أصبحت الأحزاب الأوروبية الرئيسية منفصلة عن المجتمع لدرجة أنها لم تعد قادرة على المحافظة على الديمقراطية في شكلها الراهن. هل ولىّ عصر الديمقراطية الحزبية، كما يقول بيتر ماير؟ يتتبع هذا الكتاب صعود اللامبالاة السياسية، وانخفاض الإقبال على الانتخابات، وزيادة التقلبات الانتخابية على مستوى العالم.
في هذه النسخة المحدّثة من كتاب «حكم الفراغ: تجويف الديمقراطية الغربية» (2023)، تزداد ضبابية المشهد السياسي الديمقراطي في العالم، والعالم الغربي ضمنه. يلاحظ فيه الكاتب بصراحة أن اتساع الفجوة بين المواطنين وقادتهم السياسيين، يثير أزمة شرعية للطبقات الحاكمة، ويؤجج التعبئة الشعبوية ضدها. لقد أعادت النخب السياسية في أوروبا تشكيل نفسها كطبقة مهنية متجانسة، وانسحبت إلى مؤسسات الدولة التي توفر استقراراً نسبياً في عالم من الناخبين المتقلبين. لكن في غضون ذلك، انتشرت الوكالات والممارسات غير الديمقراطية، ليس أقلها الاتحاد الأوروبي نفسه. يعاين ماير تأثير هذه التغييرات، ويقدم تقييماً موثوقاً لآفاق التمثيل السياسي الشعبي اليوم، ليس فقط في الديمقراطيات المتنوعة لبريطانيا والاتحاد الأوروبي ولكن في جميع أنحاء العالم المتقدم.
صعود اللامبالاة السياسية
تتزامن العقود التي ربطها ماير بانحدار «ديمقراطية الحزب» وأزمتها في نهاية المطاف مع سلسلة من فضائح الفساد التي لا تنتهي تقريباً – من التمويل غير المشروع للاتحاد الديمقراطي المسيحي الألماني، والذي أضر بشدة بسمعة هلموت كول، إلى الحياة السياسية القصيرة التي عاشها السياسي النمساوي المستشار السابق سيباستيان كورتس؛ كجزء من إعادة ابتكاره لحزب الشعب اليميني، تعرض كورتس لاتهامات باستخدام المال العام، لدعم نشر استطلاعات الرأي المؤيدة لحزبه، ومن المرجح لمساعدته في الانتخابات وغيرها من القضايا.
يتتبع كتاب ماير صعود اللامبالاة السياسية: انخفاض الإقبال على الانتخابات، وزيادة التقلبات الانتخابية؛ حيث لم يعد الناخبون يشعرون بأي ولاء تجاه حزب معين، وانخفاض عدد الأعضاء. بدأ الكاتب هذا العمل قبل الاحتجاجات الجماهيرية في بويرتا ديل سول في مدريد في عام 2011، وقبل استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في يونيو/ حزيران 2016 والتداعيات البرلمانية الدراماتيكية، وقبل انتخاب دونالد ترامب وهاشتاج «أنا أيضاً» و«حياة السود مهمة»، والكوربنية العابرة للحدود. ففي حين يوثق ماير حقبة من عدم التسييس المتزايد، إلا أن أشكاليات سياسية جديدة ظهرت، من بيرني ساندرز وألكساندريا أوكاسيو-كورتيز في الولايات المتحدة إلى تأليه اليمين المتطرف، والهوية القومية في خطاب الفرنسي إريك زمور. يوثق كتاب ماير السياسة في عصر تناظري إلى حد كبير. على الرغم من أن التسعينات قد تبدو رائعة الآن، فإنها كانت عقداً تقريباً من دون هواتف محمولة. جاء الارتباط المألوف الآن لجميع العلل السياسية مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي في نهاية الفترة التي كان ماير يوثقها.
