«تشات جي بي تي» يكتب النكات ويفكّ الرموز ويدون مقالات جامعية
كمعظم المهووسين بقراءة الخيال العلمي، أمضيتُ وقتاً طويلاً وأنا أتساءل كيف سيرحّب مجتمعنا البشري بالذكاء الصناعي عندما يصل… إذا وصل. هل سنهلع؟ هل سنبدأ بتملّق الروبوتات التي ستحكمنا؟ أم هل سنتجاهلها ونكمل حياتنا بشكلٍ طبيعي؟
ولكنّني شعرتُ بالذهول وأنا أشاهد «كوكب تويتر» وهو يحاول فهم «تشات جي بي تي» ChatGPT، روبوت المحادثة المدعوم بالذكاء الصناعي الجديد الذي طرح للاختبار الشهر الماضي.
روبوت محادثة
ببساطة، يُعدّ «تشات جي بي تي» أفضل روبوت محادثة مدعوم بالذكاء الصناعي صُمّم للاستخدام العام على الإطلاق. طوّرت هذا الروبوت شركة «أوبن إي آي» المتخصصة بالذكاء الصناعي في سان فرنسيسكو، التي سبق لها أن ابتكرت أدوات أخرى أبرزها «جي بي تي – 3» و«دال – إي 2» الذي يُعدّ اختراقاً في عالم ابتكار الصورة.
وكما هذه الأدوات، أحدث «تشات جي بي تي» (وهو مختصر لعبارة المحوّل التوليدي المسبق التدريب generative pretrained transformer)، ضجّة كبيرة. فقد أفاد غريغ بروكمان، مدير شركة «أوبن إي آي» أنّ أكثر من مليون مستخدم سجّلوا أسماءهم لاختبار الروبوت في الأيّام الخمسة الأولى. انتشرت مئات الصور لمحادثات «تشات جي بي تي» على منصّة تويتر، وتحدّث عنه أوّل معجبيه باستخدام صفات الذهول والتعظيم كما لو أنّه كان مزيجاً من البرمجة والسحر.
سجّلت روبوتات المحادثة أداءً مريعاً في السنوات العشر الماضية – فلم يجد النّاس ما يثير إعجابهم إلّا في حالات نادرة واستثنائية. تحسّنت بعض أدوات الذكاء الصناعي في السنوات القليلة الماضية في أداء مهام محدّدة ومحدودة ككتابة نصّ تسويقي، ولكنّها لا تزال أقرب إلى الفشل عند الخروج من منطقتها المألوفة.
أمّا اليوم، فقد اختلف الحال مع «تشات جي بي تي» الذي يبدو أذكى وأغرب وأكثر مرونة، حيث إنّه يستطيع كتابة النكات (بعضها مرحٌ حقاً)، وفكّ الرموز على الكومبيوتر وكتابة مقالات جامعية. كما أنّه قادر على تخمين التشخيصات الطبية، وابتكار ألعاب مبنية على نصوص هاري بوتر، وشرح مبادئ علمية من مستويات تعقيد مختلفة.
إنّ التقنية التي تشغّل «تشات جي بي تي» ليست بجديدة، بل مبنية على ما تسمّيه الشركة «جي بي تي – 3.5»، نسخة محدّثة من «جي بي تي – 3»، مبتكر نصوص مدعوم بالذكاء الصناعي أشعل موجةً من الحماس عندما انطلق عام 2020. قد يكون وجود دماغ خارق ويتمتّع بقدرات لغوية مميزة خبراً قديماً بالنسبة لباحثي الذكاء الصناعي، ولكنّها المرّة الأولى التي تتوفّر فيها أداةٌ بهذه القوّة لجميع النّاس مجّاناً وعلى شكل وسيط سهل الاستخدام.
قدرات ومهارات
اتّسم الكثير من محادثات «تشات جي بي تي» التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي بالتهريج والحماقة. فقد حثّ أحد مستخدمي تويتر الروبوت على «كتابة آية من الإنجيل بأسلوب إنجيل الملك جيمس ليشرح فيها كيف يخرج شطيرة من خبز بزبدة فول الصويا من مُسجل فيديو».
وطلب آخر من الروبوت «شرح انتظام الذكاء الصناعي، ولكن بكتابة الجمل بأسلوب شخص لن يتوقّف عن التبجّح بكبر حجم ثمار القرع التي زرعها».
ولكنّ المستخدمين وجدوا أيضاً تطبيقات أكثر جدية. فقد تبيّن أنّ «تشات جي بي تي» ماهرٌ في مساعدة المبرمجين في رصد وتصحيح الأخطاء في رموزهم.
وبدا أيضاً أنّه جيّد في الإجابة عن الأسئلة التحليلية المفتوحة التي تُطرح كثيراً في الفروض المدرسية. توقّع عددٌ من المدرّسين أن «تشات جي بي تي» والأدوات التي تشبهه ستكون بمثابة النهاية للفروض والاختبارات المنزلية.
