كتب – المحرر السياسي:
تدور في أذهان كبار المسؤولين في الدوائر السياسية العالمية، ومعهم أغلبية المتابعين لما يجري على الأراضي الأوكرانية، أسئلة كثيرة حول أسباب استمرار الحرب حتى الآن، وإلى أي مدى يمكن أن تتحمل العقيدة العسكرية الراهنة والأكاديميات العسكرية، ومعها جنرالات الحرب، المسؤولية عن الفشل في حسمها. ثم ما هو الدور المطلوب من أصحاب القرار السياسي في وقف هذه المأساة التاريخية؟
الحقيقة أن الأزمة تشعبت إلى درجة صار فيها إطلاق الأحكام أكثر تشابكاً. ففي عصر ما بعد الحداثة تبدّل كل شيء، وما زال القتال في معارك اليوم يحمل الكثير من سمات الحرب التقليدية، حيث تشن حروب على الجبهات من دون أن يغزو جيش طرف، أراضي الطرف الآخر.
كان من المتوقع، منذ فترة طويلة، أن تتخذ المواجهة بين الروس والغرب شكلاً من أشكال حرب ما بعد الحداثة، والتي تحددها أسلحة القرن الحادي والعشرين، مثل التلاعب بوسائل الإعلام، والتضليل في ساحة المعركة، والهجمات الإلكترونية، وعمليات نشر الأكاذيب، والمقاتلين الأغرار.
حرب تقليدية
صحيح أن هذه العناصر ظهرت في هذه الحرب، لكن الديناميكيات التقليدية للقرن العشرين كانت المهيمنة على الصورة، فقد تكرر تغيير خطوط المعركة، خاصة تموضع سلاح الدبابات، والقوات الأخرى؛ واحتدم الصراع على التفوق الجوي، وعلى قطع خطوط الإمداد؛ والتعبئة الجماهيرية، وتسريع إنتاج الأسلحة.
ولا تشبه ملامح الحرب، بعد ما يقرب من عام من القتال، تلك المتوقعة في أي حرب مستقبلية. وأصبحت مثل هذه النزاعات أكثر ندرة منذ عام 1945، وهي حقبة غالباً ما ارتبطت بالحروب الأهلية،وحركات التمرد، والغزوات الأمريكية التي تحولت سريعاً إلى الاحتلال.
لكن الحروب بين الدول استمرت كما بين إيران والعراق، وأرمينيا وأذربيجان، والهند وباكستان، وإثيوبيا وإريتريا. وهذه هي الصراعات التي يميل المؤرخون والمحللون العسكريون، عند سؤالهم عن التشابه مع الحرب الروسية في أوكرانيا، إلى الاستشهاد بها.
لكن بعض الاتجاهات التي ظهرت عبر هذه المجموعة الفرعية من الصراعات، بما في ذلك في أوكرانيا، قد تساعد في تسليط الضوء على دوافع القتال من أسبوع لآخر، وما الذي يميل إلى تحديد النصر، أو الفشل، وكيف تنتهي هذه الحروب عادة، أو لا تنتهي.
بدأت مثل هذه الحروب بسبب النزاعات الإقليمية الأساسية التي تعود إلى تأسيس الدول المتحاربة، وبالتالي فهي مدمجة في مفهوم كلا الجانبين للهويات الوطنية. وهذا يجعل حل النزاع الأساسي أمراً صعباً، لدرجة أن القتال يتكرر مراراً على مدى عقود عدة.
وغالباً ما تحولت تلك الحروب إلى الاستنزاف الصناعي، حيث يجهد كل جانب للحفاظ على تدفق العتاد، مثل الدبابات والذخائر المضادة للطائرات التي تبقي جيوشه في القتال.
وفي أوكرانيا، تشهد المعارك ضربات موجعة جداً، الهدف منها تحقيق نقلة نوعية في أداء العسكر تثني الطرف الآخر عن عزيمة الاستمرار في الحرب. وكانت الضربة على مجمع سكني في وسط مدينة دنيبرو، مثلا من أعنف الضربات بالنسبة للمدنيين البعيدين عن خط المواجهة، منذ بدء الحرب. وأثار الهجوم دعوات متجددة لتوجيه اتهامات لموسكو بارتكاب جرائم حرب.
