كتب – المحرر السياسي:تطرح الحرب في أوكرانيا ومجرياتها ومداها وآفاق التصعيد المحيطة بها، الكثير من الأسئلة بعد مرور مئة يوم على إطلاق شرارتها الأولى والتي قيل الكثير عن أسبابها ومشروعية مواقف الأطراف التي تشارك فيها بشكل مباشر أو غير مباشر. إلا أن حجم المخاوف التي أثارتها حول مستقبل العالم وعلاقات دوله ومآلات ما بعد الحرب، لا تزال تلفها سحب الغموض.
الحقيقة أن درجة الاستهجان التي تحيط بعجز حكماء العالم ودعاة السلم والأمن حتى في أوساط النخب الحاكمة سواء في الغرب الديمقراطي أو في غيره، عن إيجاد مخرج أو مجرد الدخول في مشروع حل، ترسم علامة الاستفهام الأكبر وسط هذا الضياع المريب.
عندما شنت القوات الروسية الحرب في 24 فبراير/شباط على ثلاث جبهات، كان التصور الأكثر تفاؤلاً من وجهة نظر الأوكرانيين يشير إلى أن كييف سوف تسقط في غضون أسابيع قليلة، إن لم يكن خلال بضعة أيام، لكن الذي حدث أن القتال استمر حتى الآن، وقد يستمر لأشهر أو حتى لسنوات. ولم يكن أحد يتوقع يومها أن يظل الرئيس فولوديمير زيلينسكي مقيماً في العاصمة كرئيس للبلاد.
أما شعوب العالم وحكوماتها، فرغم أنها تحاط بما يجري في هذه الحرب بفضل صور الأقمار الصناعية والتقارير التي تبثها وسائل الإعلام، فإنهم حسب معطيات الواقع، لا يعرفون إلا القليل، ليس فقط بسبب ضباب الحرب البديهي، بل لأنه يتم توجيهنا من خلال تسريبات استخباراتية خاطئة أحياناً، أو تضليلنا من خلال البيانات الصحفية الصادرة عن وزارات الدفاع المختلفة، بحيث نعتقد بأننا نعرف أكثر بكثير مما نعرفه في الواقع. وتتدافع البيانات الصارمة، والتخمينات الغامضة، وحملات الدعاية من خلال آلة الأخبار التي تعمل على مدار الساعة، والتي تحفز الخبراء من مختلف الأطياف والكوادر للاحتفاظ بالنتائج، وإعلان الفائزين والخاسرين، والتنبؤ بما سيحدث بعد ذلك في دورة عمل يومية تبدو جوفاء وبلا معنى.
من ينتصر؟
في وقت مبكر، عندما عدل الجيش الروسي خطته، وبدا أداء الجيش الأوكراني أفضل من التوقعات، أعلن الكثيرون أن أوكرانيا ستنتصر. أما في الآونة الأخيرة، عندما حول الروس استراتيجيتهم للتركيز على منطقة دونباس الشرقية وبدأوا في إحراز تقدم، فقد تحول المتفائلون في الغرب إلى العناد، وحذروا من أن أوكرانيا قد تخسر ما لم يكثف الغرب إمداداته من الأسلحة الثقيلة، وهو ما يفعله الغرب حالياً بالضبط. والسؤال المستجد هنا: هل ستتاح لأنظمة الصواريخ الأوكرانية الجديدة فرصة دك المواقع الروسية، أم أنها ستأتي بعد فوات الأوان؟
من الطبيعي أن تحرص حملات متابعة الحرب وإحصاء الخسائر على عرض البيانات التي ترجح كفة أحد الطرفين كل حسب هواه وميوله. وهنا يمكنك العثور على أدق التفاصيل المتاحة حول من يتحكم في كل بقعة على الأرض، وما هي العواقب الاستراتيجية، في الخطوط الأمامية المتغيرة باستمرار، طبقاً لفعالية النيران الفتاكة.
