تحدث في الوقت الراهن تحولات في توازن القوة بين الدول العظمى، خاصة على المستوى الأمريكي الصيني، حيث تظهر المنافسة في نقاط كثيرة من العالم. تشترك معهما اليابان في المحيط الهادئ وتعمل كقوة توازن وسط التفاعلات القائمة بين الدولتين. يقدّم هذا الكتاب دراسة مقارنة لاستراتيجيات هذه القوى العظمى ويحلل سياساتها وأشكال الصراع والتعاون.
من المفهوم أن الموضوعات البحثية المتعلقة بالولايات المتحدة والصين واليابان، المعروفة باسم دول المحيط الهادئ الثلاثة، قد جذبت اهتماماً كبيراً في مجالات العلاقات الدولية والعلوم السياسية والتاريخ وعلم الاجتماع والاقتصاد. فقد أجرى عدد قليل من الخبراء في دراسات شرق آسيا أبحاثاً حول المثلث الصيني-الياباني-الأمريكي، لكن أعمالهم تتناول أساساً تاريخ شرق آسيا والدول الثلاث من وجهات نظر تاريخية ولا يركزون بشكل خاص على استراتيجيات كل قوة والمناقشات الداخلية. كما ثمة العديد من الكتب البارزة في السنوات الأخيرة التي تتناول استراتيجية الولايات المتحدة تجاه شرق آسيا، بما في ذلك كتاب كيرت كامبل «المحور: مستقبل الكفاءة السياسية الأمريكية في آسيا» (2016)، وكتاب مايكل غرين «الاستراتيجية الكبرى والقوة الأمريكية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ منذ عام 1783» (2017)، وكتاب فيكتور تشا بعنوان «مسرحية القوة: أصول نظام التحالف الأمريكي في آسيا» (2009). ومن المثير للاهتمام، أن هؤلاء المؤلفين جميعاً باحثون مسؤولون يتنقلون بين المناصب الأكاديمية والحكومية عبر نظام «الباب الدوار» (كما هو موضح في الفصل الثاني حول الاستراتيجيات الأمريكية تجاه شرق آسيا)، وبالتالي وجهات نظرهم تكون من زوايا معينة. لطالما كانت السياسة الصينية والسياسة الخارجية من الموضوعات الشائعة في مجالات السياسة المقارنة (شرق آسيا) والعلاقات الدولية. ومن الأمثلة البارزة على ذلك كتاب أليستر لين جونستون «الدول الاجتماعية: الصين في المؤسسات الدولية 1980-2000»، وكتاب يان شوتونغ بعنوان «القيادة وصعود القوى العظمى»، وكتاب توماس كريستنسن «تحدي الصين: تشكيل خيارات القوة الصاعدة» (2016).
تنافس القوى العظمى
تقدم الأمثلة المذكورة أعلاه حول كل من استراتيجية الولايات المتحدة تجاه شرق آسيا والسياسة الخارجية الصينية قضايا رئيسة لفهم كل من القوة المهيمنة (الولايات المتحدة) والقوة الصاعدة (الصين)، وهي بالطبع ذات صلة بموضوع هذا الكتاب، لكنها لا تتعامل مع نفس الحالات من منظور مقارن. ثمة أيضاً أعمال تعاين العلاقات الثنائية بين الدول الثلاث منها كتاب «الصين واليابان: مواجهة التاريخ» كنموذج يُحتذى به لدراسة العلاقة المعقدة بين الصين واليابان، القوتين الأسيويتين العظميين. ولا يوجد نقص في الكتب الحديثة حول العلاقات الثنائية الأخرى، مثل العلاقات الأمريكية الصينية، والعلاقات الأمريكية اليابانية، والعلاقات الصينية اليابانية.
