- الحرب الروسية الأوكرانية بددت جهود 8 عقود لحل القضية محل النزاع
- موسكو تخشى نشر قواعد عسكرية أمريكية في الجزر حال إعادتها إلى اليابان
- روسيا ترى «جزر الكوريل» حائط صد «جيو- استراتيجي» ضد الصواريخ الأمريكية
- فرض اليابان عقوبات على روسيا دفع موسكو لتجميد المحادثات حول الجزر
د. أيمن سمير
أعادت الحرب الروسية الأوكرانية قراءة الحسابات حول القضايا الجيوسياسية العالقة والخلافات القديمة بين روسيا من جانب، والولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين والآسيويين من جانب آخر، ومن تلك الصراعات ما يتعلق ب «جزر الكوريل» أو «الجزر الشمالية» التي منحها الحلفاء ك «مكافأة» للاتحاد السوفييتي السابق على مشاركته في الحرب العالمية الثانية.
ورغم محاولات التقريب بين وجهات نظر طوكيو وموسكو حول «جزر الكوريل» في عهد رئيس الوزراء الأسبق شينزو أبي، إلا أن الحرب الروسية الأوكرانية أطاحت بهذه الجهود التي كانت تهدف إلى إنهاء «حالة الحرب» بين البلدين بعد إعلان اليابان «الانحياز الكامل» و«غير المشروط» لأوكرانيا، وفرضها الكثير من العقوبات على شخصيات وكيانات روسية، وهو ما ردت عليه موسكو بالانسحاب من المحادثات السنوية التي تجريها مع اليابان بشأن عدد من القضايا الخاصة ب «جرز الكوريل»، منها على سبيل المثال تجديد اتفاق يتيح للصيادين اليابانيين العمل بالقرب من الجزر المتنازع عليها، والسماح للعائلات اليابانية بزيارة مناطق أجدادهم في الجزر
رغم أن الخلاف بين اليابان وروسيا حول «جزر الكوريل» التي يطلق عليها اليابانيون «الأراضي الشمالية» يزيد على 77 عاماً إلا أن اليابان لا تزال ترفض أي تغيير في الوضع الاقتصادي أو العسكري للجزر التي تمتد بطول 1200 كلم من جزيرة هوكايدو اليابانية حتى شبه جزيرة كامتشاتكا الروسية في المحيط الهادئ، وآخر مظاهر الرفض الياباني لأي تحركات روسية على الجزر التي تبلغ مساحتها نحو 15.5 ألف كلم، ويسكنها ما يزيد على 20 ألف نسمة، تجلى في اعتراض اليابان على زيارة رئيس الوزراء الروسي ميخائيل مشوستين إلى جزيرة إيتوروب إحدى جزر الكوريل والتي استمرت 4 ساعات فقط بغرض افتتاح مشروعات اقتصادية تمهيداً لإنشاء منطقة تجارة حرة، كما أن اليابان سجلت اعتراضها لدى موسكو بسبب إجراء القوات الروسية مناورات عسكرية «بالذخيرة الحية» على جزر الكوريل شارك فيها نحو 3000 جندي، فما هي أبعاد هذه القضية الشائكة على العلاقة بين روسيا واليابان؟ وهل هناك فرص للحل في ظل الحشد العسكري غير المسبوق من الجانبين قرب هذه الجزر؟
غنائم حرب
رغم أن الخلاف حول جزر الكوريل قديم إلا أن الخلافات المعاصرة بين البلدين تعود إلى الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية عندما نزل الجنود السوفييت على هذه الجزر في أغسطس 1945، أي قبل نحو خمسة أيام فقط من توقيع ممثلي اليابان على إعلان الاستسلام من على متن المدمرة الأمريكية «يو إس إس ميسوري» حيث منح الحلفاء «جزر الكوريل» للاتحاد السوفييتي كمكافأة له على دخوله الحرب العالمية الثانية ضد اليابان و دول المحور في آسيا، وجزر الكوريل الأربع التي تقع على بعد 7000 كلم شرق العاصمة الروسية موسكو هي هابوماي وشيكوتان وكوناشير وإيتوروب، ولا يزال الخطاب الرسمي الياباني يطالب بعودتها بالكامل إلى «السيادة اليابانية»، حيث تقول طوكيو إن الجزر تعود إليها وفق اتفاق التجارة الثنائية المبرم مع روسيا القيصرية بشأن الحدود عام 1875،وخلال قرن ونصف قرن دخل الصراع بين البلدين حول جزر الكوريل بمجموعة من المنعطفات أبرزها «معاهدة شيمودا» في منتصف القرن التاسع عشر التي أعطت جزر الكوريل الجنوبية لليابان وجزر الكوريل الشمالية لروسيا القيصرية، وأبقت جزيرة سخالين تحت إدارة مشتركة، وفي عام 1875 تم توقيع معاهدة «سان بطرسبرج» التي قبلت فيها روسيا التنازل لليابان عن كل جزر الكوريل مقابل أن تحصل على حق السيادة على جزيرة سخالين فقط، وخلال الحرب الروسية اليابانية التي انتهت بهزيمة روسيا عام 2005 سمحت بسيطرة اليابان على جزر الكوريل وجنوب سخالين، لكن هذه الأراضي عادت إلى الاتحاد السوفييتي في عام 1945بموجب اتفاقيات «مؤتمر يالطا»، وفي عام 1951وقعت اليابان المهزومة مع الحلفاء المنتصرين معاهدة «سان فرانسيسكو» للسلام التي تخلت بموجبها عن السيادة على جزر الكوريل، لكن التطور الأهم جاء في عام 1956 عندما صدر الإعلان المشترك من الحكومتين حول إعادة العلاقات الدبلوماسية، كما أعلنت موسكو موافقتها على إعادة جزيرتين من الجزر الأربع التي تطالب بها اليابان وهما هابوماي وشيكوتان.
