بعد نحو عام على الانتخابات المبكرة التي أجريت في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، شهد العراق عهداً جديداً أنهى حالة الانسداد السياسي التي أعقبت تلك الانتخابات، وتخللتها توترات ومشاحنات داخلية وصلت إلى حد الاشتباك المسلح، ووضعت البلاد على شفير حرب أهلية، قبل أن يعلن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، الفائز الأول في تلك الانتخابات، انسحابه من الحياة السياسية، ويأمر أنصاره بفك الإشتباك والانسحاب من ساحة البرلمان والمنطقة الخضراء والعودة إلى مقراتهم، فاسحاً بذلك المجال أمام صعود خصمه اللدود «الإطار التنسيقي» لملء الفراغ وتغيير «قواعد اللعبة».
وبتوالي التطورات، جرى انتخاب رشيد عبد اللطيف رئيساً جديداً للجمهورية، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة محمد شياع السوداني، وإعادة انتخاب محمد الحلبوسي رئيساً للبرلمان. لكن الأزمة العراقية، مع ذلك، لا تزال مستمرة بانتظار تحقيق ما يتطلع إليه العراقيون من إصلاحات جذرية وتغيير حقيقي يبدو أنه لا يزال بعيد المنال.
أزمة بنوية
وكي لا نعود كثيراً إلى الوراء، نشير فقط إلى أن ما يشهده العراق هو نتاج أزمة عميقة ومستمرة، تتعلق من حيث الجوهر ببنية النظام العراقي التي تأسست على يد الحاكم العسكري الأمريكي، بول بريمر، منذ عام 2003، واعتمدت المحاصصة الطائفية والسياسية بين المكونات العراقية في بناء مؤسسات الدولة، بعد سقوط النظام السابق، وحافظت عليها الحكومات المتعاقبة، ما أنتج نظاماً مشوهاً يحقق مصالح الطبقة السياسية المتنفذة على حساب مصالح الأغلبية الساحقة من العراقيين. وبالتالي، فهي ليست أزمة عابرة، يمكن لأي حكومة إيجاد الحلول الملائمة لها، بقدر ما تحتاج إلى إعادة النظر في النظام السياسي برمته، وإعادة هيكلة الدولة ومؤسساتها على أسس وطنية، بعيداً عن نظام المحاصصة الذي أثقل كاهل العراق والعراقيين على مختلف المستويات، السياسية والإقتصادية والإجتماعية والخدماتية والصحية.. على مدار السنوات الماضية.
ما بعد الانتخابات
بعد انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2021، جوبه التيار الصدري الذي حل أولاً في تلك الإنتخابات، مع فوزه ب 73 مقعداً في البرلمان من أصل 329 مقعداً، بالرفض والتشكيك، ثم بالإعتصامات والتهديد باستخدام القوة من جانب الميليشيات المسلحة المنضوية في «الإطار التنسيقي» الشريك الآخر في «المكون الشيعي». ومع إقرار المحكمة الاتحادية العليا للنتائج النهائية للانتخابات من دون تغيير يذكر، بذلت قوى «الإطار» كل ما في وسعها لمنع حصول «التيار الصدري» على الكتلة البرلمانية اللازمة لتشكيل حكومة أغلبية وطنية، بعيداً عن نظام المحاصصة، وهنا تبرز إحدى مساوئ النظام الانتخابي الذي ترك الأمور غامضة بين الجهة السياسية التي فازت بأكبر عدد من النواب، والكتلة الأكبر الناجمة عن تحالفات برلمانية، واللجوء إلى التفسيرات المتعلقة بالمواد الغامضة في الدستور، من جانب المحكمة الاتحادية العليا التي وضعت في لحظة حساسة شرطاً يقضي بحضور ثلثي أعضاء البرلمان الجلسة الاقتتاحية لانتخاب رئيس جديد، وهو ما حال دون حصول «التحالف الثلاثي»، الذي ضم إلى جانب التيار الصدري تحالف «السيادة» والحزب الديمقراطي الكردستاني، على العدد اللازم من النواب لانتخاب رئيس جديد وتشكيل الحكومة، ما أدى في النهاية إلى استقالة أعضاء الكتلة البرلمانية الصدرية في يونيو/ حزيران 2022 ثم انسحاب الصدر من الحياة السياسية في أواخر أغسطس/ آب الماضي، بيد أن التيار الصدري، في الواقع لم يغادر المعادلة السياسية باعتباره يملك أوسع كتلة جماهيرية بين القوى السياسية مجتمعة.
