الإرهاب ليس ممارسة حديثة، بل له جذور وبدايات، وآباء معروفون على المستوى العالمي نفّذوا أعمالاً عنيفة في دول غربية، منذ ما يزيد على قرن من الزمن. ويتعامل الكتاب مع كيفية نشوء الإرهاب في أوروبا وروسيا وأمريكا على يد بعض التنظيمات الراديكالية، لكن تم توظيفه أكثر حديثاً عبر تقنيات وأساليب معاصرة.
يناقش هذا الكتاب الذي ترجمه عن الألمانية (ديفيد أنتال وجيمس بيل وزاكاري ميرفي كينج) جذور الإرهاب في روسيا وأوروبا الغربية والولايات المتحدة، ويعاين الحالات الرئيسية للعنف الإرهابي لإظهار أن اختراع الإرهاب كان مرتبطاً بميلاد الحداثة في أوروبا وروسيا والولايات المتحدة، وليس مرتبطاً بالاستبداد القيصري في روسيا القرن التاسع عشر، أو بالطوائف الإسلامية في بلاد فارس خلال العصور الوسطى.
يجمع العمل بين السرد التاريخي وتحليل القضايا الأكبر في التاريخ الاجتماعي والسياسي. وترى المؤلفة أن نشر الأخبار حول العنف الإرهابي كان في صميم استراتيجية تهدف إلى التأثير سياسياً في الحكّام وعامة الناس. تستخدم المؤلفة دراسة حالات من فرنسا والولايات المتحدة وألمانيا وروسيا، وتوضح أن الإرهاب كان موجوداً كتكتيك منذ خمسينات القرن التاسع عشر، ولم يتم تكييفه بشكل أساسي إلا من خلال استخدام التقنيات والأساليب الجديدة.
ويمثل هذا الكتاب، الصادر عن دار فيرسو للنشر ضمن 656 صفحة في يوليو/ تموز 2021، شكلاً من أشكال التأريخ الذي يمكن أن نصفه بأنه «التاريخ العابر للمجتمع». من خلال ظاهرة الإرهاب، تحلل هذه الدراسة التاريخية الهياكل المجتمعية والتطورات التكنولوجية والإعلامية والديناميكيات السياسية والحركات الاجتماعية والجماعات والشبكات، والجهات الفاعلة الفردية، والأفكار الاجتماعية والسياسية، والأحداث المجتمعية والإعلامية، ويقارن عمليات الاستقبال الوطنية والعابرة للحدود الوطنية لأوروبا وروسيا والولايات المتحدة. من أجل تحديد الترابط والاحتمالية المتبادلة لهذه الهياكل والعمليات والأحداث والفاعلين والأفكار الحاسمة لأصول الإرهاب، وترى المؤلفة أنه من الضروري وجود مجموعة واسعة من الأساليب التاريخية. لهذا الغرض، اتبعت نهجاً مقارناً للتاريخ السياسي، دمجت فيه التاريخ الاجتماعي وتاريخ الأفكار مع دراسات الحالات المتعلقة بالسير الذاتية ومع التاريخ المتجاوز للحدود الوطنية حول الاتصالات والإعلام والأفكار.
تاريخ الإرهاب
ترى الكاتبة أن تاريخ الإرهاب ظهر كحجة مستخدمة في السياسة، وبالتالي، تم تفسيره بطريقة تخدم الأهداف السياسية على أفضل وجه. وهكذا، في عملية دائرية إلى حد ما، أصبح تاريخ الإرهاب هو المحدد والنتيجة للخطاب السياسي، وتعلق على ذلك بالقول: «كل هذا يؤكد الأهمية السياسية لتاريخ الإرهاب. لذلك يجب أن يطبق التأريخ أساليبه ووسائله الخاصة لمعاينة الروايات الراهنة عن تاريخ الإرهاب، وإذا لزم الأمر، لتصحيحها وكشف سياقات جديدة تساعدنا على فهم ظاهرة العنف هذه، في الماضي والحاضر بشكل أفضل. والهدف هنا هو إظهار أن أصول الإرهاب تعود إلى القرن التاسع عشر، وليس إلى لتاريخ المعاصر الحديث، ووضعها في سياق ما يشار إليه عموماً بالمعنى التحليلي بظهور الحداثة الغربية».
ويوفر هذا التاريخ المفتاح لفهم الأشكال الحالية للإرهاب وتطوره في سياق عولمة هذه الحداثة في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين. متى وأين وكيف نشأ الإرهاب؟ هذه الأسئلة موجودة في قلب هذا الكتاب. وتعلق الكاتبة على ذلك بالقول: «إن الخطوة الأولى هي السؤال عن كيفية اختراع هذا الشكل المحدد من العنف السياسي. كيف ومن الذي اعتمد هذا التكتيك ثم تم نشره وتطويره؟ إن الإشارة إلى«اختراع» الإرهاب – على عكس الإشارة الأكثر شيوعاً إلى أصول الإرهاب أو ظهوره – هي إشارة مقصودة وتتضمن مفاهيم من علم الاجتماع والفلسفة التي تحافظ على الوجود، ليس للاختراعات التكنولوجية فقط، ولكن أيضاً الاجتماعية الثقافية والنفسية».