وعلى صعيد تأكيد عزيمة المجابهة، أشارت بريطانيا إلى أنها ستمنح الدبابات القتالية للقوات الأوكرانية للمساعدة في إعدادها لهجمات روسية متوقعة هذا الربيع، إضافة إلى القائمة المتزايدة للأسلحة الغربية القوية التي يتم إرسالها حسب الطلب الأوكراني، والتي كان يُنظر إليها في السابق على أنها استفزازية للغاية.
وفي سوليدار خاض الجيش الروسي ومجموعة فاغنر، معارك شرسة، في محاولة للاستيلاء على المدينة الشرقية. وبينما رفض الجيش الأوكراني مزاعم روسيا بالنصر، تضع الأخبار غير الموثوقة الجمهور في حالة شك مريب.
وبينما انحصرت الكثير من الحروب التقليدية في الاستنزاف الذي منح الفوز للجانب الأكثر قدرة على إعادة التشكيل بمرور الوقت، والحفاظ على قدراته لإطالة أمد الحرب، لا يبدو أن مثل هذا العنصر قابل للتطبيق في ظل تدفق الإمدادات الغربية.
وقد عزا أليك كوفمان، مدير الدراسات الروسية في معهد أبحاث «سي إن إيه» في أرلينغتون بولاية فيرجينيا، التقلبات التي تشهدها خطط الحرب والتغيير في جنرالاتها، إلى أن الاستنزاف سيكون الاستراتيجية بعيدة المدى لكل الأطراف.
إلا أن فرصة كل جانب للاستيلاء على الأراضي والاحتفاظ بها تبقى رهناً بقدرته على استخدام الدبابات والمركبات الثقيلة الأخرى، بشكل أكثر موثوقية من خصمه. ولأن القوة الجوية فعالة في تدمير مثل هذه المركبات، فإن فرص سيطرة كل جانب على الأرض يتم تحديدها جزئياً من خلال التحكم في الأجواء.
وهنا أيضاً، ترتبط مسألة التحكم في الأجواء بفرص أوكرانيا حيازة ما يكفي من الأسلحة المضادة للطائرات، لمواكبة قدرة روسيا على استخدام الطائرات الميدانية. وهذه مسألة استنزاف أيضاً، على الرغم من كونها اقتصادية ودبلوماسية، بقدر ما هي عسكرية.
وهذا يساعد في تفسير سبب تركيز أوكرانيا كثيراً على كسب المساعدات العسكرية الغربية. ولماذا ركزت الحكومات الغربية، بشدة، على تقييد الاقتصاد الروسي. ولماذا شنت القوات الروسية العديد من الضربات على المدن الأوكرانية، الأمر الذي أدى إلى تدهور الصناعة الأوكرانية، وتعطيل شبكتها الكهربائية، فضلاً عن إجبار أوكرانيا على نقل بعض الدفاعات الجوية من الخطوط الأمامية إلى مدن بعيدة عن ساحة المعركة.
يبدو أن حرب روسيا وأوكرانيا تتشابه مع الأنماط القديمة من الصراع، ولا ترسم اتجاهات جديدة في الحرب، كما كان متوقعاً على نطاق واسع، وقد تقدم دروساً أوسع للعالم. وهذا مفاده أن الأسلحة الاستراتيجية لم تحل محل الجيوش، ولن تحل محلها. ويمكن للقوات التقليدية وحدها الاستيلاء على الأراضي والاحتفاظ بها، ما يجعلها الوحدة المركزية للحرب. أما التكنولوجيا الأحدث، مثل الطائرات من دون طيار، أو الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، فلم تغير تلك الديناميكية.والخلاصة، أنه يمكن للأسلحة التي تحركها العقيدة العسكرية والجنرالات شن الحرب وتصعيد القتال، وأن تساعد في وقف إطلاق النار، لكنها لا تستطيع أن تخلق سلاماً راسخاً طويل الأمد.