كتب- المحرر السياسي:
لم تعد أخبار المعارك في أوكرانيا تتصدر العناوين في وسائل الإعلام العالمية، ليس لتراجع أهميتها على مقياس الاستقرار العالمي؛ بل لأن تحقيق إنجازات عسكرية لافتة لأحد الجانبين بات صعباً نسبياً، ما يرجح استمرار الحرب بوتائر روتينية لأمد أطول.
على الرغم من الأخبار الساخنة حول زيارات الجبهات خلال الأيام الماضية؛ حيث زار الرئيس فلاديمير بوتين جسر جزيرة القرم، بينما زار نظيره الأوكراني الخطوط الأمامية في دونتسيك، فإن وتيرة التغطية الإعلامية تتناغم مع حالة التثاؤب التي انتابت الحلفاء في الغرب، وكثرة الحديث عن تكاليف المعارك التي فاقت كل توقعات المحرضين على إنهاك روسيا، في وقت تتعالى معه أصوات المعارضة الشعبية في كثير من الدول المشاركة في تمويل وتسليح الأوكرانيين، مع الشعور بعبثية هذا التحريض في غياب الإنجازات وتزايد صعوبات الحسم العسكري، مع انسداد آفاق الحل السياسي.
فعندما استعاد الجيش الأوكراني السيطرة على خيرسون قبل ثلاثة أسابيع، بدا أن هناك احتمالاً بأن تنتقل الحرب إلى مرحلة نهائية، يمكن أن تؤدي إلى تراجع روسي كافٍ لفتح الباب أمام تسوية تفاوضية من أي نوع.
لكن المزاج تغير مع إصرار أوكرانيا المتزايد على إعادة جميع الأراضي التي استعادتها روسيا منذ عام 2015، بما في ذلك شبه جزيرة القرم. وقد يتطلب هذا استسلاماً روسياً لدرجة أن فلاديمير بوتين قد يهدد بشكل خطر بالتصعيد واللجوء إلى أسلحة الدمار الشامل.
في ظل هذه الصورة صار بدء المحادثات مستبعداً في أي وقت قريب، لكن هناك مسارات أخرى للحرب، يفرضها زحف الشتاء، وقد تكون التطورات الأخيرة بمنزلة بداية.
معركة باخموت
كان الافتراض هو أن الكرملين سوف ينظم قواته في الخطوط الأمامية في مواقع دفاعية بعد خيرسون، ويبدأ التحضير لأشهر الشتاء ويبدأ عملية الاستعداد لهجوم الربيع في مارس/ آذار المقبل. وبدلاً من ذلك، اختارت روسيا شن عملية هجومية كبيرة، لا سيما حول بلدة باخموت في إقليم دونيتسك.
كان للجيش الروسي قوات كبيرة منتشرة هناك منذ مايو/ أيار، لكن لم يحرز سوى تقدم محدود على الرغم من ارتفاع معدل الخسائر. ومع ذلك، في الأسابيع الأخيرة، تم إرسال تعزيزات كبيرة، ما أدى إلى خوض أشد المعارك البرية ضراوة منذ البدء في الحرب.
قوبل الهجوم الحازم والمستمر من قبل القوات الروسية بالدفاع الأوكراني الصارم – وكانت النتيجة خسائر كبيرة في الجانبين.
وقد وصف تقرير صحفي أمريكي المشهد خلال يوم من القتال في وقت سابق من هذا الأسبوع قائلاً: «على مدى ساعة تقريباً، بدا تدفق القتلى الأوكرانيين في مدينة باخموت الشرقية بلا نهاية، سيارات الإسعاف وناقلات جند مدرعة ومركبات خاصة هدرت جميعها، لتتوقف أمام المستشفى العسكري الوحيد بالمدينة، وتنزل الجرحى».
