كتب – المحرر السياسي:«وصلنا إلى المحطة الحرجة» لا بد أن تكون هذه هي العبارة التي تتردد في دوائر صنع القرار الغربية منفردة أو مجتمعة، بعد أن فرضت روسيا الأمر الواقع من جديد في تكرار قد لا يكون متطابقاً مع ضم شبه جزيرة القرم، لكنه لا يخرج عن إطار الاستراتيجية العامة التي يرسمها الرئيس الروسي بوتين.
يدرك المهتمون بالأزمة الأوكرانية حجم الهوة التي تفصل بين السياسة الروسية القائمة على يقين استراتيجي تغذيه المشاعر القومية بأن القرم ودونباس وحتى أوكرانيا، كلها ليست سوى جزء من إمبراطورية تلاشت بسبب السياسات «العدوانية» الغربية، ولعبة القوة التي هي عصا السياسة، عندما كان العالم يعيش هاجس الأحادية القطبية، ويسمع ويطيع لكل ما يصدر عن البيت الأبيض.
في الطرف الآخر يبدو الغرب غارقاً في حالة من الشعور بالعجز التراكمي المكتسب، وليس الموقف الغربي المتردد من ضم القرم، سوى أحد شواهده. فحتى هذه اللحظة يكرر زعماء الولايات المتحدة والدول الفاعلة في أوروبا، نفس عبارات الشجب
الإدانة والتهديد بالعقوبات
لقد فشلت دعاية الحرب الغربية، وفرض الروس الأمر الواقع. وبدأت موسكو أمس تنفيذ عملية عسكرية تحت شعار « حماية إقليم دونباس» جنوب شرق أوكرانيا، ومما يزيد من تفاقم الأزمة، إصرار روسيا على منع كييف من الانضمام إلى حلف الناتو، وهو ما تعده تهديداً مباشراً لأمن روسيا، بينما يصر الغرب على اعتبار القضية حقاً مشروعاً لدولة ذات سيادة.
نجاح روسي
لقد نجح الروس على مدى سنوات في خلق واقع لوجستي في إقليم دونباس الذي يضم جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، ويعد خزان المعادن والصناعات الأوكرانية، على الرغم من أن مساحته لا تتجاوز 50 ألف كيلومتر مربع، يخدم هدفهم النهائي في حصار أوكرانيا، وخلق بؤرة توتر دائم تحول دون توسع الناتو شرقاً في الوقت الذي تتحول المنطقة التي تقطنها أغلبية روسية إلى متاريس عسكرية في أي مواجهة محتملة مع أوروبا خاصة والغرب عامة.
ولم يتوقف دعم روسيا للانفصاليين، وتقديم الامتيازات والمساعدات بكل السبل، وهو ما ظهر جلياً مساء الاثنين الماضي حينما أعلن الرئيس الروسي اعتراف روسيا باستقلال جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، اللتين صادق برلمان كل منهما على اتفاقية صداقة مع موسكو.
وبمقتضى الاعتراف، وجه بوتين القوات المسلحة الروسية بالعمل لضمان السلام في الجمهوريتين، استجابة لطلبات رئيسيهما دينيس بوشيلين ودينيس باسيتشنيك، بموجب اتفاق الصداقة والتعاون المتبادل معهما.
القرارات المتتالية بين موسكو وقائدي إقليم دونباس، خلقت بدورها واقعاً جديداً في الأزمة بين روسيا والغرب؛ حيث باتت موسكو في حل من القيام بغزو عسكري، وصار تحركها مشروعاً.
بوتين يبرر
أما فيما يتعلق بتبرير الخطوة سياسياً، فهذه مهمة في غاية السهولة. فقد نوه بوتين في خطابه الثلاثاء إلى أن بلاده سددت كامل الديون المترتبة على أوكرانيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، مشيراً إلى أن موسكو قدمت دعماً مالياً غير مسبوق لأوكرانيا في الفترة من 1991 إلى 2013، لكن كييف لم تفِ بالتزاماتها الخاصة بإعادة ممتلكات الاتحاد السوفييتي لروسيا، باعتبارها الوريث الشرعي للاتحاد السوفييتي.
