يشهد العالم اضطرابات متعددة الأوجه في الوقت الراهن، ولعل التغير التكنولوجي المتسارع أو الرقمنة من أبرزها. فعلى الرغم من فوائد الرقمنة الهائلة، لكنها يمكن أن تخلّف مخاطر عديدة دائمة على السياسات والصراعات بشكل عام. يسعى هذا الكتاب إلى تسليط الضوء على التحولات السياسية والعامة الجارية في دول الرفاه.
هناك إجماع واسع على أننا نعيش في أوقات ممتعة ومضطربة للغاية في الوقت ذاته، فأهم تغيير هيكلي في عصرنا هو أن التغيير التكنولوجي في مجالات الحوسبة وتقنيات الاتصال والذكاء الاصطناعي والروبوتات لا يسير على قدم وساق في الاقتصادات المتقدمة اليوم؛ بل يتقدم بمعدل سريع للغاية.
يبدأ هذا الكتاب من الاقتناع بأن مثل هذا التغيير يربك، وربما يعطل، سوق العمل الحالي وترتيبات السياسة الاجتماعية التي تم تطويرها استجابة للتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية السابقة بهدف حماية الناس من المخاطر وضمان تلبية احتياجاتهم المختلفة. يرى المؤلفون أن التغيير التكنولوجي السريع يخلق مجموعة جديدة من المخاطر والاحتياجات الاجتماعية التي يبدو أن هيكل السياسة الراهن غير مناسب لها. ومن المحتمل أن يكون للرقمنة تأثير دائم في السياسة والعمل والرفاه والتعليم وتوزيع الدخل، ما يؤدي إلى تحول جذري في المخاطر والاحتياجات.
تحالفات جديدة
يتساءل مؤلفو الكتاب في البداية: «هل ستؤدي المخاطر والاحتياجات المتغيرة أيضاً إلى إحداث تحول جذري في سوق العمل وأحكام الحماية الاجتماعية اليوم وتؤدي إلى نموذج جديد لدولة الرفاه؟» ويشيرون إلى أن: «ما نعرفه من عدة عقود من الأبحاث على دولة الرفاه هو أن التغيير التكنولوجي في حد ذاته ليس دافعاً تلقائياً لتعديل دولة الرفاه. قد تكون هناك حاجة وظيفية لتكييف سوق العمل والسياسات الاجتماعية، لكن لا يوجد ضمان بحدوث هذا التعديل. وإذا حدث ذلك، فمن المحتمل من خلال السياقات السياسية والمؤسسية السائدة، كما أن الصراعات السياسية السائدة والوشيكة حول توزيع وإعادة توزيع مكاسب التحول الرقمي لعالم العمل سيترك عواقب وخيمة على المدى الطويل عندما يتعلق الأمر بالفائزين والخاسرين».
يرى المؤلفون أن هناك عدة خطوات في ترجمة ضغوط المشكلات الاجتماعية والاقتصادية إلى نواتج سياسية، كل منها مشروطة وتتأثر بالإجراءات السياسية.
* أولاً، قد تترجم أو لا تترجم الاحتياجات والمطالب الاجتماعية (بسهولة) إلى مطالب مجتمعية جماعية. في الواقع، نجد أن الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين الذين صاغوا ذات مرة مثل هذه المطالب، مثل النقابات على سبيل المثال، أضعفهم تأثير التغيير التكنولوجي، لأن هذا النوع من الاقتصاد يطمس الفئات ذاتها (العمال، والموظفين، والعاملين لحسابهم الخاص، والعاملين المتعاقدين) التي تستند إليها المنظمات الجماعية تقليدياً، أو لأن التغيير التكنولوجي يغذي استقطاب سوق العمل. علاوة على ذلك، حتى تحديد ما يمكن اعتباره «مشكلة» مجتمعية يحتاج إلى سياسة، لذا فإن اللطف يعتمد على توزيع السلطة السياسية بين الفاعلين المعنيين.
* ثانياً، حتى لو أمكن بناء المطالب اجتماعياً وتحويلها إلى عمل جماعي، فإن التعبير السياسي لمثل هذه المطالب يظل عقبة هائلة في المقام الأول، لأن الأحزاب السياسية بحاجة إلى إعادة تنظيم مصالحها، وإعادة تشكيل تحالفات انتخابية وحكومية قابلة للحياة لدعم تحالفاتها الجديدة في السياسات، وحل النزاعات التوزيعية الناشئة عن ذلك.
أخيراً، حتى لو نجحت الأحزاب السياسية في ذلك، فإن استجابات السياسة الاجتماعية المناسبة ليست بديهية، لأن تركات السياسة والمصالح المكتسبة وكذلك المصالح الجديدة أو الناشئة يمكن أن تبطئ أو تعرقل أو تتحايل على إصلاح السياسات وتنفيذها. وقد تحد قيود الميزانية أو قيود اقتصادية أخرى من نطاق الاستجابات الحكومية. لذلك، من المرجح أن تكون الاستجابات السياسية والمتعلقة بالسياسات للتغير التكنولوجي السريع متعددة الأوجه ومعقدة وتتسم بعدد من المقايضات السياسية والمالية والاقتصادية.
