خاصجزيرة إيكاريا في اليونانتشهد اليونان تحولات ديموغرافية عميقة تؤثر بشكل كبير على نسيجها الاجتماعي والاقتصادي.فبعد سنوات من الأزمات الاقتصادية والهجرة الجماعية، تواجه البلاد تراجعاً حاداً في عدد السكان، خاصة في المناطق الريفية والجزر.
هذه الظاهرة، التي تتجلى بوضوح في ظهور “القرى الشبحية” المهجورة، تطرح تساؤلات جدية حول مستقبل الاقتصاد اليوناني.
فكيف يمكن لاقتصاد أن يحقق النمو المستدام في ظل تقلص القوى العاملة وشيخوخة السكان؟ وكيف ستؤثر هذه التحولات الديموغرافية على القطاعات الاقتصادية وهل ستتمكن اليونان من تجاوز هذه التحديات وإيجاد نموذج اقتصادي يتناسب مع واقعها الديموغرافي المتغير؟
مدن وقرى “شبحية”
لم يعد هناك أحد يدير مقهى سانت جورج في لاستا، وهي قرية جبلية في منطقة بيلوبونيز اليونانية.
بدلاً من ذلك، هناك نظام شرف – فقط خذ مشروباً، اترك تبرعاً واستمتع بآثار حقبة ماضية، فالصور الموجودة على الجدران لساكنين مرحين تخفي الواقع الخارجي، حيث تُقدم الساحة المهجورة والمدرسة المهجورة والمنازل المدمرة لمحة مخيفة عن مستقبل بلد معرض لانهيار سكاني، بحسب تقرير نشرته شبكة “سي إن بي سي” واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
وأشار التقرير إلى ان لاستا هي مجرد واحدة من مئات المدن والقرى “الشبحية” المهجورة المنتشرة في جميع أنحاء اليونان، في علامة واضحة للغاية على سنوات من انخفاض المواليد والمشقة الاقتصادية والهجرة الجماعية.
ويحذر خبراء اقتصاد من أن انخفاض عدد السكان يفرض الآن ضغوطًا كبيرة على بلد خرج للتو من الأزمة – مع عدم وجود عدد كافٍ من الشباب لدعم الاقتصاد في الأجيال القادمة.
وقال بيرت كولين، كبير خبراء الاقتصاد في ” ING” “بينما تشهد اليونان نمواً قوياً للغاية في الوقت الحالي، بالنظر إلى المستقبل، مع وجود عدد أقل من الأشخاص للقيام بالعمل، سيكون من الصعب الحفاظ على ذلك”.
انخفاض معدل المواليد تهديد “وجودي”
ونوه التقرير بأن اليونان موطن لأحد أدنى معدلات الخصوبة في أوروبا عند 1.3، وهو نصف ما تم تسجيله في عام 1950 وأقل بكثير من 2.1 المطلوب لاستبدال السكان، لافتاً إلى أن البلاد سجلت في العام الماضي، ما يزيد عن 71400 ولادة، وهو أدنى رقم منذ بدأت السجلات منذ ما يقرب من قرن من الزمان، وانخفض بنحو 6 بالمئة عن عام 2022. لدى اليونان الآن حوالي ولادة واحدة لكل حالتي وفاة، وحصة السكان الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً هي ضعف نسبة السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 0 إلى 14 عاماً.
وفي هذا السياق حذر رئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتسوتاكيس من تهديد “وجودي” للمجتمع اليوناني، حيث أن البلاد أكثر استعداداً من معظم الدول للتحولات الديموغرافية الأوسع التي تصيب الدول المتقدمة.
وقال ميتسوتاكيس العام الماضي، متحدثاً في مؤتمر ديموغرافي يوناني، “الحقيقة هي أن شعبنا اليوم من بين كبار السن في أوروبا، إنها قضية تؤثر على بعض جيوب البر الرئيسي اليوناني وأرخبيلها الشاسع أكثر من غيرها، هذا الانخفاض السكاني لا يتجلى بالتساوي في جميع أنحاء البلاد. له ذروات في مناطق معينة وهذا يعني أن الاستراتيجيات الوطنية ليست كافية وهناك حاجة أيضاً إلى أحكام محلية، مع تحول الانهيار الديموغرافي العام إلى رهان وجودي على مستقبلنا”.