حكومة السوداني
وفي أول بيان أصدره بعد تكليفه برئاسة الوزراء، أبدى السوداني استعداده للتعاون مع جميع القوى السياسية والمكونات المجتمعية، متعهداً بمكافحة الفساد والإقصاء والتهميش. وفي منهاجه (برنامجه) الوزاري الذي نال الثقة على أساسه في أواخر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، تعهد السوداني بإجراء انتخابات تشريعية مبكرة بعد عام واحد، والقيام بإصلاحات واسعة تتقدمها محاربة الفساد وإطلاق مشاريع تنموية غزيرة بعيداً عن النفط، بما في ذلك القيام بإصلاحات في قطاعات حيوية، كالكهرباء، وتحسين فرص العمل، وتعزيز التنمية الاقتصادية، ما أثار تساؤلات كثيرة حول إمكانية تحقيق هذه التعهدات خلال تلك الفترة الزمنية المحدودة، وفي ظل الأوضاع المعقدة في البلاد. وتختلف تقديرات المحللين حول إمكانية تنفيذ ما ورد في المنهاج الوزاري بشكل كامل، مع تعقد البيئة السياسية، وتهالك البنية التحتية، وتفشي الفساد والمحسوبية التي تعطل أي رئيس وزراء عن القيام بإصلاحات «ثورية». وتبرز الموازنة المالية للعام المقبل، كأحد التحديات أمام حكومة السوداني، في ظل بقاء فترة زمنية قصيرة على تقديمها لمجلس النواب، تجنباً لسيناريو مخيف يتمثل في احتمال توقف صرف رواتب الموظفين، في حال عدم إقرارها، على الرغم من أن حكومته تمتاز عن غيرها من حيث امتلاك الخزينة العراقية أكبر احتياطات مالية في تاريخها، والذي يقدر بنحو 100 مليار دولار.
دوران في حلقة مفرغة
غير أن الكثير من المحللين يعتقدون، أن الانفراج المؤقت لحالة الإنسداد السياسي لا يعني انتهاء الأزمات المزمنة التي تعصف بالعراق، كما أن نجاح حكومة السوداني لا يتوقف على تنفيذ برنامجها الوزاري فقط، وإنما يحتاج إلى دعم كل القوى السياسية في ظل تصادم المصالح، السياسية والزعاماتية والمكوناتية والحزبية، والتي أفرزت هذا العام تحولاً جديداً تمثل في ذهاب الفائز الأكبر بالانتخابات نحو المعارضة الشعبية، وليس المعارضة البرلمانية كما هو مفترض، وهو ما غيّر قواعد اللعبة بشكل كبير جداً، ما يعني أن الأزمات العراقية مستمرة رغم ولادة عهد جديد هو في الحقيقة تكرار للعهود السابقة، ويظهر مدى عجز الطبقة السياسية المزمن، عن الدفع بمقاربة وطنية لمعالجة أزمات االبلاد المتراكمة، وفي مقدمتها أزمتا الديمقراطية والنظام السياسي برمته، وإزاحة الطبقة السياسية المتنفذة التي ترفض تغيير سلوكها ومنهجها في التعاطي مع المشكلات العراقية الأساسية. وكما هو متعارف عليه في العراق، فإن الساسة العراقيون يعقدون المشكلات والأزمات بدلاً من حلها وتسويتها، وبالتالي سيبقى العراق دائراً في حلقة مفرغة طالما أن هذه القوى السياسية تتصدر المشهد وتتحكم فيه.
«سرقة القرن».. برهان آخر على ثقافة الفساد
بدأ رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، ولاية حكومته الجديدة، بتنفيذ تعهداته التي وردت في منهاجه الوزاري، وقد وضع ملف مكافحة الفساد على رأس جدول أولوياته، وهو الملف الأكثر خطورة وتعقيداً في البلاد، لكن ما يلفت النظر هو السرعة القياسية التي اقتحم بها هذا الملف الشائك والأكثر خطورة وتعقيداً، والإعلان عن أكبر سرقة للمال العام قدرت بمليارات الدولارات من أموال الأمانات الضريبية العائدة لخزانة وزارة المالية، وهو ما عرف باسم «سرقة القرن».
تحقيقيات واعتقالات
وسرعان ما استدعى القضاء العراقي عدداً من كبار المسؤولين، بينهم مدير عام الهيئة العامة للضرائب، للتحقيق، على خلفية سرقة مليارين ونصف المليار دولار، في أكبر فضيحة سرقة للمال العام بالبلاد.
كما أصدر القضاء العراقي مذكرات قبض بحق أصحاب الشركات التي تم تحويل المبالغ المسروقة إلى حساباتهم.
وقال مجلس القضاء الأعلى في العراق، إنه تم «تشكيل لجنة تدقيقية مشتركة من وزارة المالية والهيئة العامة للضرائب ومصرف الرافدين وهيئة النزاهة، لتدقيق المبالغ المصروفة». وضمن سلسلة التحقيقات، أعلنت هيئة مكافحة الفساد عن صدور أمر استقدام ومنع السفر بحق رئيس جهاز المخابرات العراقية السابق.
