عاشت معظم المؤسسات الحكومية في العالم أوقاتاً عصيبة خلال فترة الوباء، بعضها ارتكب أخطاء فادحة بحق المدنيين خلال عمليات الإغلاق العام. يحاول هذا الكتاب تسليط الضوء على إشكاليات متعلقة بكيفية استيلاء النخب على القرارات في عواصم غربية وإفريقية، وتمريرها سياسات قائمة على العرق والهوية، ويعدّ هذا الكتاب دعوة إلى ترسيخ العمل المؤسسي القائم على التعاون والمهنية والديمقراطية والقيم الإنسانية.
تهيمن سياسة الهوية على كل مكان في مراكز القرار والمؤسسات الغربية المتنفذة، حتى إن بعضها يتجلى بشكل واضح في وسائل الإعلام بطريقة مثيرة للعداوات. وكثيراً ما تستخدم هذه السياسات الآن كسلاح لرص الصفوف حول المفاهيم العرقية الضيقة باستمرار لمصالح النخبة المتحكمة. لكن المشكلة، كما يجادل مؤلف هذا الكتاب الفيلسوف النيجيري – الأمريكي أولوفيمو تايو، لا تتعلق بسياسة الهوية نفسها. يرفض المؤلف في طرحه بهذا العمل سياسات الهوية النخبوية لمصلحة سياسة بناءة للتضامن الراديكالي، معزّزاً بذلك إمكانية التنظيم عبر اختلافاتنا في النضال المُلح من أجل بناء عالم أفضل.
أخطاء في مواجهة الاحتجاجات
أعلنت بداية عمليات الإغلاق الوبائي في ربيع عام 2020 عن فترات هدوء في كثير من الأعمال كالمعتاد: النقل العام، والسفر بين الولايات، والحياة الليلية، وتنظيم الفعاليات المجتمعية، والمكتبات، وصالونات الحلاقة. حتى إن الملاعب توقفت عن ممارسة نشاطاتها. يقول المؤلف في هذا السياق: «لكن عمليات الإغلاق الوبائي لم توقف جرائم قتل وقعت على يد الشرطة في جميع أنحاء العالم. في بعض الحالات، أدت عمليات الإغلاق إلى بدء عمليات القتل، ففي 31 مارس/ آذار 2020، أي بعد أربعة أيام من بدء حظر التجوال في كينيا، نفذ ضباط الشرطة الكينية أمراً باقتحام أحد الأحياء، وضرب الناس بشكل عشوائي، وفتحت هذه القوات النار في النهاية بالذخيرة الحية. أصاب الرصاص الفتى ياسين حسين مويو ( 13 عاماً)، وقُتل على إثرها فوراً». في 19 مايو/ أيار من العام نفسه، طارد ضابطا شرطة أندرسون، أربوليدا البالغ من العمر 21 عاماً في بويرتو تيخادا (كولومبيا) بسبب خرقه حظر التجوال الوبائي. تعرض للضرب ورش الفلفل بشدة، لدرجة أنه مات في صباح اليوم التالي.
ويضيف المؤلف: «وفقاً لتقديرات شرطة ريو دي جانيرو، قُتل ما معدله ستة أشخاص يومياً في أوائل عام 2020. وفي الولايات المتحدة، حدثت سلسلة من عمليات القتل على أيدي الشرطة شملت بريونا تيلور (13 مارس/ آذار)، وجورج فلويد (25 مايو/ أيار)، وتوني مكديد (27 مايو/ أيار). على إثر هذه الأحداث المؤسفة، جرت احتجاجات غير مسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة؛ حيث شارك 26 مليون شخص في البلاد بشكل أو بآخر، وهو رقم يمثل ما يقرب من 8 في المئة من إجمالي سكان الولايات المتحدة. لم تكن الاحتجاجات كبيرة فحسب؛ بل كانت ضارية. ففي جميع أنحاء البلاد، تعرضت مراكز التسوق الفاخرة ومتاجر البيع بالتجزئة للنهب والسرقة. وفي مينيابوليس، هربت الشرطة من المخفر، للبقاء على قيد الحياة؛ حيث قام المتمردون بتكسير الزجاج الأمامي بالقذائف وإضرام النار في المبنى. كانت الاحتجاجات عالمية النطاق. وفي يونيو/ حزيران 2020، خرج المتظاهرون إلى الشوارع في مدن من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك ريو، وسيؤول، ولندن، وسيدني، ومونروفيا وغيرها».
