د. محمد فراج أبو النور*
لا يزال الضباب يلف المشهد السياسي الليبي على الرغم من اقتراب الموعد المحدد لانتهاء رئيس الوزراء المكلف فتحي باشاغا من تشكيل حكومته وتقديمها إلى البرلمان (28 فبراير الجاري) ومن الشواهد التي تشير إلى أن الحكومة الجديدة ستحظى بثقة النواب.
تظل الأزمة السياسية على حالها ومخاطر الانقسام قائمة، لأن رئيس الحكومة المقال عبد الحميد الدبيبة لا يزال مصراً على رفض تسليم السلطة إلا «لحكومة منتخبة ومحل توافق»؛ بل وأعلن عن خارطة طريق جديدة لإجراء الانتخابات في شهر يونيو/حزيران المقبل رافضاً خريطة الطريق التي أقرها البرلمان، ومستمراً في إصدار قرارات بزيادة المرتبات وتقديم الفرصة للشباب الراغبين في الزواج، وتوزيع الشقق على الراغبين، في محاولة مكشوفة لرشوة أقسام من الناخبين الذين يدعوهم إلى التظاهر ضد البرلمان ورئيسه.
الأهم من ذلك أن الدبيبة تمكن خلال الأسابيع المتبقية – بالتحالف مع جماعة «الإخوان» – من حشد عشرات الآلاف من مسلحي الميلشيات في طرابلس، قادمين من مختلف المناطق ومناطق الغرب الليبي، تلك الميليشيات التي كان الدبيبة خلال الأشهر الماضية يدفع رواتب أفرادها هم وأفراد فصائل المرتزقة من أموال الدولة الليبية، وهو ما يشير إلى نيته ومؤيديه «الإخوان» والميلشيات الإرهاب والمناطقية والقبلية- للبقاء في السلطة بالقوة.
البحث عن مخرج
ويزداد الوضع تعقيداً وغموضاً بسبب عدم وضوح موقف البعثة الأممية والإشارات الباهتة من جانبها حول المحافظة على الاستقرار، والتركيز على الانتخابات، وعدم تراجع الدول الغربية الكبرى عن بيانها السابق بدعم استمرار حكومة الدبيبة.
هل هناك أساس للتفاؤل؟ وهكذا تبدو إشارات «التفاؤل» ضعيفة، سواء كانت وساطة وجهاء مصراتة «مدينة الدبيبة وباشاغا» أو وساطة محمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي بين الطرفين أو تمنيات بعض السياسيين والمراقبين بتسليم الدبيبة للسلطة بمجرد حصوله على «خروج آمن»، فالرجل لديه المال والدعم العسكري من جانب الميلشيات التي تحتل العاصمة.. ودعم «الإخوان» والميلشيات والمرتزقة، وعددهم أيضاً بعشرات الآلاف، إضافة إلى دعم إقليمي نافذ، وإن يكن صامتاً، بينما الطرف الآخر «الشرق وحكومة باشاغا» لديه «الشرعية» التي لا تعني الكثير في هذه الظروف.. خاصة أن الجيش يصطدم بمحظور التحرك نحو طرابلس، وما ينطوي عليه ذلك من خطر إراقة الدماء.
وهكذا يبرز سيناريو «الحكومتين» والانقسام أكثر من أي سيناريو آخر.. ويظل حل الأزمة مرهوناً بتغيير حاسم في موقف الدول الغربية الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة، ينتصر للشرعية، ويأمر الدبيبة بالرحيل، ويفرض هذا على القوى الإقليمية والمحلية الداعمة له. والحقيقة أنه لا تبدو مؤشرات على مثل هذا التحول حتى الآن.