تقدم هذه الكتب تحليلاً مفصلاً لتطورات العلاقات الثنائية الرئيسة المذكورة أعلاه. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمرء أن يشير إلى أن هناك العديد من بؤر التوتر في شرق آسيا، لها تأثير هائل على تنافس القوى العظمى بين دول المحيط الهادئ الثلاث. قدم الخبراء الإقليميون تحليلات مفصلة حول هذه الموضوعات، مثل الأزمة النووية لكوريا الشمالية ومضيق تايوان. تقدم هذه الكتب تحليلاً مفصلاً لتطور نقطتي التوتر وهما شبه جزيرة كوريا ومضيق تايوان، بالإضافة إلى مناقشات مفصلة في سياق التفاعلات بين الصين واليابان والولايات المتحدة.
باختصار، ترتبط الأعمال الرائعة المذكورة أعلاه بالموضوع الرئيس لهذا الكتاب، لكن تركيزها يختلف بعض الشيء، إذ يقدم هذا العمل دراسة مقارنة لاستراتيجيات القوى العظمى في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ويعاين تطور التفكير الاستراتيجي لكل دولة من هذه الدول الثلاث ويحلل السياسات الخارجية لها والمناقشات الداخلية في عملية صنع السياسة. كما يحلل الصراع والتعاون بين الدول الثلاث من الماضي إلى الحاضر، ويشدد على أهمية التفاعلات بين العوامل الداخلية والخارجية في عملية صنع السياسات، ويؤكد على الأهمية الكبرى لهذه التفاعلات لنظرية العلاقات الدولية.
يسلط الكتاب أيضاً الضوء على دور المستشارين الاستراتيجيين في مراكز الأبحاث والوكالات الحكومية في الولايات المتحدة، وعملية صنع السياسات غير الرسمية والمتوازنة في اليابان، وتأثير الثقافة التقليدية في الصين، وخاصة الكونفوشيوسية، والدور الذي تلعبه مراكز الأبحاث الصينية.
توازن القوة
عند النظر إلى الخريطة، قد يرى المرء أن الصين واليابان (دولتا شرق آسيا) تقعان في الجزء الغربي من المحيط الهادئ، بينما تقع الولايات المتحدة في الجزء الشرقي. وبالتالي، يمكن الإشارة إلى هذه القوى الثلاث باسم (دول المحيط الهادئ الثلاث). في العقود الأخيرة، أصبح الاهتمام بالمنافسة بين الولايات المتحدة والصين أمراً مركزياً في السياسة العالمية، وكما يشير العالم الأمريكي غراهام أليسون، لا يمكن استبعاد الحرب بين القوتين النوويتين، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ البشرية. أوضح كورت كامبل المنسق الأمريكي لشؤون المحيطين الهندي والهادئ في إدارة جو بايدن، في يناير (كانون الثاني)2022 أنه في حين أن العلاقات بين الولايات المتحدة والصين تنافسية، فإن القوتين بحاجة إلى التعايش. العنصر الأساسي لهذه المنافسة هو «انتقال السلطة» حيث تتحدى القوة الصاعدة (الصين) القوة المهيمنة (الولايات المتحدة). علاوة على ذلك، تظل اليابان حاسمة في هذه المنافسة كقوة توازن».
الظاهرة الأكثر لفتاً للنظر هي صعود الصين حيث تضيق فجوة بينها وبين الولايات المتحدة بسرعة. على سبيل المثال حصة الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصاد العالمي: في عام 2001، شكلت الولايات المتحدة 31.6٪، واليابان 13٪، والصين 4٪. بعد ست سنوات، في عام 2007، تراجعت الولايات المتحدة إلى 24.8٪ وزادت الصين إلى 6.1٪. بحلول 2010، تجاوزت الصين اليابان، لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وبحلول 2020، كانت الولايات المتحدة قد انخفضت إلى 20٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بينما ارتفعت الصين إلى 17.4٪. في 2021، كان الناتج المحلي الإجمالي للصين يعادل 77٪ من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، وهذا يشكل ارتفاعاً من 61٪ في عام 2015.