يرى المؤلف أن هذه المشكلات هي من بين العديد من المشكلات المرتبطة بموروثات ماضينا المباشر والتي تصيغ تفاصيل حياتنا اليوم. ويضيف أيضاً في السياق ذاته عن الانتهاكات الحاصلة في نيجيريا، قائلاً: «في نيجيريا، بلغ الزخم الاحتجاجي ذروته بعد بضعة أشهر. ففي أكتوبر/ تشرين الأول 2020، خرج المتظاهرون إلى الشوارع، للمطالبة بإلغاء فرقة مكافحة السرقة الخاصة في البلاد، المعروفة باسم (سارس)؛ وهي قوة شرطة سرية كانت مسؤولة عن موجة ممارسات خارج نطاق القضاء من بينها اتهامات بالتعذيب والاعتداء الجنسي وقتل النيجيريين. قوبل متظاهرو (#EndSARS) بمقاومة شديدة مع ذخيرة حية من جانب الحكومة النيجيرية، بما في ذلك خلال المذبحة السيئة التي وقعت عند بوابة ليكي في ولاية لاغوس في 2020. قدرت منظمة العفو الدولية عدد القتلى ب12 شخصاً».
يوضح المؤلف هنا أنه «من المهم أن ندرك أن متظاهري (#EndSARS) لم يكونوا مجرد متعاطفين مع احتجاجات أخرى أو تأثروا بها في وقت سابق من العام، لكنهم كانوا يكافحون على جبهتهم الخاصة في الخط النضالي ذاته».
ويشير إلى أن «فرقة مكافحة السرقة الخاصة في نيجيريا وقوات الشرطة الأمريكية والعديد من الهيئات الحكومية القمعية الأخرى تستخدم هياكل أيديولوجية واستراتيجيات عنف مماثلة، لأنها أنواع متشابهة من المؤسسات، فقد تأسست أساساً لتحقيق أهداف مماثلة. تعود جذور معظم هذه القوى إلى الحقبة الاستعمارية في القرنين التاسع عشر والعشرين. عندما عملت هذه المؤسسات على المستوى الوطني تحت شعار: الإمبراطورية العنصرية العالمية، كان كل جيش إقليمي وحكومة استعمارية وبورصة على رتبط ببعضه ضمن كارتل متنفذ. وبينما كانت قوات الأمن تعمل لمصلحة وطنية مختلفة في ظل الإمبراطورية العنصرية العالمية، خدم الكارتل بأكمله مصالح النخب نفسها، وكان حريصاً على التأكد من تدفق الثروة والامتيازات من الجنوب إلى الشمال، من الأسود إلى الأبيض. لم يتم تفكيك هذا النظام حتى الآن».
استراتيجيات إرضائية شكلية
على الرغم من أن مصطلح «الإمبراطورية» لم يعد شائعاً في السياسة العالمية الراهنة، فإننا ما نزال نعيشها بشكل مباشر؛ إذ تحيا الهياكل الإمبراطورية في أشكال مثل إدارة فرنسا العديد من مستعمراتها الإفريقية السابقة عبر الشركات الدولية التي تبدو محايدة، كما تتنمر منظمات دولية على الشعوب والدول الفقيرة بطريقة «الاستعمار الجديد».
يرى المؤلف «أنه على الرغم من الاختلافات في السياقات المحلية في كل دولة، عندما انتفض الناس في جميع أنحاء العالم ضد إرهاب الشرطة والعنف الذي تعرضوا له منذ مئات السنين، كان واضحاً على الفور أن شيئاً عالمياً على المحك. كانت استجابة النخب الحاكمة فورية بالقدر نفسه، فقد أنشأ البنك الدولي «فريق عمل معني بالعنصرية»، ووافقت الأمم المتحدة تحت ضغط من كتلة الاتحاد الإفريقي بأكمله المكون من 54 دولة، على بدء تحقيق لمدة عام في مكافحة قضايا العنصرية ضد السود».
يشير المؤلف إلى أنه سرعان ما اتضح اتجاهان استراتيجيان في الاستجابة: تمثلت الاستراتيجية الأولى في تكتيك النخب؛ المتمثل في أداء سياسات «هوياتية رمزية»، لتهدئة المحتجين من دون إجراء إصلاحات فعلية على أرض الواقع؛ وجهودهم لإعادة تسمية (وليس استبدال) المؤسسات القائمة، باستخدام عناصر سياسات الهوية أيضاً. وفي انعكاس واضح أيضاً بشكل مذهل للاتجاه الأول، رسم عمدة واشنطن العاصمة عبارة «حياة السود مهمة» في الشوارع القريبة من البيت الأبيض، والتي استمر تعرض المتظاهرين فيها لمعاملة قاسية جداً.
أما عن الاستراتيجية الثانية يقول: في العام التالي، أطلقت وكالة المخابرات المركزية الاستراتيجية الثانية؛ حيث أنتجت عشرات مقاطع الفيديو الخاصة بالتجنيد ضمن حملة على يوتيوب بعنوان (Humans of CIA)، وقد استهدفت مجموعات هوياتية متعددة. حذر الصحفي الأمريكي روبرتو لوفاتو، القرّاء من صدى هذه اللحظة في مقال بعنوان: «عصر الإمبراطورية المتقاطعة يفرض نفسه علينا» قائلاً فيه: «في العالم الشاسع الذي يعيش خارج الدوائر التقدمية، هناك الملايين من الأشخاص الذين لديهم ردود فعل عاطفية تجاه إعلانات التجنيد في الجيش والبحرية تظهر جنوداً فخورين بعملهم العسكري من السود واللاتينيين».