ابتعاد الأحزاب عن الجماهير
يبدأ الكتاب بمقدمة جديدة للبروفيسور كريستوفر بيكرتون، وهو محاضر في السياسة بقسم السياسة والدراسات الدولية، جامعة كامبريدج، وزميل في السياسة في كلية كوينز، كامبريدج. سبق له التدريس في جامعات أخرى مثل أكسفورد، وأمستردام وغيرهما، ونركز عليها لأنها تواكب المستجدات الراهنة في عالم السياسة. يشير بيكرتون إلى أن جوزيه ساراماغو في روايته لعام 2004 بعنوان «رؤية» يروي قصة مدينة معزولة عن بقية البلاد تحاصرها قوات حكومية، وهي هدف للاغتيالات وحملات إعلامية شرسة. تركت الحكومة المدينة لمصيرها، وأقامت نفسها في عاصمة جديدة على مسافة آمنة من «المخربين» و«الإرهابيين». ما الفعل الفظيع الذي قام به سكان المدينة ليستحقوا مثل هذا الرد؟ الأغلبية العظمى منهم – نحو 80 في المئة – أفسدوا أوراق اقتراعهم خلال انتخابات وطنية. يحرص ساراماغو على الإشارة إلى أن هذا كان جرم المواطنين الوحيد. لم يكن هناك عنف ولا حملة منظمة ضد الحكومة ولا محاولة للاستيلاء على السلطة. كانت الانتفاضة الجماهيرية غير منسقة وبلا قيادة. يدور كتاب ساراماغو حول تداعيات التراجع الكبير عن الاهتمام برأي المواطنين في دولة ديمقراطية.
يتلاقى الكتاب في العديد من الخيوط مع رواية ساراماغو. فالديمقراطية في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين شهدت انسحاباً مطولاً من جانب المواطنين في الحياة السياسية. مثلما تتسلل «حكومة ساراماغو» خارج العاصمة في حلكة الظلام، على أمل ألا يلاحظهم أحد وهم يغادرون، يجادل ماير بأن سحب الموافقة من المواطنين ينعكس في تصرفات الطبقة السياسية نفسها. على الرغم من أن هذا السلوك بعيد تماماً عن الأعمال الثورية الحاصلة في القرون السابقة، فإن سحب الموافقة هذا يزعزع استقرار الأنظمة الديمقراطية بدرجة كبيرة، وهو في الواقع أكثر خطورة بكثير من أي معارضة شديدة بين الأيديولوجيات المتنافسة أو البرامج السياسية. كما يلاحظ سياسيو ساراماغو المحاصرون عند قولهم: «كل ما أحتاج إليه هو أن يكون العدو في عيني.. لكن هذه هي المشكلة تحديداً، فنحن لا نعرف مكان العدو، ولا نعرف حتى من هو».
يحلل الكتاب في هذه النسخة الجديدة والمحدّثة الصادرة عن دار فيرسو للنشر، كيفية تنظيم الأنظمة الحزبية تقليدياً محور المنافسة بين اليسار واليمين، وكيف أنه في أوائل التسعينات، بدأ شيء ما يتغير ببطء ولكن بثبات، حينما أصبحت الصراعات الأيديولوجية المألوفة تفقد قوتها، وأصبحت لغة عقيمة. بعد أن تخلت الأحزاب عن برامجها الأيديولوجية، أصبحت الآن تشبه بعضها أكثر. بالنسبة لماير، لم يكن هذا التقارب مجرد نتاج للضغوط العالمية مثل صعود الليبرالية الجديدة، أو القوة المتزايدة للأنظمة الدولية والمنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي؛ بل كان نتاج تغييرات داخل الأحزاب نفسها. أصبح الجميع ينظر إلى السياسيين بمزيج من الشك والازدراء. سادت مشاعر مماثلة بين الطبقات الحاكمة: بدا الناخبون ككتلة جامحة وصادقة، لا يمكن التحكم فيها إلا من خلال مجموعات التركيز والزيارات المنتظمة لمراكز المدن والمجمعات السكنية؛ حيث تمت المحافظة على التفاعل بين المحافظين والمحكومين.