استجابة دول الرفاه
يدور السؤال البحثي الشامل لهذا العمل حول: إلى أي مدى وكيف ستستجيب دول الرفاه للتحديات الجديدة للرقمنة؟ يرى المؤلفون أنه بشكل تحليلي وتماشياً مع الاعتبارات السابقة، يحتوي هذا السؤال على سؤالين فرعيين:
-أولاً، إلى أي مدى وتحت أي ظروف ستؤدي الرقمنة إلى إعادة تشكيل (نموذجية) لمساحة سياسة دولة الرفاه؟ يتناول هذا السؤال قضايا تغيير تفضيلات السياسة الفردية، والمواقف السياسية (لمجموعات المصالح، والأحزاب، والجهات الفاعلة الجديدة)، واتجاه تطورات السياسة الفعلية والمحتملة، بما في ذلك البرامج الحالية والجديدة (مثل التأمين الاجتماعي، والاستثمار الاجتماعي، والضرائب)، والأدوات (على سبيل المثال، ضريبة الروبوتات، وأحكام التعلم مدى الحياة، وخطط التوظيف العامة المحدثة، والدخل الأساسي الشامل).
-ثانياً، إلى أي مدى وتحت أي ظروف ستؤدي الرقمنة إلى إعادة تشكيل الفضاء السياسي لدولة الرفاه؟ يتعلق هذا السؤال بالتغييرات في هياكل الانقسام (الناخبين) الحالية، وتطوير انقسامات جديدة، وإعادة الاصطفافات السياسية (الحزبية) وإمكانات التحالف، وظهور جهات فاعلة جديدة وقوية، مثل شركات التكنولوجيا العالمية التي تمتلك منصات قوية وكبيرة.
نماذج أخرى
يهدف هذا العمل إلى تحديد الدوافع التكنولوجية للتغيير ووصف نوع التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتضارب المصالح التي تولدها، وذلك لرسم خريطة توضّح إلى أي مدى وكيف تتحدى هذه التغييرات والصراعات واقعنا بكافة أشكاله القائمة. تستكشف المساهمات كيفية تأثير الرقمنة – بأشكال مختلفة – في دولة الرفاه. يعاين المؤلفون كيفية تأثيرها في السياسات الاجتماعية الملموسة وكذلك علاقة القوة الكامنة بين الجهات الفاعلة، أي سياسات دولة الرفاه. يجمع المؤلفون على تحديد:
أ) التحديات الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن التغير التكنولوجي السريع؛
ب) النزاعات السياسية التي تلت ذلك في مجال إصلاح دولة الرفاه على نطاق واسع؛
ج) الطرق التي تتحدى بها هذه التغييرات وتشكل الترتيبات القائمة لسوق العمل ودولة الرفاه.
يوضّح الكتاب الصادر عن مطبعة جامعة أكسفورد في 2022، الاستجابات السياسية المحتملة والحقيقية لهذه التحديات، ويستوعب ملامح التطورات المستقبلية، ويبين إذا ما كانت الموجة الحالية من التغيير التكنولوجي قد تعزز ظهور نموذج جديد لصنع سياسة دولة الرفاه. يعتمد المؤلفون منظوراً استشرافياً، لكنه قائم على أسس تجريبية حول تأثير الرقمنة في دولة الرفاه.
يناقش الجزء الأول من الكتاب الاتجاهات العامة في تطور أسواق العمل ودول الرفاهية. يشتمل على تفكير تفصيلي حول أحدث ما توصلت إليه الأبحاث حول الارتباط بين التغيير التكنولوجي وحالة الرفاه. يناقش أهم المساهمات العلمية في هذا المجال، ولكنه يسلط الضوء أيضاً على الفجوات البحثية التي يسعى هذا الكتاب إلى معالجتها. يقدم أيضاً منظوراً تاريخياً طويل المدى حول كيفية تأثير التغيير التكنولوجي في أسواق العمل وإنتاجية قطاع الخدمات. يركز على الفترة المعاصرة، ما يعكس صعود نموذج الاستثمار الاجتماعي كنموذج جديد محتمل لصنع سياسات دولة الرفاهية وكيف ساعد ذلك البلدان على الانخراط في التغيير التكنولوجي. يناقش المؤلفون كيفية تأثير الرقمنة في طبيعة العمل، ويتبنون منظوراً سياسياً اقتصادياً بشأن المخاطر في مجموعات التأمين، ويحللون كيف يمكن للتقنيات الجديدة مثل أدوات التتبع أن تقوض التحالفات السياسية للتأمين العام، على سبيل المثال، في الخدمات الصحية من خلال السماح بحسابات المخاطر الفردية. في سياق مماثل، يناقشون أيضاً كيف تغير الرقمنة، ولا سيما ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، النسيج الاجتماعي للمجتمعات عن طريق تحفيز التنافس على الوضع بدلاً من التضامن الاجتماعي، وهو تطور قد تكون له آثار ضارة في الركائز الاجتماعية الأساسية التي تدعم دولة الرفاه.