يتساءل الكاتب هنا: «إذن، ما الذي يجب أن نستخلصه من سياسات الهوية؟ نجد أن بعض تعبيرات سياسات الهوية تشهد تحريفاً لإعادة تسمية المشاريع الإمبريالية القديمة، في حين يتم حظر البعض الآخر منها بنشاط من قبل القوى القائمة. هل هذه القوى هي نفسها نسخة مختلفة بشكل بريء من السياسة اليسارية، مفصولة عن السياسات اليسارية الأكثر تشدداً بشكل رئيسي عن طريق «فشل التواصل» كما تقول الفيلسوفة آشلي بوهرر؟ هل الهيمنة الطبقية على الطبقة العاملة مستمرة من خلال إبقاء العمال منقسمين على أُسس عرقية وجندرية، كما يرى الصحفي دومينيك غوستافو؟ أم أن سياسات الهوية – كما تتجسد في النظرية العرقية النقدية (بحسب تعريف الباحث القانوني روي ل. بروكس؛ هي مجموعة من المواقف النقدية ضد النظام القانوني، القائم على وجهة نظر تستند إلى العرق) – هي أيديولوجية خطرة وتهديد للنظام القائم الذي تسعى السلطات للقضاء عليه
استيلاء النخبة: المشكلة الأكبر
ينظر المؤلف في هذا الكتاب الصادر عن دار «بلوتو برس» (2022) إلى المشكلة بنظرة أوسع، قائلاً: صحيح أن التطورات الأخيرة في معنى سياسات الهوية واستخدامها لم توقف العنف وجرائم القتل على يد قوات الشرطة أو تفرغ السجون.
لكن على الرغم من ذلك، فقد زودت سياسات الهوية الأشخاص والمنظمات والمؤسسات بمفردات جديدة لوصف سياساتهم وجمالياتهم، حتى لو كان جوهر تلك القرارات السياسية ليس له صلة أو حتى يتعارض مع مصالح الأشخاص المهمشين الذين يتم نشر هوياتهم. لكن هذه سمة من سمات كيفية استخدام سياسات الهوية، وليس ماهية سياسات الهوية في جوهرها. إن «استيلاء النخبة» – وليس سياسات الهوية نفسها – هو الذي يقف بيننا وبين سياسة ائتلافية غير متحزبة ومتحيزة.
ويوضح أكثر بالقول: نشأ مفهوم استيلاء النخبة في دراسة البلدان النامية لوصف الطريقة التي يميل بها الأشخاص المتميزون اجتماعياً إلى السيطرة على الامتيازات المالية، وخاصة المساعدات الخارجية، المخصصة للآخرين. لكن هذا المفهوم تم تطبيقه أيضاً بشكل أكثر عمومية لوصف كيفية اختطاف المشاريع السياسية من حيث المبدأ أو في الواقع من جانب أصحاب المواقع الجيدة والموارد. ومع ذلك، تساعد هذه الفكرة أيضاً في شرح كيفية تشويه الموارد العامة مثل المعرفة والقيم وتوزيعها بواسطة هياكل السلطة. يفسر «استيلاء النخبة» العديد من الاعتراضات الشائعة الموجهة ضد سياسات الهوية، بما في ذلك أنها تتطلب دعماً للشخصيات السياسية بناءً على هوياتها دون اعتبار لسياساتها.
ويضيف: وجّه أحد المعلقين ويدعى ساغار إنجيتي انتقاداً مفاده: سياسة الهوية مهووسة بجناح النخبة في الحزب الديمقراطي، مضيفاً: الأشخاص الذين يجلسون في غرف الأخبار لدينا، ويشغلون الطبقة الإدارية المهنية يملكون تأثيراً كبيراً للغاية في خطابنا السياسي المعاصر. يعلق المؤلف هنا: في الواقع، تعدّ الديناميكيات الأساسية قديمة قدم السياسة نفسها ولا تقتصر على سياسة معينة للهوية الاجتماعية.
استيلاء النخبة ليس مؤامرة، وهو يتجاوز الاستيلاء الساخر أو الانتهازية أو النجاحات أو الإخفاقات الأخلاقية لأي فرد أو مجموعة. يمكن القول إنها نوع من سلوك النظام أو بتعبير آخر ظاهرة يتم التعبير عنها على مستوى السكان أو نمط يمكن ملاحظته (التنبؤ به) من الإجراءات التي تشمل الأفراد والمجموعات والمجموعات الفرعية، كل منهم قد يسعى إلى تحقيق عدد من الأهداف المختلفة من وجهة نظرهم التحيزية الضيقة.