خلفت الحرب في غزة منذ السابع من أكتوبر من العام الماضي كارثة إنسانية وبيئية واجتماعية غير مسبوقة، حيث يحتاج الاقتصاد الفلسطيني إلى فترة زمنية “طويلة جداً” حتى يعود إلى إيقاعه ومستوياته التي كان عليها قبل اندلاع تلك الحرب المطولة.
في هذا الإطار سلط تقرير نشرته صحيفة “الغارديان” البريطانية، الضوء على تحذير الأمم المتحدة من أن اقتصاد غزة شهد “دمارًا تامًا” بسبب الحرب المستمرة منذ أكثر من عام بين إسرائيل وحركة حماس، متوقعة أن العودة إلى مستويات ما قبل الصراع قد تستغرق 350 عاماً.
بحسب تقرير عن التكاليف الاقتصادية للحرب أعدته منظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) التابعة للأمم المتحدة، فإن القتال الدائر منذ السابع من أكتوبر العام الماضي أدى إلى تدمير بقايا الاقتصاد والبنية الأساسية في غزة.
التقرير الذي قدم إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي ذكر أن النشاط الاقتصادي في مختلف أنحاء غزة، والذي كان ضعيفا قبل الحرب توقف تماما، باستثناء الحد الأدنى من الخدمات الإنسانية الصحية والغذائية المقدمة في ظل ظروف من النقص الشديد في المياه والوقود والكهرباء، والقيود الكبيرة على الوصول، وأوضح أن:
- قطاع البناء انخفض بنسبة 96 بالمئة، والإنتاج الزراعي بنسبة 93 بالمئة.
- الإنتاج الصناعي انخفض بنسبة 92 بالمئة، وقطاع الخدمات تراجع بنسبة 76 بالمئة.
- وفي الوقت نفسه، بلغ معدل البطالة 81.7 بالمئة في الربع الأول من العام 2024، وهو المعدل الذي قالت الأمم المتحدة إنه من المرجح أن يتفاقم أو يستمر طالما استمرت الحرب.
تداعيات
التقرير أكد أن العمليات العسكرية المكثفة في غزة أسفرت عن كارثة إنسانية وبيئية واجتماعية غير مسبوقة ودفعت غزة من حالة عدم التنمية إلى الدمار التام.
وأكد التقرير أن التداعيات بعيدة المدى لهذه الأحداث سوف تستمر لسنوات مقبلة، وقد يستغرق الأمر عقوداً من الزمن حتى تعود غزة إلى الوضع الذي كانت عليه من قبل.
وذكر أنه بعد التوصل إلى وقف إطلاق النار، فإن العودة إلى اتجاه النمو الذي سجل في الفترة 2007-2022 يعني أن الأمر سيستغرق 350 عاماً حتى تتمكن غزة من استعادة الناتج المحلي الإجمالي إلى مستواه السابق.
وقال التقرير إن الأشهر الاثنى عشر الماضية من الحرب جاءت في أعقاب فترة بين عامي 2007 و2022 عندما تأثر اقتصاد غزة بشدة بالقيود التي فرضتها إسرائيل على حركة البضائع والأشخاص.
وذكر التقرير أنه بحلول نهاية يوليو 2024:
- لحقت بعض الأضرار بـ88 بالمئة من المباني المدرسية، وخرج 21 مستشفى من أصل 36 مستشفى عن الخدمة، وخرج 45 من أصل 105 مرافق صحية أولية عن العمل.
- تضرر أو دمر أكثر من 62 بالمئة من المباني السكنية، وتضرر أكثر من 59 بالمئة من البنية التحتية لقطاع المياه والصرف الصحي والنظافة بشدة، مما أثر على خدمات المياه والصرف الصحي.
وقالت الأونكتاد إن غزة سجلت في الربع الرابع من العام 2023 أكبر ركود اقتصادي لها في تاريخها الحديث، وانكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 80.8 بالمئة مقارنة بالربع الثالث من العام، بينما انخفض الناتج المحلي الإجمالي للفرد بنسبة 81.4 بالمئة خلال نفس الفترة.
