بعدما غصت مستشفياتها وبراداتها بقتلى الزلزال المدمر، حوّل ابن مدينة جبلة المنكوبة في محافظة اللاذقية غرب سوريا محمّد الداية أرضه إلى مقبرة لدفن الضحايا، فيما تتراجع شيئاً فشيئاً فرص العثور على ناجين.
ويقول الداية (47 عاماً)، فيما تتوالى الجثامين إلى أرض كان يزرعها بالطماطم والفلفل وينوي بيعها لاحقاً، «لم أكن أتوقع أن يأتي يوم تتحول فيه هذه الأرض إلى مقبرة، لكن الظروف الحالية أكبر منا». يجلس الداية على حجر في أرضه بوسط المدينة، عيناه متورمتان من شدة البكاء، ينظر إلى رجال يحفرون في الأرض، فيما يضع آخرون الشواهد الخشبية فوق القبور ويكتبون فوقها بخط اليد أسماء الضحايا. ويتابع «إذا احتاج الأمر سوف نستغني عن أرض أخرى»، مضيفاً «لم نستطع أن نساعد الأحياء، فعلينا أن نكرم الأموات». فقد الداية الكثير من معارفه في المدينة، ويقول «كل هؤلاء الناس يعتبرون أهلي».
مفتتة مثل البسكويت
بشارع الريحاوي في جبلة، يسابق عمال الإغاثة من السوريين واللبنانيين الذين أتوا لمد يد العون، الوقت لانتشال عالقين تحت مبنى سقط بالكامل في زاوية ضيقة تصعب عمليات البحث فيها. ويقول أحد المتطوعين في الدفاع الوطني اللبناني علي صفي الدين «المبنى سقط وكأنه تفتت مثل البسكويت». ويضيف «نصرخ لنتأكد ما إذا كان أحد لا يزال على قيد الحياة» لكن لا صوت يأتي من تحت الحجارة المتراكمة فوق بعضها بعضاً.
منذ بدء عمليات البحث قبل خمسة أيام، انتشل تسعة أحياء فقط من تحت المبنى وأكثر من 20 جثة، ولا يزال هناك أكثر من 15 عالقين تحت الأنقاض، بحسب ما أبلغ سكان الحي فرق الإغاثة.
ويقول المسؤول في الدفاع المدني السوري جلال داوود «نعمل ليلاً ونهاراً من دون توقف حتى ولو دقيقة.. لم نتحرك من الموقع». ويضيف «إنها الساعات الأخيرة، نعمل بسرعة… نحاول أن نلحق الأحياء في الرمق الأخير». وعلى مدار الساعة، لم تتوقف الآليات والمطارق عن العمل، حتى أن بعض المتطوعين والسكان يحفرون بأيديهم أو بأواني المطبخ. على أطراف المبنى، يتجمع أقارب المفقودين تحت الأنقاض، يصلون ويدعون لحصول معجزة ويخرج أحد العالقين على قيد الحياة. ويقول داوود «يريدون أن يتعرفوا إلى أقاربهم فور إخراجهم، سواء كانوا أحياءً أو أمواتاً».
وحين أخرجت فرق الإغاثة شخصاً من تحت الأنقاض، ركض الأهالي نحوه ليجدوه جثة هامدة، ليتعالى الصراخ والبكاء. يحاول آخرون تهدئة الأهالي المرعوبين، يقدمون لهم الطعام والشاي الساخن، لكنَّ أحداً لا يقوى على تناول الطعام.
دفعة واحدة
وانتهت عمليات رفع الأنقاض في حوالي 60 موقعاً فقط بمحافظة اللاذقية، بحسب مسؤول محلي. وخلال زيارة إلى اللاذقية، قال المسؤول في منظمة الصحة العالمية ريتشارد برينان في تصريح مصور نشره على تويتر «الدمار والخراب هائلان. مبان انهارت، ولدى أولئك الذين بداخلها فرصة ضئيلة للغاية للبقاء على قيد الحياة». وفي جبلة، تنهمك فرق إغاثة روسية، يرافقها جنود بلباسهم العسكري، في البحث بين أنقاض أحد المباني. وعلى غرار كافة المناطق المنكوبة، تعج مدينة جبلة بأصوات الجرافات والآليات فوق المباني المهدمة، فيما بدت تشققات واضحة في جدران مبان أخرى أخلاها سكانها خشية هزات ارتدادية.
في أحد الأحياء، تجمع سكان لحراسة المباني المهجورة وممتلكات قاطنيها، فيما انهمك آخرون في نقل الخبز من أحد الأفران إلى مراكز الإيواء. وعلى أبواب المحال المغلقة، علقت أوراق نعي لقتلى الزلزال. قرب أحد الأبنية المدمرة، ينتظر آدم شعبو إخراج آخر أفراد عائلته من تحت الركام. ويقول «خرج الأب والأم والأخت وكلهم أموات، ننتظر خروج الابن جود». يستعيد آدم صور جثث أقاربه يغطيها التراب والدماء، ويقول بحرقة «لا أستطيع أن أنسى وجوههم». ويضيف آدم «اعتقدنا أننا ودعنا الجنازات الكبيرة مع هدوء المعارك، لكن الموت أتى إلى جبلة مجدداً ودفعة واحدة».(وكالات)