مهما كان السبب، من الواضح أن موسكو تعتزم الاستمرار في الحرب على الرغم من أنها أثبتت أنها مكلفة للغاية، ولا يظهر ذلك فقط من خلال عدد الأشخاص الذين قتلوا أو شوهوا، ولكن أيضاً من خلال الكمية الهائلة من العتاد العسكري المستخدم.
الإمدادات الغربية
المشكلة بالنسبة لأوكرانيا هي تراجع الإمدادات الغربية على الرغم من نداءات الرئيس الأوكراني التي لم تنقطع. وتمد الولايات المتحدة أوكرانيا بنحو 15000 طلقة مدفعية في الشهر حتى الآن. ولعلها الرابح الوحيد من الطلب المتزايد على المنتجات الحربية، خاصة وأن دول أوروبا قلصت خطط الإنتاج العسكري بعد الحرب الباردة، وليس لديها القدرة على تلبية الطلب على مثل هذه المنتجات. واليوم تتدافع الولايات المتحدة والعديد من الحلفاء في الناتو، لزيادة إمداداتهم، لاستغلال الفرصة، وتحقيق المكاسب. فقد زادت السويد مثلاً إنفاقها العسكري بنسبة 90% على مدى السنوات السبع المقبلة.
وقد اتفق قادة حلف شمال الأطلسي في قمتهم الأخيرة في بوخارست على زيادة إمدادات الأسلحة، وتقديم إمدادات كبيرة، لمساعدة أوكرانيا على إصلاح بنيتها التحتية الحيوية في مواجهة الهجمات الصاروخية الروسية المتكررة. لقد تجاوزت المساعدة العسكرية المباشرة لحلف الناتو لأوكرانيا 40 مليار دولار هذا العام، وهو ما يقرب من إجمالي الإنفاق السنوي لفرنسا على جيشها.
لكن هذا لا يعني أن أوكرانيا سوف تحصل على ما يتطلبه تحقيق الفوز بالحرب، خاصة وأن قائمة أمنياتها تشمل صواريخ كروز التي يصل مداها إلى 700 كيلومتر، مقارنة مع صواريخ «هايمارس» التي لا يزيد مداها على 300 كيلومتر. لكن الأهم من ذلك هي الدعوات المتزايدة في بعض دوائر الدراسات اليمينية والاستراتيجية في الولايات المتحدة – التي تقول إنه من الأفضل استمرار الحرب لسنوات إذا لزم الأمر، ما يضعف روسيا كتهديد محتمل للمصالح الأمريكية طويلة الأجل، خاصة إذا كان ذلك يحد من قدرات المحور الصيني الروسي المستقبلية. ويوحي سير المعارك بأن روسيا لا تزال تعتقد أن الالتزام الغربي تجاه أوكرانيا يمكن تقويضه، مع تشديد إجراءات حرمان أوروبا من مصادر الطاقة الروسية، وتفاقم المشاكل الاقتصادية في معظم أنحاء القارة.
وفي هذه الحالة يمكن أن تستمر الحرب على شكل صراع منخفض المستوى لسنوات قادمة.
ويراهن الغرب على تغيير النظام في موسكو كأحد الحلول. وقد يتحرك حلف الناتو – تحت تأثير ضغوط الولايات المتحدة – لاعتماد سياسة ذات مسارين، تقوم على زيادة المساعدة المدنية لأوكرانيا، والدعم الثقيل لقدراتها العسكرية. وفي حال نجحت هذه التحركات في زيادة الخسائر الروسية على الأرض، وإلحاق المزيد من الضرر بالاقتصاد الروسي، فسوف تبقى أوكرانيا ساحة المعارك الحصرية تتلقى المزيد من الضربات التي تعني زيادة عدد القتلى، وتدمير ما تبقى من البنية التحتية.
في ظل هذه السيناريوهات تبقى فرص المحادثات خلال الأشهر المقبلة غير مرجحة وعلى القوى الفاعلة أن تبحث عن مخرج قد لا يكون متاحاً خاصة مع استحالة الحسم على الجبهات.