تظهر أستراليا في العصر الراهن مختلفة عما كانت عليه عند البدايات، حينما لعبت دوراً في الثقافة الديمقراطية وترسيخ القيم الإنسانية على المستوى العالمي. ماذا حدث لهذه البلاد الغنية والسعيدة ذات يوم؟ من يكرّس الخوف في قلوب الأستراليين من ظهور أعداء محتملين؟ من يدعو إلى تسليح أكثر؟ يعاين الكتاب هذه الإشكاليات ويدعو إلى صحوة أسترالية قبل فوات الأوان.
في عالم مضطرب للغاية، أصبحت أستراليا تعيش في ورطة عميقة. بعد أن نالت الإعجاب لمقاربتها الرزينة والحيوية والليبرالية للانخراط في الشؤون العالمية، أصبح ينظر إليها الآن على نطاق واسع – من الأصدقاء والنقاد على حد سواء – على أنها متحجرة القلب، ومفرطة في النقد وبليدة الروح. في بداية القرن العشرين، كانت في طليعة الدول التي عمّمت حق الاقتراع العام، حيث رسخت كرامة العمل من خلال فرض معدلات عادلة للأجور، وإنشاء شبكات أمان اجتماعي تحمي أولئك الذين يواجهون أوقاتاً صعبة، ووفرت أسلوب حياة أثار حسد الكثيرين. الآن يُنظر إليها على أنها متراجعة عن القضايا الملحة والوجودية مثل الاحتباس الحراري ونزع السلاح النووي، وتتجاهل العواقب العميقة لجائحة كورونا لدى أقرب جيرانها، خاصة إندونيسيا، فضلاً عن الأسلوب المتعالي في التعامل مع الدول الفقيرة والمكافحة في منطقة المحيط الهادئ. يقول المؤلف: «الدول التي كنا نتمتع باحترامها ذات مرة تنظر إلينا بعين الاحتقار في موقفنا تجاه من يلتمسون اللجوء هنا، وبسبب افتقارنا إلى مد يد العون إلى ملايين الأشخاص الذين نزحوا بسبب حروب دعمناها».
تظهر الاعتبارات والاستنتاجات المقترحة في هذا الكتاب (صادر عن دار آبسويل في 2022 ضمن 320 صفحة) أكثر إثارة للمشاعر وأكثر إلحاحاً مع الإعلان المشترك من قبل أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة للتعاون في اقتناء أستراليا ثماني غواصات تعمل بالطاقة النووية. يرى المؤلف أن «ترقية أستراليا لتكون في صفوف الدول التي تشغل سفناً حربية تعمل بالدفع النووي قرار بالغ الأهمية حقاً، خاصة أنها أول دولة غير حائزة للأسلحة النووية تقوم بذلك. قد تكون هناك بعض الحجج التقنية السليمة التي تدعم التحرك النووي، إلا أن السرعة والسرية المحيطة بالقرار وطريقة إعلانه كانت ببساطة غير عادية. وفقاً لتقارير بريطانية، كان عدد قليل من الأشخاص في المملكة المتحدة على علم بهذا الاقتراح قبل إعلانه، ويبدو أن قلة قليلة من الأشخاص في أستراليا خارج مكتب رئيس الوزراء كانوا على علم بذلك أيضاً. أصبحت أستراليا دولة تتمتع بسمعة طيبة في تحقيق (الأهداف الخاصة)، وإثارة التعاطف والسخرية بالقدر نفسه.
ويجد المؤلف أن «التزام أستراليا بتكنولوجيا غريبة لا يمكننا بناءها أو صيانتها أو التخلص منها، هو التنازل في الوقت نفسه عن سيادتنا وإحالتنا إلى وضع الدولة التابعة إلى الأبد -شراكة إلى الأبد- على حد تعبير رئيس الوزراء موريسون. إن تجاهل المجتمع الإقليمي بلا مبالاة، لا سيما إندونيسيا، هو أمر متعجرف ومتعالٍ ومرفوض..». يرى المؤلف أن أستراليا وصلت إلى نقطة حرجة في التاريخ، ويتساءل: «هل نظل عضواً مشاركاً بالكامل في عالم الرجل الأبيض الإمبريالي، نحتفي بأمجاد الماضي والحروب الماضية، مقيدين بدولة يتغير مكانها في العالم بالتأكيد – حتى لو لم تتراجع – أم هل نبدأ المهمة الشاقة لإعادة تعريف أنفسنا ومصالحنا الوطنية؟ هل نقوم بتقييم القوى، والإشكاليات، التي قادتنا إلى حيث نجد أنفسنا الآن، أم هل نظل غير واثقين وخائفين من السقوط؟ هل نبدأ العمل الصبور والدقيق لبناء التحالف، والتخطيط للسلام والازدهار والاستقرار مع جيراننا، أم أننا نتراجع تحت المظلة الوقائية للقوة العسكرية الأمريكية في المحيط الهادئ؟ هل نصبح شريكاً واثقاً وبناء في الشؤون الإقليمية والعالمية، أم نبقى غير مهمين؟».