كارثة إنسانية
في السياق أكدت المحللة المتخصصة في الشأن الفلسطيني الإسرائيلي، تمارا حداد، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن غزة تواجه غزة كارثة إنسانية لم تحدث في تاريخ الشعوب والدول، في ظل استمرار إطلاق النار، وأوضحت أن:
- القطاع الصحي: الحرب تسببت بتدمير ما يزيد على 80 بالمئة من البنية التحتية للقطاع ومستشفيات غزة.. معظم المستشفيات خرجت عن الخدمة، وما يعمل منها يعمل جزئيا نتيجة الدمار المباشر، كما تم فقد الكادر الطبي المؤهل بسبب النزوح القسري الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني ونقص الإمكانات، فانقطاع الكهرباء والوقود وعدم توافر المياه الآمنة، إضافة إلى فيضان الصرف الصحي وتراكم النفايات الصلبة وانتشار الأوبئة، أدى إلى إرهاق القطاع الصحي بصورة كبيرة.
- القطاع التعليمي: أكثر من 600 ألف طالب حرموا من التعليم نتيجة تدمير 80 بالمئة من البنية التحتية للمدارس والجامعات، حيث أن أغلب المدارس تتبع وكالة الأونروا تم تدميرها كليا نتيجة القصف الجوي المستمر على غزة دون توقف، وأيضا الجامعات لم يعد لها وجود نتيجة الاستهداف المستمر لها وقصفها.
- القطاع الزراعي: لم تعد غزة صالحة للزراعة حيث كان الاعتماد قبيل السابع من أكتوبر 2023 على الاقتصاد المحلي والمنزلي وزراعة الفراولة التي يتم تصديرها بشكل مستمر من غزة للخارج، ناهيك عن المزروعات الأخرى نتيجة تضرر نسبة 70 بالمئة من الأراضي الزراعية في غزة أو ما يعادل 10183 هكتارا، حيث وصلت نسبة الأضرار الزراعية إلى مستويات غير مسبوقة.
- ميناء غزة تعرض إلى أضرار جسيمة، حيث دمرت غالبية قوارب الصيد، فقد كان سكان القطاع يعتمدون على صيد الأسماك لإدارة واقعهم المعيشي والوصول إلى الاكتفاء الذاتي.
- الإنتاج الحيواني: لم يبق سوى نسبة واحد بالمئة يعني 34 رأس من الدجاج على قيد الحياة، نظرًا لتوقف الإنتاج التجاري للدواجن إلى حد كبير فقط لأسر محدودة تملكهم، أما قطاع الخراف لم يتبقى إلا 40 بالمئة أما الماعز نسبته 37 بالمائة .
- قطاع البناء: هناك تدمير شبه كلي لقطاع غزة وما تبقى هو جزء بسيط لم تدخله إسرائيل بريًا.
وقالت إن الاقتصاد الفلسطيني بات في حالة إنهاك تام بسبب الحرب والفقر والبطالة، مشيرة إلى أنه على مستوى الشركات فقد تدمرت بشكل كلي ما أدى إلى تعزيز حالة الفقر المدقع.
وذكرت أن غزة كلها مدمرة وبحاجة لعشر سنوات وأكثر لإزالة آثار التدمير، وحتى إن تمت الإزالة فهذا بحاجة لمقومات على رأسها وقف الحرب وجلب تمويل ومشاريع، لافتة إلى أن هذا بحاجة لأموال ضخمة تقدر بقيمة 85 مليار دولار.
وأكدت أنه حال توقفت الحرب على غزة فإن اتجاه النمو لن يعود إلا بدخول سيولة مالية تعيد الحياة، أو على الأقل الحد الأدنى من متطلبات غذائية وصحية. وأفادت بأن الإعمار لن يحدث إلا بإجماع دولي إقليمي ضمن رؤية مستقبلية لعدم عودة الحرب على غزة، متوقعة أن يحتاج ذلك إلى سنوات طويلة لإعادة الوضع كما كان في السابق، خاصة وأن إعادة بناء غزة يبدأ من الصفر، وهو ما يعني انتظار المواطن الفلسطيني إلى بناء منزل يأوي عائلته لسنوات، ليفضل الخروج من غزة والعيش خارجه.
إعادة الإعمار
كذلك ذكر الأكاديمي الفلسطيني، الدكتور أيمن الرقب، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن قطاع غزة تعرض إلى دمار كلي على صعيد البنى التحتية وتراجع الاقتصاد بشكل كبير، واصفًا الحديث عن احتياجها لـ 360 عاما لاستعادة النمو الاقتصادي بأنه ربما “درب من الخيال”، في إشارة لـ “مبالغة بالتقديرات”.
وبرر ذلك بقوله: هناك دول نشأت خلال عشرات السنوات وتطورت بشكل كبير، على سبيل المثال إسرائيل تأسست منذ 76 عاما، وأصبحت الآن من الدول المتقدمة التي تشهد تقدما كبيرا في جميع المجالات على رأسها الاقتصاد والصحة والتصنيع العسكري.