تفتقر معظم روبوتات المحادثة إلى «الحالة» – ما يعني أنّها تتعامل مع كلّ مهمّة جديدة على أنّها صفحة فارغة، فضلاً عن أنّها غير مبرمجة للتذكّر أو التعلّم من المحادثات السابقة. ولكنّ «تشات جي بي تي» يستطيع تذكّر ما قاله المستخدم من قبل بشكلٍ قد يتيح ابتكار روبوتات محادثة للعلاج النفسي المخصص لكل فرد مثلاً.
ومع ذلك، لا يمكن ولا بأيّ شكل القول إنّ الروبوت المميّز الجديد مثالي لأنّ الطريقة التي ينتج فيها الاستجابات – باستخدام تعابير مبسّطة للغاية ناتجة عن تخمينات احتمالية لأجزاء النصّ التي تنتمي لبعضها البعض بالتسلسل بناءً على نموذج إحصائي مدرّب على مليارات الأمثلة المستخرجة من شبكة الإنترنت – يجعله عرضة لتقديم إجابات خاطئة حتّى على مسائل حسابية بسيطة. عمد منسّقو موقع «ستاك أوفر فلو» المخصص للمبرمجين، أحد الأيام إلى منع المستخدمين مؤقتاً من تقديم إجابات من إنتاج «تشات جي بي تي» بسبب غرق الموقع بالمدخلات غير الصحيحة أو النّاقصة.
وعلى عكس غوغل، لا يبحث «تشات جي بي تي» على شبكة الإنترنت عن معلومات حول الأحداث الحالية، ويعتمد على معرفة محصورة بأشياء تعلّمها قبل 2021، ما يعني أنّ بعض إجاباته ستكون قديمة. (عندما طلبتُ منه كتابة مشهدٍ افتتاحي لبرنامج يُعرض في وقتٍ متأخر من الليل، استخدم نكات قديمة عن الرئيس الأسبق دونالد ترمب وانسحابه من اتفاقية باريس للمناخ).
اعتدال وروّية
صُمّم هذا الروبوت ليتوخّى الاعتدال على اعتبار أن بيانات التدريب الخاصة به تتضمن مليارات الأمثلة من الآراء البشرية والتي تمثل كل وجهة نظر قد نتخيّلها. هذا يعني أنّه سيكون من الصعب جداً استخلاص رأيٍ سياسي قوي من «تشات جي بي تي» حول المناظرات السياسية المشحونة مثلاً دون تلقين دقيق؛ في الوضع العادي، ستحصلون من الروبوت على ملخّص يستعرض ما تؤمن به كلّ جهة.
توجد أيضاً أمورٌ كثيرة لن يقوم بها هذا الروبوت المميّز من منظور مبدئي. فقد برمجت «أوبن إي آي» الروبوت على رفض «الطلبات غير اللائقة» – هذه الفئة الغامضة التي لا تعرف محظورات كاقتراح تعليمات لأنشطة غير قانونية. ولكن المستخدمين تمكّنوا من إيجاد وسائل للالتفاف على هذه الضوابط بإعادة صياغة السؤال للحصول على تعليمات غير قانونية وتحويله إلى تجربة فكرية نظرية، كالطلب من الروبوت أن يكتب مشهداً من مسرحية أو أن يعطّل مزاياه الأمنية.
ينطوي «تشات جي بي تي» على تداعيات اجتماعية أكبر من أن نتحدّث عنها في مقال أو عمود صحافي. ولعلّ هذا الروبوت، كما وصفه بعض المعلّقين، سيكون بداية نهاية عمل موظفي المكاتب في المجالات المعرفية ونذير موجة بطالة جماعية؛ أو لعلّه سيبقى أداةً خفيفة لن يستخدمها إلّا الطلّاب ومحبّو المزاح من مستخدمي تويتر وأقسام خدمة الزبائن حتّى تحلّ محلّه أداةٌ أخرى أفضل وأكبر.
شخصياً، ما زلتُ أحاول أن أفهم كيف أنّ البعض يعتقد أن «تشات جي بي تي» سينتزع من غوغل دوره المحوري، وكيف أنّه بات يُقارن بهاتف الآيفون من ناحية تأثيره على المجتمع – مع أنّه ليس أفضل نماذج الذكاء الصناعي التي طوّرتها «أوبن إي آي»، وبالأفضل نقصد «جي بي تي – 4»، الإصدار المقبل من نموذج الشركة اللغوي، والذي تفيد الشائعات بأنّه سيرى النّور العام المقبل…. نحن لسنا جاهزين بعد لاستقبال مثل هذه النظم.
* خدمة «نيويورك تايمز»