ماذا حدث لأستراليا؟
ماذا حدث لأستراليا السعيدة والغنية؟ ماذا حدث لنا؟ يتساءل المؤلف هنا وفي إجابة عن ذلك يقول: «من الغريب أن نقول إنه لا شيء حدث وكل شيء حدث في الوقت عينه. لقد اعتمدنا على حظنا واستغللنا الهبات الطبيعية المذهلة لهذه القارة، وشعوبها الأوائل لنصبح في الترتيب الثالث عشر كأغنى دولة في العالم، ونصبح في الترتيب الخامس والخمسين على المستوى العالمي من ناحية عدد السكان. دون الرغبة في الانتماء إلى قارتنا، ودون الاهتمام بها ورعايتها، شجعنا الشركات متعددة الجنسيات على استغلالها مع الاحتفاظ ببعض المزايا. نقف مكتوفي الأيدي، ونبذل أقل ما يمكن، بينما تجعلنا قارتنا أثرياء. لقد طورنا طريقة للتفكير في أنفسنا والعالم الذي نعيش فيه، يمكن القول إنها استبطانية ومتعامية عن الفرص الرائعة التي تحيط بنا. وفي الوقت نفسه، سمحنا لأنفسنا بالتحرك إلى جانب قوى لا نفهمها ولا نتحكم فيها».
ويضيف إلى ما سبق: «لقد شاركنا في حروب استعمارية مختلفة، وحربين عالميتين، وسلسلة من الصراعات الأخرى دون الكثير من التفكير العميق في مواطن مصالحنا الحقيقية. لقد نجحنا في تحويل أنفسنا من كوننا حليفاً للولايات المتحدة إلى دولة تابعة لها، ومنخرطين في صراعات في الشرق الأوسط وأفغانستان لا تخصّنا، على الرغم من الإرهاب. في الواقع، بصفتنا «نائب عمدة الشرطة»، فإننا نجازف بتسليم ما تبقى من قوتنا للتوسع الاستراتيجي الأمريكي بينما تسعى الولايات المتحدة لاستعادة تفوقها في مواجهة التهديد المحقق من الصين.
نعيش في واحدة من أكثر المناطق أماناً في العالم، بعيداً عن ساحات الحروب، لكننا نتخيل أنفسنا معرضين لتهديد هجومي مسلح يزداد يوماً بعد الآخر. كلما ركزنا على الصين، أصبحنا أكثر خوفاً. وكلما أصبحنا خائفين، أصبح نهجنا أكثر دفاعية تجاه مستقبلنا وفرصنا. كلما كانت عقليتنا أكثر دفاعية، كلما قيدنا أنفسنا بالولايات المتحدة. لقد أقنعنا أنفسنا أنه كلما زاد استثمارنا في أدوات الحرب، سنكون أكثر أماناً من استخدام أدوات الحرب ضدنا. بدلاً من الاعتراف بقيمة نزع السلاح، أصبحنا دعاة لإعادة التسلح. يبدو أننا غير مدركين بشكل مبهم لمفارقة أننا نعيش في قارة ضخمة بعدد قليل من السكان.