كما أن انشغال الدول الكبرى بالأزمة المحتدمة على الحدود الروسية – الأوكرانية، ينطوي على احتمال كبير لدخول القضية الليبية في حالة «تجميد» لوقت قد يطول دون أن يغير هذا وقت «التحركات المكوكية» غير المثمرة حتى إشعار آخر، وبالتالي يستمر وضع «الحكومتين» والانقسام وتأجيل الانتخابات.. وتطول معاناة الشعب الليبي وتظل بلاده في وضع «الدولة الفاشلة»
العربة والحصان
والحقيقة أن أبسط تحليل جدي لأسباب الفشل المتكرر لتجارب تسوية الأزمة الليبية، على الرغم من كثرة المؤتمرات الدولية والركض المستمر عبر عواصم العالم في «سياحة مفاوضات» لا تنتهي، إنما يعود إلى خلل جوهري تتسم به كل هذه الجهود، ويحكم عليها بالفشل.. نعني «وضع العربة أمام الحصان» أي تركيز الجهود على إجراءات التسوية السياسية والانتخابات وانقسام السلطات.. الخ مع إهمال «المسار العسكري» أو إيلائه أقل قدر من الاهتمام.. ونعني بتحديد أكثر ضرورة خروج القوات الأجنبية والمرتزقة، وحل الميليشيات ونزع سلاحها.
وعلى سبيل المثال فإن الانتخابات النيابية التي أجريت عام 2019 وأسفرت عن فوز مشهود للقوى الوطنية والمدنية، وهزيمة ساحقة ل«الإخوان» الذين حصلوا على 23 مقعداً فقط من مقاعد البرلمان 200 مقعد سرعان ما جرت الإطاحة بنتائجها، لأن ميلشيات «الإخوان» وغيرها من المنظمات الإرهابية، وخصوصاً القاعدة والقبلية تدفقت على طرابلس، واحتلتها، ونشرت فيها الفوضى، وأخضعت الحكومة لسيطرتها، وأجبرت النواب على الفرار من العاصمة، لنقل البرلمان إلى طبرق، وتشتت أعضاؤه في كل مكان داخل البلاد وخارجها، علماً بأن انهيار الجيش أدى إلى انتشار الملايين من قطع السلاح بمختلف أشكاله، فضلاً عما تدفق على ليبيا بعد انهيار الجيش.
واستغرق الأمر عدة سنوات ليستطيع «حفتر» وضباطه تنظيم نواة «الجيش الوطني» وتطهير بنغازي والمنطقة الشرقية من الميليشيات الإرهابية، ثم تطهير الهلال النفطي والمنطقة الجنوبية تدريجياً، وتقليص تدفق الهجرة غير الشرعية، بينما تركزت الميليشيات الإرهابية في الغرب.
وحينما أدت الجهود الدولية إلى توقيع «اتفاق جنيف/ أكتوبر 2020» والذي كان يقضي بإخراج المرتزقة الأجانب أو حل الميليشيات ونزع سلاحها خلال ثلاثة أشهر، وتوحيد المؤسسة العسكرية، فإن القوى الدولية لم تول الاهتمام الكافي للتقدم في هذا المسار وانتقلت إلى طبعة أخرى من اتفاق الصخيرات، تعني «خريطة طريق» ستيفاني وليامز التي انتهت إلى فشل ذريع، لأن الميليشيات المتمركزة في «الغرب» أفشلتها.. علماً بأنه لا يمكن إجراء انتخابات يتوافر لها الحد الأجنبي من النزاهة في ظل وجود قوات أجنبية، وجيش كامل من المرتزقة والميليشيات.
وهذا ما سوف يتكرر إذا تكررت تجربة الانتخابات بدون تحقيق تقدم حاسم على المسار العسكري ودعم عمل لجنة (5+5).. حتى لو تمت صياغة 10 دساتير، لهذا فإن معيار نجاح حكومة باشاغا سيتحدد بمدى تحقيق تقدم على المسار العسكري وبالطبع بمدى نجاحها في توحيد المؤسسات السيادية وتقديم الخدمات الاجتماعية وإنعاش الاقتصاد لضمان الدعم الجماهيري، ومن ثم ضبط الاتفاق المالي ومكافحة الفساد وغير ذلك من المهام.. وبدون إحراز تقدم ملموس على هذه الصعد «خاصة على المسار العسكري» سيكون من أصعب الأمور إجراء انتخابات ناجحة ونزيهة.
وبديهي أن الدعم الدولي والإقليمي ضروريان لتحقيق هذا الهدف الكبير.. ونتحدث عن دعم دون تدخل.. وأن يكون حده الأدنى في الامتناع عن دعم قوى «التأزيم» والانقسام والإرهاب.
* كاتب مصري