وتضيف: «نشوء الإرهاب هو نتيجة لمثل هذه الاختراعات، حيث يشير هذا المصطلح بشكل ملموس إلى تفكير وأفعال فاعلين معينين، جربوا أشكالاً أقدم وأحدث من عنف المتمردين، واستخدموا التغطية الإعلامية التي تلت ذلك لتحقيق أهدافهم بدرجات متفاوتة من النجاح. ومن خلال هذه التغطية الإعلامية، تعرفوا أيضاً إلى بعضهم بعضاً، وفي سياق عملية التعلم هذه، طوروا أنماطاً من العمل العنيف أطلق عليه الإرهاب، على الرغم من أن الجناة أنفسهم والمجتمعات التي يعيشون فيها لم يستخدموا هذا المصطلح، باستثناء واحد منهم». وتجد الكاتبة أن هذه العملية التعليمية، التي ظهر فيها اختراع الإرهاب، حدثت في فترة زمنية قصيرة من 1858 إلى 1866، ولكنها امتدت على مساحة جغرافية شاسعة إلى أوروبا والولايات المتحدة وروسيا، أي البلدان والقارات التي بحلول منتصف القرن التاسع عشر، كانت مرتبطة بالفعل من خلال شبكة اتصالات وسيطة كثيفة».
آباء الإرهاب الحديث
تذكر المؤلفة أن البداية الإرهابية كانت مع ارتكاب شخصين أعمال عنف تتوافق مع معايير الإرهاب، ونتجت عن عمليات مستقلة وفريدة من التفكير والعمل (وليس بشكل أساسي تقليد بعض التحركات السابقة لآخرين)، ويمكن إثبات أنها كانت بمثابة نماذج لأعمال الإرهابيين القادمة. هذان الرجلان هما الإيطالي فيليس أورسيني الذي حاول اغتيال نابليون الثالث في عام 1858، وجون براون الذي هاجم ترسانة الجيش الأمريكي في هاربرز فيري، فيرجينيا، في عام 1859. ويمكن اعتبارهما أول الأفراد الذين تبنوا وطوروا الأعمال الإرهابية. ومن أورسيني وبراون إلى أوسكار فيلهلم بيكر الذي فشل في محاولته لاغتيال الملك البروسي فيلهلم الأول في عام 1861؛ ثم جون ويلكس بوث الذي أطلق النار على الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن في عام 1865؛ وديمتري فلاديميروفيتش كاراكوزوف الذي حاول قتل القيصر ألكسندر الثاني في عام 1866. كان هؤلاء الرجال الخمسة آباء الإرهاب الحديث، لأنهم اخترعوا وأسسوا الإرهاب في السياقات السياسية التي ستظل مهمة على الأقل طوال القرنين التاسع عشر والعشرين، أي ضمن سياقات ثورية وعرقية قومية ويمينية جذرية.
سياقات تاريخية وسياسية
يعاين الكتاب عن قرب حياة هؤلاء الخمسة وأعمالهم بالتفصيل، ويركز بشكل خاص على السياقات التاريخية والديناميات السياسية في ذلك الوقت، وعلى النماذج التي يحتذى بها ووجهات نظر العالم والأفكار والشبكات والعوامل الأخرى المساهمة في اتخاذ هؤلاء الرجال قراراتهم باللجوء إلى العنف الإرهابي. وترى المؤلفة أنه «من المهم معاينة ردود الفعل والتفسيرات والتأثيرات التي مكنت أعمالهم العنيفة من النجاح أو تسببت بفشلها. وكان تحليل أصول هذه الأعمال الإرهابية مثمراً بشكل خاص في الكشف عن أوجه تشابه واسعة فيما بينها».
أولاً، استلهم الرجال الخمسة أفكارهم من إرث الثورتين الفرنسية والأمريكية. وحاول كل واحد منهم أن ينفذ بصرامة أفكار هذه الثورات (كما فهمها) في الأماكن التي لم تتحقق فيها هذه الأفكار بالكامل، أو للدفاع عنها ضد التهديدات المتخيلة. وركزت المؤلفة في المقدمة على فكرتين ثوريتين هما فكرة القومية والحرية. وركزت فكرة القومية على الحرية السياسية وسيادة الدولة، وتحديداً على بناء الدولة، وهي قضية رئيسية في الفترة ما بين 1848-1889، كما يؤكد فريدريك لينجر. وتشير ملاحظة لينجر إلى الولايات الألمانية ولكن يمكن أيضاً تطبيقها على مناطق أخرى في أوروبا، مثل الولايات الإيطالية. وفي ما يتعلق بفكرة الحرية، كانت القضية المحددة هي إلغاء مؤسسات العبودية، ولا سيما التحرر من العبودية والخدمة بعقود طويلة الأجل، فضلاً عن إعطاء الحقوق الاجتماعية والسياسية.