وأكد بوتين أن روسيا كانت تتعاون مع أوكرانيا بشكل نزيه مع احترام مصالحها، وقال: إن أوكرانيا حصلت في الفترة ما بين 1991 وحتى 2013 على مساعدات روسية، تجاوزت قيمتها 250 مليار دولار.
وللوقوف على احتمالات ومآلات النزاع مستقبلاً؛ من المهم معرفة جذور المشكلة ولو جزئياً. فالنفوذ الروسي في الشرق الأوكراني ليس وليد اللحظة. ففي إبريل/ نيسان 2014 أطاح الأوكرانيون بدعم من الغرب الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، المدعوم من موسكو، وردت روسيا حينها بضم شبه جزيرة القرم، ثم ساندت تمرداً في شرق أوكرانيا؛ حيث حاصر الانفصاليون المباني الحكومية في منطقتى دونتيسك ولوغانسك، وأعلنوا تأسيس جمهوريتين شعبيتين، وخاضوا معارك ضد القوات الأوكرانية، ليتم بعد ذلك بأسابيع إجراء استفتاء شعبي لإعلان الاستقلال، والانضمام إلى روسيا، غير أن روسيا لم تقبل حينها تلك الخطوة، واختارت وضعاً «رجراجاً» يحفظ لها مبررات السيطرة على أوكرانيا متى أرادت ومنع انضمامها إلى الناتو.
وبعد هزيمة القوات الأوكرانية في أغسطس/ آب 2014، وقع مبعوثون من كييف والانفصاليين ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، هدنة في عاصمة بيلاروسيا مينسك في سبتمبر/ أيلول 2014، ونصت الوثيقة على أن تراقب منظمة الأمن والتعاون وقف إطلاق النار. وسرعان ما انهار الاتفاق، وتم استئناف القتال، ما أدى إلى هزيمة أخرى للقوات الأوكرانية في الفترة بين يناير/كانون الثاني، وفبراير/شباط 2015.
وتوسطت فرنسا وألمانيا لاتفاق سلام آخر، وتم توقيعه في مينسك في فبراير/ شباط 2015 من قبل ممثلين عن أوكرانيا وروسيا والانفصاليين، ونص على وقف إطلاق نار جديد، وسحب الأسلحة الثقيلة وسلسلة من الخطوات نحو التسوية السياسية. ووقع على إعلان دعم الاتفاق قادة أوكرانيا وروسيا وفرنسا وألمانيا.
وبموجب اتفاق السلام الموقع في 2015 والمعروف باسم «اتفاقية مينسك» تم إلزام أوكرانيا بمنح وضع خاص لمناطق الانفصاليين، الأمر الذي عزز موقف الروس وخدم أهدافهم الأساسية في خلق بؤرة توتر دائم. خلال الفترة الممتدة منذ الاتفاق وحتى اليوم، أحكمت روسيا قبضتها ونفوذها على مناطق الانفصاليين؛ حيث منحت 720 ألف جواز سفر روسي لسكان تلك المناطق البالغ عددهم نحو 4 ملايين نسمة من أصل 5 ملايين إجمالي السكان، ومنحتهم مساعدات مالية واقتصادية.
وقد أدخلت تطورات الأسبوع الماضي العالم من جديد في دائرة التكهنات المغلفة بالقلق الذي عادة ما يصحب اللحظات الحرجة. فالتحدي الذي فرضته الخطوة الروسية على الغرب سوف يدفع حكومات غربية للتحرك، حفظاً لماء الوجه، وهو ما يفسر مسارعة الدول الأوروبية، حتى التي كانت تفضل الجهود الدبلوماسية لحل الأزمة، إلى اتخاذ قرارات نارية تضمنت إرسال أسلحة لأوكرانيا، بينما قررت ألمانيا تعليق اعتماد مشروع خط أنابيب «نوردستريم2» لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا.
وبينما وقع الرئيس الأمريكي جو بايدن، أمراً تنفيذياً يحظر التجارة والاستثمار والأنشطة الاقتصادية الأمريكية في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، لا يبدو أن الرد الغربي قادر على تجاوز هذا الحد من الفعل، وهو ما يدركه الروس يقيناً، لتستمر الأزمة وتزداد سخونة وإثارة للقلق، مع أن أبواب الحل الدبلوماسي لم تغلق حتى الآن.