لماذا انتقلت أستراليا من غرور الواثق بالنفس خلال فترة رئيس الوزراء بيلي هيوز وحضوره في فرساي عام 1919 والمشاركة البناءة في الشؤون العالمية لنائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية إيفات ورئيس الوزراء بالدوين سبنسر في أوائل أعقاب الحرب العالمية الثانية إلى حالة المتفرج المتلعثم الذي يحوم على أطراف محادثات الدول الأخرى؟ يسعى المؤلف إلى معالجة هذا السؤال، ويجادل بأن الافتقار العميق للثقة دفع أستراليا إلى موقف لا صلة له بالشؤون الإقليمية والعالمية، وهو بكل بساطة مأساوي. يقول: إنه لأمر مأساوي بالنسبة لنا كدولة موهوبة رائعة أن نكون قد شوهنا ما يميزنا. ومن المأساوي للمجتمعات الإقليمية والعالمية ألا نضع مواهبنا الحقيقية في خدمة عالم يحتاج بشكل ملح إلى أفكار وطاقات لمواجهة المشكلات القائمة.
كما يقدم المؤلف في هذا العمل مقترحاً بسيطاً إلى حد ما هو أنه عند إدراك العوامل التي تقيّد وتحد من قوة أستراليا كدولة، فمن المرجح أن تكون هناك إمكانية لإعادة تصور طريقة عمل لأستراليا لتعود كلاعب دولي بنّاء.
إطار السياسة الاستراتيجية
يركز الكتاب بشكل أكبر على ما يؤثر في دور أستراليا على المسرح الدولي. بالطبع، لا يتجاهل المؤلف حقيقة أن العالم في الوقت الراهن معقد وفوضوي ومضطرب في كثير من الأحيان، لكنه يحاول استعراض شكل من التأمل الذاتي حول سبب تصرفات أستراليا.. وما هي الكيفية التي تبنى عليها السلوكيات؟ وكيف يفهم السياسيون الأستراليون العالم الذي نعيش فيه؟ وكيف يمكن تصور الدور الأسترالي بمصطلحات بناءة وأكثر ثقة؟
يقول المؤلف: تحمل أرفف الكتب الأسترالية مجموعة رائعة من الأعمال التي تتناول التاريخ العسكري لأستراليا. في الواقع، تفتخر أستراليا بالمؤرخين العسكريين المميزين لديها. هناك أيضاً قدر معقول من العمل حول العلاقات الدولية وسياسة الدفاع، ولكن عندما يمشط المرء الأرفف بحثاً عن كتب أسترالية عن الديناميات الثقافية للأمن الأسترالي، فلن نجد الكثير. على سبيل المثال، لا تشير قائمة القراءة في الجيش الأسترالي – وهي مجموعة منتقاة من الكتب المصممة لإعداد ضابط أو جندي للخدمة في مهنة السلاح – إلى الأعمال التأسيسية لهيدلي بول أو كورال بيل أو روبرت أونيل أو ديس بول، أو الدراسات الأحدث التي أجراها بول ديب، روس باباج، هيو وايت أو بريندان تايلور. ولكنه يتضمن تعليقات مهمة لمؤلفين أمريكيين وبريطانيين، مضيفاً: شهد العامان الماضيان وصول دراستين مهمتين: واحدة لهيو وايت بعنوان «كيف تدافع عن أستراليا؟» وأخرى لروري ميدكالف بعنوان «منافسة على منطقة المحيطين الهندي والهادئ». كلاهما تناقشان إطار السياسة الاستراتيجية الأسترالية من منظور المزيد من الإنفاق. فبينما يجادل وايت بأن تحالف أستراليا مع الولايات المتحدة آخذ في التراجع، نجد أن ميدكالف يدعو إلى تمديد اعتماد أستراليا الاستراتيجي إلى ما بعد معاهدة أستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة، ليشمل أنواع التعاون العسكري الإقليمي الذي تصوره الحوار الأمني الرباعي بين أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة.
ويرى المؤلف أن هذه كتب مهمة معلقاً: «ومع ذلك، يبحث المرء عبثاً عن أي دراسة موسعة لكيفية إعادة ضبط أستراليا لسياستها الأمنية الوطنية لمعالجة سمتين جديدتين تماماً للبيئة الاستراتيجية المعاصرة: أولاً، قضايا الأمن البشري الناتجة عن تسارع تغير المناخ، لا سيما في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والدول الأرخبيلية إلى شمال وغرب أستراليا؛ وثانياً، التغيير الذي لا رجعة فيه في التفوق الدفاعي الإقليمي لأستراليا الناتج عن كل من الانخفاض المتسارع في ميزة القدرة الأسترالية السابقة بسبب زيادة توافر التكنولوجيا العسكرية في المنطقة، وبالطبع الهيمنة الاستراتيجية المتزايدة للصين».