لفهم الظروف العامة لدول المحيط الهادئ الثلاث، من المهم أن ننظر أولاً إلى المواقع الجيوسياسية للقوى الثلاث والمواقع ذات الأهمية بالنسبة لآسيا والعالم. تقع الصين واليابان والولايات المتحدة في المواقع الرئيسة لحافة المحيط الهادئ: تقع الصين على الساحل الغربي للمحيط الهادئ بينما تقع الولايات المتحدة على الجانب الشرقي. وفي التاريخ الحديث، تعد دول المحيط الهادئ الثلاث بلا شك أهم الدول في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. في حين أن الصين واليابان جارتان قريبتان، فإن المحيط الهادئ الهائل يقع بين الصين والولايات المتحدة. كما تقع اليابان كدولة جزرية بين القوتين القاريتين الكبيرتين، مما يشكل علاقة ثلاثية دائمة.
تتطرق هذه الدراسة أيضاً إلى الموضوعات المتعلقة باللاعبين الآخرين في آسيا والمحيط الهادئ، مثل روسيا والكوريتين ودول في جنوب شرق وجنوب آسيا، لكنها ليست الموضوعات البحثية الرئيسة في هذا الكتاب. ومع ذلك، ثمة بعض المناقشات التفصيلية حول الموضوعات المتعلقة بشبه الجزيرة الكورية ومضيق تايوان، حيث إنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالدول الثلاث تاريخياً وفي الوقت الراهن.
العلاقة المثلثية
يقول المؤلف:«يجب أن نلاحظ أن العلاقة المثلثية بين هذه الدول الثلاث ليست مستقرة، ولكنها تتغير باستمرار بمرور الوقت. باختصار، لا تكون ديناميكيات المثلث متساوية البعد أبداً. قبل منتصف القرن التاسع عشر، كانت الصين واليابان جارتين قريبتين، وكانت الولايات المتحدة بعيدة جغرافياً. خلال الحرب العالمية الثانية، حارب التحالف الأمريكي الصيني ضد الغزو الياباني ومنظومته العسكرية. بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة خلال الحرب الباردة، اعتبر التحالف الأمريكي الياباني الصين عدواً، وهو الوضع الذي استمر حتى أوائل السبعينات عندما كانت دول المحيط الهادئ تواجه عدواً مشتركاً وهو الاتحاد السوفييتي، وحينها زار الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون الصين لأول مرة. أدى صعود الصين منذ التسعينات إلى تغيير كبير في العلاقات الدولية».
ديناميات متغيرة
يهدف المؤلف من هذا الكتاب إلى التحليل المنهجي للديناميات المتغيرة في هذه الدول الثلاث، ويحلل الصراع والتعاون بينها من الماضي إلى الحاضر. يستند الإطار النظري إلى تحليلات التفاعلات بين العوامل الداخلية والخارجية في عملية صنع السياسات. ويتكون العمل الصادر عن دار روتليدج في سبتمبر 2022 باللغة الإنجليزية ضمن 310 صفحات من ستة فصول هي: 1) لماذا ندرس دول المحيط الهادئ الثلاث؟ 2) الولايات المتحدة: القيادة العالمية والاستراتيجية«ترويكا»3) الصين: التحديث والاستقرار وقنوات إدخال السياسات 4) اليابان:«الطريق الوسطي المائل«و»الآلية غير الرسمية»5) تغيير ديناميات سياسات القوة في آسيا المحيط الهادئ 6) مثلث الولايات المتحدة والصين واليابان: صديق أم عدو؟
يقدم الفصل الأول مقدمة للكتاب، وهو دراسة مقارنة لاستراتيجيات الصين واليابان والولايات المتحدة. قبل تحليل كل دولة على حدة، يستعرض ويوضح الفصل بعض القضايا الأساسية وحالة كل بلد من وجهة نظر مقارنة، ثم يشرح الإطار النظري للكتاب ويقدم، في الوقت نفسه، عرضاً شاملاً للدراسة المقارنة لاستراتيجيات السياسة الخارجية. استناداً إلى النهج الجزئي والكلي، تركز التحليلات على التفكير الاستراتيجي والمناورات الدبلوماسية للدول الثلاث.