إهدار الأموال
وبالأرقام، يصنف العراق ضمن الدول الأكثر فساداً في العالم، حيث تحتل الدولة المرتبة 157 عالمياً من إجمالي 180 دولة ضمن مؤشرات مدركات الفساد الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية العام الماضي 2021.
وفي عام 2014، كشف رئيس الوزراء العراقي، الأسبق حيدر العبادي، عن وجود نحو 50 ألف جندي وموظف في وزارة الدفاع يتلقون رواتبهم من دون وجود حقيقي لهم على أرض الواقع.
وفي 2015 قال وزير النفط آنذاك، عادل عبد المهدي، إن الموازنات العراقية منذ 2003 وحتى العام ذاته بلغت 850 مليار دولار، وهي أرقام كبيرة إلا أن الفساد أهدر نحو 450 مليار دولار.
وأشار عبد المهدي إلى أن استغلال المناصب من جانب المسؤولين لمصالح خاصة كلف العراق 25 ملیار دولار، وفي 2021، كشف الرئيس آنذاك برهم صالح، أن أموال النفط من 2003 تصل لنحو ألف مليار دولار، لافتاً إلى أن تقديرات الأموال المنهوبة تبلغ نحو 150 مليار دولار.
صراعات على أجهزة الدولة.. إقالات وتطهير
اختلفت التقـــديرات حول القرارات والتغـــييرات التي اتخـــذتها حكومة السوداني بســرعة قـــيـاســية أيضاً، والتي تخص قيادات عليا فـي جهاز المخابرات الوطني ووزارة الداخلية، وبعض المؤسسات الأخرى، وما إذا كان دافعها «مكـافحة الفساد»، أم أنها تتعلق بصراع نفوذ القوى السياسية والمحاصصة.
وبينما يدرج البعض هذه الموجة الواسعة من الإقالات، والتي شملت المئات من قـــيادات وكوادر جـهـــاز المخابرات والمديرين العامين ومسؤولين كبار في وزارة الداخلية في إطار مكافحة الفساد، يرى كثير من المحللين أنها جزء من محاولة قوى «الإطار التنسيقي» والقوى الداعمة لها، والتي دعمــــت وصــول السودانـي لرئــاسة الوزراء، للسيطرة على الجهاز. ويلاحظ أن الإقالات الأخيرة شملت مدير الأمن ومــدير المراقـــبة ومدير عام الفنية ومــديـر عــام الإداريـة فـي الجهــاز.
الاستحواذ على الأجهزة
ويشير المراقــــبون إلى أن تـحـــرك السوداني يعطي انطباعاً بالتزامه بتفسير المحكمة الاتحادية لمواد دســـتورية، حين وصفت حكـــومة مصطــفى الكاظمي السابقة بأنها حكومة تصـريـــف أعمال، بداية من 8 أكتوبر2021، وقت إعلان الـــبـرلمان حل نـفسه تمهــــيداً لإجراء الانتخابات المبكرة. وفي هذا الإطار، هناك عدد من التطورات، منها أن السوداني قرر إعادة النظر في التعيينات والإقالات التي جرت بعد 8 أكتوبر، وشملت جميع مسؤولي مكتب الكـــاظمي ومعظم مستشــــاريه، وكـــذلك كبار القيادات الأمنية والعسكرية، ومن ذلك، إقالة وكــــيل وزارة الداخلــية للاستخـــبارات والتحقيقــات الفريق أحمد أبو رغيــف، الذي كان اليد الضاربة للكاظمي في ملاحقة الفساد .
حسابات خاطئة
وبحسب مصادر عدة، فإن قيادات الفصائل والميليشــيات المسلحة، لــم تكن راضية عن الكاظمي الذي جاء به مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري المنافس لـ«الإطار التنسيقي»، رغم أن نفوذ هذه الفصائل تضاعف في أيامه، لاعتقاده أن فتح مؤسسات الدولة أمام قياداتها وعدم الصدام سيساعده على الظفر بولاية جديدة، وكانت حساباته خاطئة. وكان الكاظمي قرر، حين كان رئيساً للوزراء ومشرفاً على جهاز المخابرات، استبعاد نحو 300 من موظفي الجهاز ما أغضب قيادات الإطار. وبالتالي، يرجح المحللون أن تكون إعادة هيكلة جهاز المخابرات تهدف إلى إبعاد المحسوبين على التيار الصدري والكاظمي، وتجريد قياداته من المكونات الأخرى من صلاحياتهم، مع تجنب كسر أقانيم المحاصصة السياسية.