر أخرى لتحقيق الإيرادات، وقامت بخفض عجز الموازنة عبر تقليص النفقات العامة.
- العامل الثاني: قيام مصرف لبنان ومنذ عام 2023 بتخفيض حجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية الموجودة في السوق والتي كانت تستخدم للمضاربة على العملة، فكانت نتيجة هذا القرار سحب 22 تريليون ليرة من السوق، ما يعني تقليص حجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية بنسبة 30 بالمئة.
- العامل الثالث: من خلال الاتفاق مع الحكومة يقوم مصرف لبنان بمنح رواتب ومخصصات ومساعدات موظفي القطاع العام بالدولار الأميركي، حيث تقوم الحكومة بوضع الأموال في المصارف بالليرة اللبنانية، على أن تُدفع للموظفين بالدولار، وهذا ما يساهم بمنع ارتفاع الكتلة النقدية بالليرة ويخفف الطلب على الدولار.
- العامل الرابع: تمكن مصرف لبنان من رفع احتياطاته بالعملات الأجنبية بقيمة مليارين و100 مليون دولار منذ نهاية شهر يوليو 2023 وحتى نهاية شهر سبتمبر 2024، وذلك رغم جميع الظروف التي مرّ بها لبنان، خلال تلك الفترة والتي تشمل الحرب الإسرائيلية، الشغور الرئاسي وجود حكومة تصريف أعمال غير كاملة الصلاحيات.
- العامل الخامس: إصدار مصرف لبنان لتعاميم تسمح للمودعين في المصارف بسحب جزء صغير من أموالهم شهرياً بالدولار الأميركي.
ويرى غبريل أن جميع العوامل المذكورة ساهمت باستقرار الليرة اللبنانية عند مستوى 90 ألف للدولار، فمن خلال ضخ الدولارات وسحب الكتلة النقدية الكبيرة بالليرة اللبنانية من السوق، تمكن مصرف لبنان من الحفاظ على الاستقرار ومنع التلاعب والمضاربة.
وأشار إلى أن القرارات التي تم اتخاذها في المرحلة السابقة أدت إلى دولرة الاقتصاد اللبناني تدريجياً، حيث بات من الأسهل على اللبنانيين الآن من تجار وأفراد وشركات الدفع بالدولار الأميركي على الدفع بالليرة اللبنانية.
وشدد غبريل على أن استقرار العملة اللبنانية قد يطول، فحجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية المتوفرة في السوق حتى نهاية شهر سبتمبر 2024، يبلغ 53463 مليار ليرة أي ما يوزي 597 مليون دولار أميركي، مقابل احتياطي سائل بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان يبلغ 10 مليار و700 مليون دولار، ما يعني أن الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية توازي أقل من 6 بالمئة من احتياطي مصرف لبنان بالعملات الاجنبية، وبالتالي فإن مصرف لبنان قادر وبسهولة على تجفيف السوق من الليرة للحفاظ على استقرار العملة.