تأثير التكنولوجيا في السياسة
يركز الجزء الثاني من الكتاب على تأثير التغيير التكنولوجي في الفضاء السياسي، إذ يستكشف مستوى المواقف والتفضيلات الفردية بشأن السياسة الاجتماعية، ويوضح أن مخاطر الأتمتة الفردية لا ترتبط بزيادة الطلب على سياسات الاستثمار الاجتماعي، بل ترتبط بالطلب على إعادة التوزيع. يناقش المؤلفون كيفية الانتقال من المشاركة السياسية إلى التفضيلات السياسية، وعلى وجه التفصيل السياسة والمنطق السياسي للدخل الأساسي العالمي، ويجمع بين التحليل التجريبي لبيانات المواقف والأفكار المعيارية حول إمكانية توفير دخل أساسي شامل ليكون بمثابة حل لتحديات اقتصاد المعرفة الرقمية. ويجري تحليلاً مقارناً للعديد من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
ينتقل هذا الجزء من مواقف السياسة الاجتماعية الفردية إلى الخطابات السياسية على مستوى النخبة أيضاً، وذلك من خلال تحليل النقاشات البرلمانية، إذ أظهر المؤلفون أن الدول تختلف بشكل كبير في متى وكيف يناقش البرلمانيون الرقمنة. كما أنها تظهر أن المخاوف بشأن فقدان الوظائف أكثر أهمية في طرفي الطيف الأيديولوجي.
ويركز الجزء الثالث على مناقشة تجربة نظام دول الرفاه في ألمانيا والنمسا على وجه الخصوص، إذ يرى المؤلفون تحديات كبيرة، لكنهم يجدون أنه توجد تحت تصرف الأنظمة البسماركية متطلبات مؤسسية للتكيف مع اقتصاد المعرفة الرقمي. كما يتطرقون إلى سياسة التعليم، لما شهده هذا المجال من تحوّل كبير، فقد أصبحت شركات التكنولوجيا العالمية وكذلك الشركات الناشئة أكثر انخراطاً في توفير البنية التحتية الرقمية التي تعتمد عليها أنظمة التعليم. كما يركز هذا الجزء على السياسات الصحية، حيث يؤكد على كيفية تعزيز التغيير التكنولوجي للتقدم الكبير في توفير الرعاية، ولكنه يساهم أيضاً بشكل كبير في ضغط التكلفة، والذي قد يؤدي بدوره إلى مزاحمة الاستثمارات في مجالات أخرى من دولة الرفاه.
يقدم المؤلفون رؤى قيمة حول كيفية تأثير البيئة السياسية والاقتصادية المتغيرة في القدرة الإجمالية لدولة الرفاه على أداء وظائف التأمين والاستثمار وإعادة التوزيع، ويجدون أن الموجة الحالية من التغيير التكنولوجي من المرجح أن تغذي التغييرات التحويلية في أنظمة الرفاه للديمقراطيات المتقدمة، من حيث المساحة السياسية والفضاء السياسي. ويقولون: على المدى القصير، قد يزيد التغيير التكنولوجي من لهيب الشعبوية، وعلى المدى المتوسط إلى الطويل من المرجح أن يعيد التوازن لعلاقات القوة بين الجهات الفاعلة القائمة وقد يؤدي إلى انقسامات جديدة تتطور بين المستهلكين ومنتجي الخدمات الرقمية. علاوة على ذلك، من المرجح أن تكون السياسات المستقبلية لدولة الرفاه استمراراً للماضي، ومن المرجح أن تظل الصراعات لإعادة التوزيع حول مكاسب التحولات الاجتماعية والاقتصادية مركزية في المناقشات السياسية، وهي نتائج هذه النضالات. سيحدد ذلك من هم الرابحون والخاسرون في التغيير التكنولوجي ومدى حجم الاختلافات في فرص حياتهم.
يرى المؤلفون أن وباء كورونا قد أدى إلى تكثيف المشكلات والضغوطات الموجودة مسبقاً وزيادة الاهتمام العام، فمن المحتمل أيضاً أن يكون بمثابة قوة دافعة لابتكار السياسات.
يقولون في هذا السياق: «مع الأزمة المالية العالمية، قطعت الحكومات روح العصر الليبرالي (الجديد) في الثمانينات والتسعينات وأصبحت أكثر تدخلاً. بالنسبة للفضاء السياسي، يعني هذا أن الفجوات الرقمية بين الناخبين ستزداد أكثر، لكنها ستصبح أكثر تعقيداً أيضاً». ويجد المؤلفون أن وباء كورونا سيعمل من دون شك على تسريع التغيير التكنولوجي المستمر في مجال السياسة، وهذا بدوره سيترك تأثيراً في حياتنا اليومية.