بقايا الأزمة المالية
وذكر تقرير الشبكة الأميركية أنه يمكن إرجاع الانخفاض الديموغرافي الأخير في اليونان إلى حد كبير إلى أزمة الديون السيادية في البلاد عام 2009. إذ أدت برامج الإنقاذ الناتجة إلى سنوات من التقشف والمحن المالية للبلاد.
حيث انكمش الاقتصاد بنسبة تصل إلى ربعها على مدار العقد التالي. وكان الشباب من بين الأكثر تضرراً من الركود، حيث بلغت البطالة بين الشباب ذروتها عند 59.5 بامئة في الربع الأول من عام 2013 – أكثر من ضعف المعدل الوطني البالغ حوالي 27 بالمئة.
ويعيش اليوم أكثر من نصف (53.5 بالمئة) السكان اليونانيين في العاصمة أثينا ومنطقة أتيكا المحيطة بها، وكذلك ثاني أكبر مدينة في البلاد، سالونيك. وفي الوقت نفسه، سجلت جميع المناطق الأخرى، بما في ذلك الجزر اليونانية الثمينة، انخفاضاً في عدد السكان على مدار السنوات العديدة الماضية.
وتتوقع الحكومة حالياً أن ينخفض عدد السكان من حوالي 10.4 مليون اليوم إلى 7.5 مليون بحلول عام 2050 – أي انخفاض بأكثر من ربع السكان، ولمعالجة هذه القضية، أطلق ميتسوتاكيس العام الماضي وزارة جديدة للتماسك الاجتماعي والشؤون العائلية لتوحيد وتعزيز الدعم للأطفال والفئات الضعيفة.
التغيرات الديموغرافية تثقل كاهل النمو الاقتصادي
ويناقض الانخفاض الديموغرافي في اليونان التوقعات الاقتصادية المحسنة للبلاد حالياً، ومن المتوقع أن ينمو الاقتصاد اليوناني بنسبة 2.2 بالمئة في عام 2024، وبنسبة 2.3 بالمئةفي عام 2025 – متجاوزاً الاقتصادات الرئيسية في أوروبا.
ومع ذلك، يحذر اقتصاديون من أن الانخفاض الديموغرافي يمكن أن يقوض هذا النمو على المدى الطويل في النهاية.
وقال كولين: “التطورات الديموغرافية مهمة للغاية للنمو الاقتصادي بشكل عام. يتعلق الأمر بعدد الأيدي العاملة وإنتاجية هذه الأيدي”، مشيراً إلى “ارتباط قوي” بين نمو السكان في سن العمل وناتج المحلي الإجمالي للفرد.
تحديات رئيسية
في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” قال الخبير الاقتصادي الدكتور محمد جميل الشبشيري: “إن التحولات الديموغرافية غير مسبوقة التي تواجهها اليونان والمتمثلة بتقلص عدد السكان وارتفاع نسبة الشيخوخة، وتشكل تحدياً كبيراً للاقتصاد الوطني، وقد تضع ضغوطاً إضافية على استدامة النمو الاقتصادي، رغم تعافي البلاد جزئياً من أزمة الديون التي عصفت بها في العقد الماضي، مما يتسبب في عدة تحديات رئيسية هي:
زيادة الأعباء المالية: فارتفاع نسبة الشيخوخة يعزز الضغوط على أنظمة المعاشات والرعاية الصحية، مما يؤدي إلى زيادة العجز المالي في اليونان. ويُتوقع أن يصل العجز في تمويل المعاشات التقاعدية عالمياً إلى 78 تريليون دولار حسب تقرير “سيتي بنك”، الأمر الذي يجعل اليونان في مواجهة صعوبة أكبر بالنظر إلى ديونها السابقة.
انكماش القوى العاملة: إذ أن تقلص عدد السكان في سن العمل يضع اليونان في مواجهة تباطؤ كبير في الإنتاجية والنمو الاقتصادي. وتشير الدراسات إلى أن انخفاض القوى العاملة يعوق النمو، مما يزيد من تعقيد الوضع الاقتصادي للبلاد، خاصة في فترة ما بعد الأزمة المالية.
ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية: إن تزايد أعداد المسنين سيؤدي إلى زيادة كبيرة في الطلب على خدمات الرعاية الصحية طويلة الأمد. وفقاً لتقارير الأمم المتحدة، من المتوقع أن تتضاعف نسبة السكان فوق سن 80 عاماً بحلول عام 2050، مما يمثل تحدياً هائلاً على مستوى النظام الصحي في البلاد.
فرص كامنة في الاقتصاد الفضي
وأشار الدكتور الشبشيري إلى أنه على الرغم من هذه التحديات، فإن ظاهرة الشيخوخة تتيح فرصاً كبيرة للنمو من خلال “الاقتصاد الفضي”، الذي يركز على تلبية احتياجات كبار السن وفقاً لما يلي:
أسواق جديدة: يمكن للشركات تطوير منتجات وخدمات موجهة لهذه الفئة، مثل خطط تقاعدية مبتكرة والرعاية الصحية طويلة الأمد، ما يعزز الاستفادة من السوق المتنامي.
مساهمة المسنين في العمل التطوعي: يمكن لكبار السن تقديم مساهمات غير مباشرة في المجتمع عبر العمل التطوعي ورعاية الأسرة، ما يعزز الترابط الاجتماعي ويخفف من الضغوط الاقتصادية.
وأوضح أن الخبير الاقتصادي الشبشيري أن التغيرات الديموغرافية في اليونان تستلزم تحركاً سريعاً لتبني سياسات اقتصادية واجتماعية شاملة:
تحديث أنظمة الرعاية الصحية لتلبية الاحتياجات المتزايدة.
دعم الاستثمارات في البنية التحتية الموجهة لكبار السن.
استخدام التكنولوجيا لتحفيز الإنتاجية في ظل تقلص القوى العاملة.
ضرورة وضع تشريعات جديدة لجذب المهاجرين
من جانبه قال الدكتور نضال الشعار، الخبير الاقتصادي وكبير الاقتصاديين في شركة “ACY” في حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “إن مشكلة تقلص عدد السكان ليست مقتصرة على اليونان فحسب، بل تعد قضية مشتركة لعدد من الدول في الاتحاد الأوروبي.
واليونان، بما أنها دولة غير منفتحة على العالم، تواجه تحديات ثقافية واجتماعية تختلف عن نظيراتها في دول الاتحاد الأوروبي الأخرى. وإن تراجع أعداد السكان يشكل مشكلة كبيرة في ظل غياب دورة إنتاجية قوية ومكثفة”.
ونظراً لأن اليونان عضو في الاتحاد الأوروبي، يتعين عليها الامتثال لقوانين وسياسات الاتحاد، وهو ما يحد من قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة مثل بعض الدول التي تشابهها في عدد السكان، بحسب تعبيره.
من هنا، يُطرح التساؤل: كيف يمكن لليونان التغلب على هذه الأزمة السكانية؟ الدكتور الشعار يطرح التساؤل ويجيب عليه بنفسه قائلاً: “الحل يكمن في قيام الحكومة بوضع تشريعات جديدة لجذب المهاجرين من دول أخرى، إلى جانب تطوير برامج شاملة لإدماج هؤلاء المهاجرين في المجتمع اليوناني، وهو أمر ليس بالسهولة المتوقعة، لكنه ممكن إذا تم تنفيذّه بشكل صحيح”.
وهناك أمثلة عدة لدول نجحت في هذا المجال، مثل ألمانيا التي استقبلت ملايين المهاجرين وتمكنت من الاستفادة من مهاراتهم لدعم اقتصادها والتعافي من مشكلة سكانية كانت تعاني منها في الماضي نتيجة تداعيات الحرب العالمية الثانية، وفقاً للدكتور الشعار.
وأوضح أن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق السلطات اليونانية، ولكن الأهم من ذلك هو دور الشعب اليوناني في تبني تغييرات في بعض العادات والتقاليد التي نشأت في القرون الماضية، والتكيف مع التحولات العالمية الراهنة، وأشار إلى أن تقلص عدد السكان في اليونان وغيره من الدول مثل بولندا وهنغاريا سيؤثر بشكل كبير على الإنتاجية والنمو الاقتصادي، وكذلك على معدل نقل التكنولوجيا.