أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من الجزائر، الخميس، إنشاء لجنة مشتركة تضم مؤرخين من البلدين لدراسة الأرشيفات حول الاستعمار وحرب الاستقلال. وقال ماكرون، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الجزائري عبد المجيد تبون: «لدينا ماض مشترك معقد ومؤلم» وقد «قررنا معاً» إنشاء «لجنة مؤرخين مشتركة» من أجل «النظر في كامل تلك الفترة التاريخية… منذ بداية الاستعمار إلى حرب التحرير، بدون محظورات»، بينما أشاد تبون بالمحادثات مع نظيره الفرنسي الذي بدأ الخميس زيارة رسمية للجزائر تستغرق ثلاثة أيام، وتهدف إلى طيّ صفحة الخلافات و«إعادة بناء» العلاقات الثنائية، واعتبرتها الجزائر اعترافاً بدورها الإقليمي المهم.
وقال تبون إن النقاشات «البناءة» و«الصريحة» مع ماكرون والتي شملت مواضيع الذاكرة والتعاون الاقتصادي والدبلوماسي «تنم عن مدى خصوصية العلاقات» بين البلدين وتمكن من «رسم آفاق واعدة» لها من خلال «خطوات مدروسة وجدول زمني».
واستقبل الرئيس الجزائري ضيفه والوفد كبير المرافق الذي يضم أكثر من 90 شخصاً بينهم سبعة وزراء في مطار هواري بومدين الدولي. واستمع الرئيسان إلى نشيدي البلدين قبل أن يجلسا لجلسة نقاش موجزة في قاعة الشرف بمطار العاصمة الجزائرية.
وزار ماكرون إثر ذلك رفقة وزير الخارجية الجزائري رمطان العمامرة مقام الشهيد الذي يخلّد ذكرى حرب الاستقلال عن فرنسا (1954-1962) حيث وضع إكليلاً من الزهور ووقف دقيقة صمت.
رؤية جديدة
وتتزامن الزيارة مع الذكرى الستين لانتهاء الحرب وإعلان استقلال الجزائر عام 1962، لكن ماكرون قال إنه مصمم قبل كل شيء على توجيهها نحو «الشباب والمستقبل».
من الجانب الجزائري، تم الترحيب بالزيارة باعتبارها تندرج ضمن «رؤية جديدة مبنية على الندية وتوازن المصالح»، بحسب وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية.
وتعتبر الجزائر أن زيارة ماكرون في مستهل ولايته الرئاسية الثانية تأتي «للأهمية التي توليها باريس لتعزيز علاقاتها مع الجزائر كشريك استراتيجي له وزنه واعتباره، ولتقديرها للدور المحوري الذي تؤديه الجزائر في المنطقة» فضلاً عن «العودة القوية للدبلوماسية الجزائرية على الساحة الدولية»، بحسب وكالة الصحافة الفرنسية.
ومنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا باتت الجزائر، وهي من بين أكبر عشرة منتجين للغاز في العالم، مُحاوراً مرغوباً للغاية للأوروبيين الساعين إلى تقليل اعتمادهم على الغاز الروسي.
ورغم تأكيد الرئاسة الفرنسية أن الغاز الجزائري «ليس موضوع الزيارة» وأنه «لن يتم الإعلان عن عقود كبرى أو مفاوضات مهمة»، إلا أن وفد ماكرون يشمل المديرة التنفيذية لشركة «إنجي» العملاقة للطاقة كاترين ماكغريغور.
وسيناقش الرئيسان خصوصاً الوضع في مالي، حيث أنهى الجيش الفرنسي للتو انسحابه، والنفوذ الروسي المتزايد في إفريقيا.
وتلعب الجزائر دوراً محورياً في المنطقة نظراً لامتداد حدودها آلاف الكيلومترات مع مالي والنيجر وليبيا، كما أنها مقرّبة من روسيا مزوّدها الرئيسي بالأسلحة.
ضرورة سياسية
هذه الزيارة هي الثانية لإيمانويل ماكرون إلى الجزائر منذ توليه الرئاسة، وتعود زيارته الأولى إلى ديسمبر/ كانون الأول 2017 في بداية ولايته الأولى. وقد بدت حينها العلاقات بين البلدين واعدة مع رئيس فرنسي شاب ولد بعد عام 1962 ومتحرر من ثقل التاريخ ووصف الاستعمار الفرنسي بأنه «جريمة ضد الإنسانية».
لكن الآمال سرعان ما تلاشت مع صعوبة توفيق ذاكرة البلدين بعد 132 عاماً من الاستعمار والحرب الدموية ورحيل مليون فرنسي من الجزائر عام 1962.
وضاعف ماكرون المبادرات في ملف الذاكرة، معترفاً بمسؤولية الجيش الفرنسي عن مقتل عالم الرياضيات موريس أودين والمحامي الوطني علي بومنجل خلال «معركة الجزائر» عام 1957. واستنكر «الجرائم التي لا مبرر لها» خلال المذبحة التي تعرض لها المتظاهرون الجزائريون في باريس في 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961، لكن الاعتذارات التي تنتظرها الجزائر عن الاستعمار لم تأت أبداً، ما أحبط مبادرات ماكرون وزاد سوء التفاهم.
وتفاقمت القطيعة مع نشر تصريحات للرئيس الفرنسي في أكتوبر/تشرين الأول 2021 اتهم فيها «النظام السياسي العسكري» الجزائري بإنشاء «ريع للذاكرة» وشكّك في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار.
إعادة الشراكة
ومذاك أعاد ماكرون الأمور إلى نصابها وقرر الرئيسان إعادة الشراكة بين البلدين إلى مسارها الصحيح.
ويقول الخبير السياسي الجزائري منصور قديدير: «بالنظر إلى مخاطر عدم الاستقرار في المنطقة المغاربية والنزاعات في الساحل والحرب في أوكرانيا، فإن تحسين العلاقات بين فرنسا والجزائر ضرورة سياسية».
وستكون قضية التأشيرات الفرنسية للجزائريين في قلب النقاشات أيضاً بعد أن قرر إيمانويل ماكرون عام 2021 خفضها إلى النصف في مواجهة إحجام الجزائر عن إعادة قبول رعاياها المرَّحلين من فرنسا.
وسيلتقي ماكرون خلال زيارته رواد أعمال جزائريين شباب، وفي هذا السياق صرّح رئيس المجلس الجزائري للتجديد الاقتصادي كمال مولى للموقع الإخباري: «كل شيء عن الجزائر» أنه ينتظر «نمطاً جديداً من التعاون» بين ضفتي المتوسط يقوم على «الاستثمار والإنتاج المشترك» من أجل «غزو مشترك لأسواق جديدة»، لكن الرأي العام الجزائري ينظر لزيارة الرئيس الفرنسي بحذر. ويقول عثمان عبداللوش (62 عاماً) وهو خبير في المعلوماتية «في عام 2017 قبل أن يصبح رئيساً كان يتحدث جيداً وأجرى زيارة، لكن بعد عودته إلى فرنسا تغير وتبنى خطاباً مختلفاً».