أزمات حزبية في أوروبا
استمر بعض مراقبي السياسة في استخدام الخريطة القديمة لسياسات اليسار واليمين، للالتفاف حول هذه الحقائق الجديدة. أعلن آخرون أن الديمقراطية نفسها على فراش الموت. لكن يتبع ماير في هذا العمل طريقاً مختلفاً؛ إذ يبين كيف كان الفراغ يعيد تشكيل الحياة السياسية، ويخلق أنواعاً جديدة من الأحزاب السياسية المخففة وأنواعاً جديدة من السياسيين. لقد ولّد أيضاً أسلوباً مختلفاً من السياسة، فظاً ومملوءاً بالشتائم. كان التحول المؤسسي للأحزاب السياسية بعيد المدى. تاريخياً، كانت الأحزاب السياسية الحديثة نتاج اتجاهين. كان أحدهما قرار الحركة العمالية المنظمة – بعد الكثير من عدم اليقين والمداولات الداخلية – بتبني الأشكال الناشئة من البرلمانية. شهد هذا إنشاء منظمات سياسية مكلفة بتمثيل مصالح العمل في عصر الحكومة التمثيلية، من الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني (نحو 1863) والحزب الاشتراكي الديمقراطي السويدي (1889) إلى حزب العمال البريطاني (1900). وكان الاتجاه الآخر هو استجابة المجموعات البرلمانية القائمة لتوسيع الامتياز. وإدراكاً منها أن ظهور السياسة الجماهيرية يعرضها للتحديات وأيضاً يوفر العديد من الفرص، بدأت الفصائل المحافظة داخل الهيئات التشريعية في تنظيم نفسها على المستوى المحلي. وأدى هذا إلى ولادة ما يعتقد أنه النموذج الكلاسيكي للحزب، بشرائحه التنظيمية المختلفة: على الأرض، في المكتب المركزي، وفي البرلمان. لقد حولت الصراعات الاجتماعية – الصراعات بين العمل ورأس المال، والصراعات الدينية الطائفية، والتوترات بين المدينة والريف – إلى برنامج سياسي للحكومة. وهكذا جسد الحزب الانصهار بين المجتمع والسياسة الذي يميز السياسات الجماهيرية في القرن العشرين.
الأحزاب بالنسبة لبيتر ماير هي وحش مختلف تماماً، وتشكل منابر للقادة الباحثين عن مناصب، فقد دفعت بثبات نشطاء الحزب ومسؤوليه جانباً. ينمي الوافدون الجدد إلى المشهد السياسي علاقات مباشرة مع الناخبين في محاولة للتحايل على الطبقات الوسيطة العقيمة للحزب التقليدي. بدلاً من تجميع الانقسامات المجتمعية في برنامج يمكن تحديده عبر الآليات التداولية لمؤتمر أو مؤتمر حزبي وطني، توظف الأحزاب السياسية اليوم خبراء خارجيين ومستشاري استطلاعات الرأي لإخبارهم بما يفكر فيه «الناس» وما القضايا التي يجب عليهم القيام بإطلاق حملات بشأنها. في عام 2007، كلف ساركوزي شركة بوسطن للاستشارات بصياغة البيان الانتخابي لحزبه اليميني الوسطي. كما دفع لنفس المستشارين لتعليم نوابه الديغوليين كيفية تصدير رسالتهم للجمهور.
مقاومة التجويف الديمقراطي
يذكر ماير في الكتاب عبارة «انتهى عصر ديمقراطية الحزب». ربما تكون أزمة الديمقراطية الحزبية هي التي انتهت الآن. تشير الدلائل إلى أن السياسات أصبحت أكثر انقساماً، من الأعداد الكبيرة من الناخبين الجمهوريين الذين يشككون في شرعية الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020 إلى ظهور الأحزاب الشعبوية اليمينية المتطرفة في البلدان التي كانت معزولة حتى الآن عن هذا النوع من السياسة، مثل إسبانيا وإستونيا. لكن ماذا نعني حقاً بالاستقطاب السياسي؟
في بعض الأماكن، بدأ الاستقطاب الأيديولوجي الراسخ حقاً في إعادة تشكيل المجتمع والسياسة. فتجربة تشيلي في مراجعة الدستور هي مثال على ذلك. بعد ثورة اجتماعية واسعة النطاق ومستمرة في عام 2019، تمت صياغة تسوية دستورية جديدة في محاولة لتأمين السياسات الاجتماعية الديمقراطية والرعاية الصحية العامة والتعليم، تم تضمين صناعة التعدين المؤممة والعديد من الإصلاحات الأخرى، لكن الدستور الجديد لقي رفضاً بأغلبية ساحقة في استفتاء في أوائل خريف عام 2022. فبعد ثلاثين عاماً من انتقال البلاد إلى الديمقراطية، يترجم منح حق التصويت السياسي ببطء إلى تغيير اجتماعي كبير ولكن على حساب الاستقطاب الهائل والتضارب.