ومع ذلك، يعترف هؤلاء المحللون بأن الصورة العامة ضبابية ولا تكشف سوى القليل عن الفائز أو الخاسر بأي معنى. وهذا قد يكون مبرراً لأنه من غير الواضح ما يعنيه «الفوز» و«الخسارة»، أو كيف يحدد المقاتلون وحلفاؤهم هذين المصطلحين.
وفي جانب الجهود الدبلوماسية التي بدأت مبكراً ثم توقفت، قال الرئيس الأوكراني إنه مستعد للتفاوض مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وقت ما قبل فبراير/شباط. فهل كان من المفترض أن يسفر ذلك عن مغادرة جميع القوات الروسية الأراضي الأوكرانية حسب مطالب كييف؟ وهل يشمل ذلك كل منطقة دونباس، أم يمكن للقوات البقاء في المناطق التي احتلتها سابقاً الميليشيات الموالية لروسيا؟ وماذا عن شبه جزيرة القرم التي من غير المرجح أن تتخلى عنها روسيا، بعد أن استولت عليها دون إطلاق رصاصة واحدة في عام 2014؟
قتال متواصل
في غضون ذلك، يواصل بوتين ومساعدوه شيطنة حكومة زيلينسكي على أنها دمى نازية في الغرب الإمبريالي.
صحيح أن مطالب بوتين تستهدف استقطاب المزيد من الشعب الروسي لدعم المعركة، لكن قد ينظر إليها زيلينسكي في حال كانت أكثر تواضعاً، على أنها مؤشر ضعف ويرد بتصعيد هجماته في الميدان.
على أي حال، لا يوجد لدى أي من الجانبين حافز لوقف القتال الآن، خاصة وأن كلاً منهما ربما يكتشف فرصة حدوث انفراج في الأسابيع المقبلة. ففي الأسابيع الأخيرة، دأبت روسيا على قصف المواقع الأوكرانية بصواريخ بعيدة المدى عالية الدقة، وصواريخ أوكرانيا ليس لديها نفس المدى. أما الصواريخ الأمريكية الجديدة التي يرسلها الرئيس جو بايدن فسوف تكون أبعد مدى، وبالتالي ستغير ميزان القوى. ومع ذلك، سوف يستغرق الأمر بضعة أسابيع لشحن الأسلحة، ثم تدريب الأوكرانيين على كيفية استخدامها، بينما لا أحد يعرف مقدار الضرر الذي ستلحقه الضربات الروسية بأوكرانيا في هذه الأثناء.
ويدرك بوتين حساسية تلك المعطيات، ويمعن في التركيز على جانب أهم في المعادلة، وهو أن الغرب بدأ يفقد صبره بشأن هذه الحرب والدمار الاقتصادي الذي تسببه خاصة في أوروبا. ويأمل في أنه إذا تمكن من الاستمرار في وابل الصواريخ لفترة أطول قليلاً، فقد ينفد الصبر، وقد يتراكم الضغط على زيلينسكي لعقد صفقة من نوع ما.
وسواء تحققت أي من هذه الآمال أو المخاوف أم لا، يبقى السؤال الأكبر: ماذا يحدث لأوكرانيا بمجرد توقف القتال؟ لقد كان الدمار هائلاً وإعادة الإعمار ستكون باهظة. في نهاية الحرب العالمية الثانية، برزت الولايات المتحدة كطرف قوي وثري وقدمت المساعدة في إعادة بناء أوروبا الغربية من خلال خطة مارشال وأشكال أخرى من المساعدات والاستثمار. واليوم ليس من الواضح من سيكون لديه الموارد والإرادة السياسية لفعل الشيء نفسه لإعادة بناء أوكرانيا في نهاية هذه الكارثة.
وبانتظار الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها تتصاعد نذر الشؤم ويفقد الحكماء صوابهم ويلتهم الحريق المزيد من كل شيء.