وأكد على أنه إذا توفرت الأموال فبالإمكان إعادة بناء غزة من جديد وتطويرها، موضحاً أنه إذا تم البدء بالفعل بإعادة إعمارها وبنائها سيؤدي ذلك إلى انتعاش الاقتصاد بشكل كبير، لتبدأ مرحلة ما بعد ذلك بإعادة تطوير الاقتصاد وإعادته للتعافي، وهو ما قد يحتاج إلى فترة تتراوح بين ثلاث إلى أربعة سنوات.
وشدد على أن تلك الفترة سالفة الذكر كفيلة بإنجاح عملية انتعاش الاقتصاد، لكن ذلك شرط أن تتوافر الأموال اللازمة ووجود شركات عربية وأجنبية تعمل على تطوير، وبعد خمس أو عشر سنوات ستعود أفضل من قبل، مستطرداً: غزة من الممكن أن تصبح مشروع سنغافورة العرب.
عوامل تتوقف عليها العودة إلى المستويات السابقة للحرب
وفي حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أكد الدكتور نضال الشعار الخبير الاقتصادي وكبير الاقتصاديين في شركة “ACY”، أنه لا يمكن تحديد المدة الزمنية التي تحتاجها الاقتصادات لكي تتعافى وتعود إلى وضعها السابق، موضحًا أن ذلك يعتمد على عوامل عديدة منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي.
وقال إن عودة غزة إلى الوضع الذي كانت عليه وتقدير المُدة الزمنية لذلك يحتاج إلى وضع افتراضات محددة وواقعية، موضحًا أن من هذه الافتراضات:
- إنهاء الصراع المسلح والحصار الاقتصادي.
- اعتبار غزة منطقة آمنة من قبل المجتمع الدولي وبكفالات دولية.
- عودة المهجرين إلى مناطقهم.
- تشكيل مجموعة مانحة من الدول لتمويل إعادة الإعمار.
- تحرير القيود التجارية والسماح بتدفق رأس المال الأجنبي.
- وضع قوانين جديدة لسوق الأعمال.
- السماح بنقل التكنولوجيا والأساليب الحديثة للإنتاج.
- تعويض المتضررين من قبل المجتمع الدولي بشكل عادل ومنصف وموجه بشكل اقتصادي واضح، حيث تكون الأهداف واضحة في التعويض.
وأكد أن هناك عوامل أخرى قد تظهر أثناء فترة إعادة الإعمار والتي سيكون ممكنًا التعامل معها في جو سياسي آمن.
وأشار إلى أن هناك تجارب عديدة يمكن الاستفادة منها، منها على سبيل المثال تجربة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وخطة مارشال للبناء، والتي اختصرت مسافة ومدة التعافي بشكل كبير ومكنت ألمانيا من أن تكون دولة قوية تربعت على عرش الاقتصاد الأوروبي.
وذكر أن الاعتماد على معدلات النمو السابقة للحرب واستخدامها في استشراف عملية التعافي وإعادة الإعمار ومن ثم استنتاج المدة الزمنية اللازمة هو أمر لا يخلو من السطحية، مؤكدا أن تحديد مدة 350 عام كمدة زمنية لعودة نمو غزة لما كانت عليه هو استنتاج غير عملي أو غير دقيق.
وبيّن أن التاريخ يؤكد أن الشعوب قادرة على إحداث نهضة اقتصادية بسرعات مذهلة في حال توفرت العوامل الموضوعية لذلك وإشراك الدول الغنية في عملية إعادة الإعمار، مشيرًا إلى أنه على سبيل المثال دول مثل فيتنام وكمبوديا ورواندا خير مثل على النجاح السريع في التعافي وإعادة الإعمار.
كما أكد أنه لا يمكن الافتراض بأن شعب منطقة مدمرة يرغب في العودة إلى الوضع الذي كان قبل التدمير، حيث أن كل التجارب تثبت أن إعادة الإعمار عادة ما يرافقها آمال وخطط لتحسين ومحاولة القفز على الماضي وإحداث تطور اقتصادي يفوق بكثير ما كانت عليه الأمور قبل الحرب،مؤكدًا أن إعادة الإعمار تسمح بتوفير فرصة لإحداث نقلات اقتصادية وتكنولوجية نوعية واستخدام الأساليب الحديثة في التطوير والبناء.