يركز الفصل الثاني على الاعتبارات الاستراتيجية للولايات المتحدة، وبالتحديد قيادتها العالمية وسياسة التحالف، ويركز على آليات صنع السياسات الخاصة بها وإعادة تعديل سياسة الولايات المتحدة تجاه شرق آسيا في حقبة ما بعد الحرب الباردة. يقدم هذا الفصل دراسة حالة عن المستشارين في مراكز الأبحاث والوكالات الحكومية الأمريكية ووظائفها الرئيسة الثلاث: المهندس الاستراتيجي، ومستشار السياسات، ومنفذ السياسة. كما يصور اضطراب العلاقة الثلاثية بين الولايات المتحدة والصين واليابان، ويحلل ديناميات انتقال السلطة وهيكل القيادة المزدوجة الأمريكية الصينية الناشئة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
يحلل الفصل الثالث استراتيجية الصين الخارجية، وكيف يمكن لها أن تصبح دولة حديثة، إذ إن«التحديث» و«الاستقرار» من الأسس الاستراتيجية للسياسة الخارجية الصينية. بعد تحولات المناقشة في الاستراتيجية منذ عام 1949، يدرس هذا الفصل تأثير التفكير التقليدي على السياسة الصينية والسياسة الخارجية، ثم يعاين مدخلات السياسة لمراكز الفكر في عملية صنع السياسة. كما يقدم تحليلاً مفصلاً حول قضية تايوان، وهي إحدى الإشكالات الوطنية الكبرى للصين.
يعاين الفصل الرابع خاصيتين جديرتين بالملاحظة في الاعتبار الاستراتيجي الياباني وصنع السياسة «الطريق الوسطي المائل» و«الآليات غير الرسمية». يصف هذا الفصل الآليات غير الرسمية وتأثيرها على عملية صنع السياسة في السياسة اليابانية الخارجية. يقول المؤلف:«تتحوّل المناقشات الداخلية في اليابان، على سبيل المثال، من شعار «خارج آسيا، إلى أوروبا»، الذي تم تقديمه أثناء فترة إصلاح ميجي، إلى «الطريق الوسط» في حقبة ما بعد الحرب الباردة. مع هذه السياسة الجديدة، ستتمسك اليابان بالتحالف مع الولايات المتحدة، ولكن في الوقت نفسه، تبذل قصارى جهدها للحفاظ على علاقات عملية مع جيرانها الآسيويين، ولا سيما الصين الصاعدة».
يبحث الفصل الخامس الديناميات المتغيرة لسياسات القوة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ مع التركيز على الدول الثلاث. يقوم أولاً بتحليل نوعين من تحولات القوة في المنطقة ويحاول الإجابة على أسئلة مثل:«ما الذي يمكن أن نتعلمه من اتجاهات الصعود والهبوط؟» و«هل هناك صين لأعلى وأمريكا لأسفل؟» ثم ينتقل إلى أنظمة التحالف والأطر الثنائية والمتعددة الأطراف في شرق آسيا المتعلقة بالولايات المتحدة والصين واليابان. كما يقدم معاينة تفصيلية لديناميات شبه الجزيرة الكورية وكوريا الشمالية النووية، بالإضافة إلى تأثيرها على علاقات القوى العظمى.
يركز الفصل السادس، باعتباره الفصل الختامي للكتاب، على العلاقات المتغيرة بين الصين واليابان والولايات المتحدة. يبحث في خمسة عوامل تسبب التغيير في العلاقات في السياسة الدولية، ثم يتطرق إلى ثماني محطات تاريخية للتفاعل بين دول المحيط الهادئ الثلاث. يصور سيناريو انتقال القوة بين الصين والولايات المتحدة، فضلاً عن العلاقات المعقدة بين الصين واليابان. بالنظر إلى المنافسة المطولة بين الولايات المتحدة والصين، ودور اليابان كقوة توازن، فإنها تتحول إلى آلية ثلاثية بين هذه الدول الثلاث.