ويقول المؤلف في هذا السياق أيضاً: «كان الإلهام الأقرب لهذا الكتاب يكمن في سؤال طرحه طالب ماجستير في برنامج سياسة الأمن القومي لعام 2019 في كلية الأمن القومي في الجامعة الوطنية الأسترالية. وكان السؤال: هل يمكنك تفسير الاستمرارية المفاجئة لسياسة الأمن القومي الأسترالية منذ الحرب العالمية الثانية، على الرغم من التغيرات في طبيعة وتوازن القوى التي حدثت في تلك الفترة؟». يرى المؤلف أن إزالة الغبار العقلي عن الإجابة القياسية المكونة من ثلاثة أجزاء والتي تعد دليلاً على العضوية الطويلة في مجتمع سياسة الأمن القومي هي: القيود المكانية والزمانية للجغرافيا الاستراتيجية لأستراليا؛ الطبيعة الدائمة للمصالح الاستراتيجية للدولة، وقوة تحالف أستراليا مع الولايات المتحدة.
تغيير في الذهنية الوطنية
يشير المؤلف إلى أنه بالنظر إلى كثرة التجارب التي تساهم في شيء غير ملموس مثل العقلية الاستراتيجية الوطنية، كيف يمكن للمرء أن يفرزها إلى فئات ويوازن تأثيرها؟ كيف ينبغي للتجارب الأمنية للشعوب الأولى في أستراليا (تشمل نزع الملكية، والاستيلاء على الأراضي، والهجرة القسرية، والعنف، والمرض، والانتقال القسري إلى بلد غير مألوف، وفصل الأطفال عن والديهم، والعبودية، والحرمان من الفرص، وإنكار الحقوق، وتدهور المناظر الطبيعية، وتدمير الثقافة، والاغتراب داخل قارة محتلة لمدة 60 ألف عام قبل أن يبدأ التقليد الغربي) أن تلعب دوراً في تشكيل أستراليا الحديثة وسلوكها الراهن على المسرح العالمي؟ كيف أدت مخاوف وعزلة ومشقة الموجات الأولى من المهاجرين إلى أستراليا، ومعظمهم من المدانين البريطانيين والإيرلنديين، إلى تحديد السلوك الأمني المبكر للمستوطنين الجدد وأولئك الذين مارسوا السيطرة عليهم؟ ما هو تأثير وصول المستوطنين الأحرار؟ ما هي التحيزات الأمنية التي جلبها المستوطنون الأحرار غير الناطقين بالإنجليزية معهم أثناء فرارهم من التوترات الدينية والعرقية والسياسية المحلية في أوروبا القارية؟ كيف اكتسبت الحساسيات العرقية مثل هذه الأهمية بعد وصول صائدي الثروة الصينيين في خمسينات القرن التاسع عشر؟ كيف أصبح «التشويش» عاملاً مقيداً لدورة الأمن القومي عندما كانت أستراليا رائدة على مستوى العالم في حقوق التصويت والاقتراع العام؟
يرى المؤلف أن لدى أستراليا كل القدرات والمهارات لتكون أفضل بكثير مما هي عليه الآن، بحيث يمكن أن تصبح أكثر تنوعاً وشمولاً، قائلاً في هذا الصدد: «يمكننا العمل في نظام يقدر كلاً من التنافس والتعاون. يمكننا قبول حق الناس في تصديق ما يرغبون فيه كما يمكن أن نكون غير مهتمين بما قد تكون عليه معتقداتهم. يمكننا أن نختلف مع آراء الناس بقوة تضاهي في الوقت عينه دفاعنا حتى الموت عن حقهم في التعبير عنها».
يسعى الكتاب إلى تأمل في الخطوات التي قد تتخذها أستراليا لنكون أكثر ثقة، وهذا ما يؤكد عليه المؤلف بالقول: «نحتاج إلى العيش في عالم جديد، ومن وجهة نظرنا، عالم أقل قابلية للتنبؤ به. مثل الدول الاسكندنافية، نحن بحاجة للحفاظ على قوة دفاعية موثوقة. ولكن، مرة أخرى مثل الإسكندنافيين، نحن بحاجة إلى دراسة خيارات التحوط لدينا التي تقلل من اعتمادنا على القوة العسكرية والتحالفات الدفاعية للحفاظ على أمننا على المدى الطويل».