في أوروبا الغربية، التي يركز عليها ماير، يحدث شيء مختلف نوعاً ما؛ إذ تجري تغيرات في مستويات المشاركة والتعبئة السياسية. لكن السياسات المثيرة للجدل والتي يقودها المواطنون في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، من إسبانيا إلى جميع أنحاء إيطاليا، ضد الأحزاب السائدة، بسبب الأزمة الاقتصادية التي أعقبت عام 2008 والتعبير عن شعور طويل الأمد بالحرمان السياسي، تؤكد أن هذه الحركات تكبر عندما تتحول لديها اللامبالاة إلى غضب. ولكن في ظل ظروف الفصل الصارخ بين السياسة والمجتمع تمثلت ظاهرة أكثر تعقيداً في عودة الأيديولوجيات التقليدية للأحزاب السياسية التي حاولت نقل هذه الأفكار إلى التاريخ. يعد حزب العمال البريطاني في السنوات التي تلت محاولة جيريمي كوربين الناجحة ليصبح زعيماً في عام 2015 واحدة من أكثر الحالات إثارة للاهتمام. كان حزب العمال «الجديد» مصدر إلهام رئيسي لكتابات بيتر ماير، فبالنسبة له تعني عودة الراديكالية الأيديولوجية للحزب تحركاً يتجاوز سياسات الفراغ. أعادت الكوربنية الحماس الأيديولوجي مرة أخرى في الجثة المنكمشة للحزب ما بعد بلير. تمكن حزب العمال بقيادة كوربين من تجريد تيريزا ماي من أغلبيتها في انتخابات 2017 العامة. وبعد ذلك بعامين، في «انتخابات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي» 2019، كانت الآمال كبيرة. عبّرت بعض الشخصيات المشاركة في حركة ساندرز في الولايات المتحدة، عن رغبتها في أن تشهد «الطريق البريطاني إلى الاشتراكية». في هذا الحدث، خسر كوربن بشكل كبير. حصل المحافظون، بقيادة بوريس جونسون، على أغلبية ساحقة، وفازوا بمقاعد البرلمان.
الدرس المستفاد هنا هو أن الفراغ الذي يناقشه بيتر ماير لا يمكن التغلب عليه ببساطة من خلال الاستيلاء على حزب قائم وتغيير برنامجه ومواقفه. كانت الكوربنية بمثابة إحياء للسياسة الأيديولوجية ضمن فراغ اجتماعي. كان الدعم الأساسي لحزب العمال في عام 2017 ومرة أخرى في عام 2019 في لندن ومراكز حضرية أخرى في جميع أنحاء المملكة المتحدة – في ميدلاندز وفي مانشستر الكبرى وميرسيسايد. في أماكن أخرى، تجمع ناخبوها في مدن جامعية مزدهرة ومعاقل تقدمية مثل برايتون. بعيداً عن هذه الفقاعة الاجتماعية، لم يكن لدى الكوربنية سوى القليل. «حكم الفراغ» قصة تفكك وتحلّل السياسة والمجتمع، ولا يمكن أن يأتي قلب هذا الاتجاه من التغييرات التي تحدث داخل الأحزاب والسياسية فقط، ولا يمكن ملء الفراغ بتغييرات مجتمعية لا تمس جوهر سياستنا. تستجدي الحاجة إلى قراءة هذا الكتاب أكثر من أي وقت مضى، خاصة مع استمرار المواطنين والسياسيين في مواجهة بعضهم في علاقة تتميز بمزيج غريب من العداء واللامبالاة.