وكان الدافع الثاني المشترك الذي دفع هؤلاء الرجال إلى العنف هو تأثير الحصار السياسي في مجتمعاتهم بحسب المؤلفة التي تقول أيضاً: «على الرغم من أن كل موقف قد تشكل من خلال العوامل التاريخية المحددة الخاصة به، إلا أنها تضمنت جميعاً إما فكرة الحرية وإما القومية. ونشأ الإرهاب، كشكل محدد من أشكال العنف الفردي والسياسي، في تلك الأماكن على وجه التحديد – إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة – حيث كان لوعود الثورتين الأمريكية والفرنسية، إلى جانب التقاليد الثورية، صدى قوي بشكل خاص، ولكن تم الوفاء بها جزئياً فقط. وبالتالي، فإن النزاعات التي نشأت بين الحركات الاجتماعية الداعية إلى الوفاء بهذه الوعود والقوى المجتمعية الأخرى التي تسعى إلى منع هذا التنفيذ لا يمكن حلها عن طريق المؤسسات السياسية القائمة، أو العنف الجماعي. تقول الكاتبة: «إن الإرهاب، الذي نُظر إليه على الفور على أنه تكتيك يمكن نشره على الصعيد العالمي، وتبنته أيضاً الجهات الفاعلة المعادية للثورة والجماعات السياسية في أجزاء أخرى من العالم، كما يتضح من اغتيال بوث للرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن والأعمال الإرهابية التي ارتكبها العديد من الأشخاص ومجموعات في أماكن مثل الهند والصين. ظلت المطالب الثورية بالحرية الشخصية والسياسية والوطنية والمساواة أو النضال ضد تحقيق هذه المطالب بالتحديد هي الدوافع الرئيسة الدافعة للأعمال الإرهابية في ذلك الوقت، وستظل في المستقبل».
الجانب الثالث والأهم للحالات الخمس – كما تراه المؤلفة – هو الاكتشاف الموثق جيداً بأن الإرهاب يعتمد على تضخيم عمل رمزي للعنف من قبل وسائل الإعلام من أجل أن يكون ناجحاً سياسياً، وترى أن الإرهاب في المقام الأول استراتيجية اتصال. لذا فإن الإرهاب – على الأقل كظاهرة عبر الحدود الإقليمية – لا يمكن فهمه إلا في سياق وسائل الإعلام الجماهيري، والجماهير الجديدة. أي في سياق ثورة النقل والاتصالات التي حدثت قبل منتصف القرن التاسع عشر مع ظهور الصحافة الشعبية والتلغراف وسفر البواخر والسكك الحديدية على نطاق عالمي؛ علاوة على ذلك، حدث أسرع تطور في مثل هذا الاتصال عبر الحدود الإقليمية بين أوروبا والولايات المتحدة. بعبارة أخرى، تم اختراع الإرهاب وتطويره بنجاح كتكتيك في تلك الأجزاء من العالم، حيث تم تطوير تقنيات النقل والاتصالات والمشهد الإعلامي بشكل خاص، وحيث أصبح الجمهور المهتم سياسياً واضحاً بشكل خاص، وبالتحديد في أوروبا وروسيا والولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن هذه النقطة لا تساوي الفروق الموجودة بين هذه الكيانات الجغرافية وداخلها. فيليس أورسيني وجون براون اللذان كانا حاسمين في اختراع الإرهاب، نجحا في تنفيذ أعمال عنف أصبحا قدوة. ثم طور آخرون الإرهاب أكثر، لكنهم لم يحققوا أي نجاح فوري باستخدام هذا التكتيك. لم تكن هناك بيئة إعلام واتصالات مماثلة في الأماكن التي تعمل فيها، لا في البلدان الألمانية ولا في الولايات المتحدة التي كانت ممزقة جراء الحرب الأهلية في ذلك الوقت، ولا في روسيا. ومع ذلك، فإن هذا لا يؤكد وجود شكل من أشكال حتمية وسائل الإعلام، أي أن النقل والاتصالات والبنى التحتية لوسائل الإعلام لا يمكنها وحدها تحديد نجاح أو فشل أعمال العنف. كما يُظهر التحليل التاريخي، كانت هناك عوامل محورية أخرى.