سلسلة من العقبات
حاول رئيس الوزراء الياباني الأسبق شينزو أبي الوصول إلى حل وسط مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن حول قضية «جزر الكوريل»، وكتب في مذكراته التي صدرت هذا الأسبوع: «مقترحات معاهدة السلام بين موسكو وطوكيو عام 2018، التي جاءت على أساس الإعلان السوفييتي الياباني المشترك في 19 من أكتوبر 1956، لا تعتبر تنازلاً من قبل طوكيو، لأن الاتحاد السوفييتي حينها، تعهد بإعادة جزيرة شيكوتان والعديد من الجزر غير المأهولة المجاورة لسلسلة جبال كوريل الصغرى إلى اليابان، حال إبرام معاهدة سلام نهائية بين البلدين، لكن المطالبة بإعادة جميع جزر الجزء الجنوبي من الكوريل، دفعة واحدة، غير منطقية، وتعني أن هذه الجزر لن تعود أبداً لليابان»
وارتكزت رؤية شينزو أبي للحل على الإعلان المشترك بين البلدين في 19 أكتوبر عام 1956، والذي يقول إن الاتحاد السوفييتي سوف ينظر في تسليم جزيرتي هابوماي وشيكوتان، إلى اليابان، مقابل اعتراف اليابان بأن جزيرتي كوناشير وإيتوروب أراض سوفييتية، بشرط أن تأتي تلك الخطوة بعد توقيع اليابان وروسيا على «اتفاقية سلام» تنهي حالة الحرب التي كانت بين البلدين عندما دخل الاتحاد السوفييتي الحرب ضد اليابان في 9 أغسطس 1945
وتسبب ترك شينزو أبي للحكومة بسبب المرض ثم اغتياله في تجميد تلك الجهود لحل قضية الجزر بين البلدين، إلى أن جاءت الحرب الروسية الأوكرانية التي دفعت البلدين في مسارين متناقضين تماماً، حيث تصطف اليابان بالكامل ضد روسيا التي بدأت في نشر أسلحة جديدة على «جزر الكوريل»، وهو ما شكل عقبات جديدة لمسار الحل، وتضاف تلك العقبات إلى سلسلة من الكوابح والتحديات التي تحول دون حل قضية جزر الكوريل ومنها:
1- تمرير الحزب الديمقراطي الياباني مشروع قانون «أرض الشمال» في البرلمان، والذي يرفض التنازل عن أي جزيرة، وهو عكس قناعة شينزو أبي التي قالها في مذكراته، وعلى الجانب الروسي أقر مجلس الدوما الروسي في عام 2020 تعديلات دستورية تمنع تسليم أي أراض روسية لأي دولة إلا في حالات ترسيم الحدود فقط، وهو ما يراه البعض عقبة جديدة أمام تسليم أي جزيرة لليابان، لكن الرئيس بوتين رد على تلك المخاوف، وقال قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية إن هذه التعديلات ليست عقبة أمام حل الخلافات الروسية اليابانية، وإنه سيواصل الحوار والتفاوض مع اليابان من أجل حل هذا الخلاف.
2- «رؤيتان متناقضتان».. حيث ترفض موسكو التصور الياباني القائم على أن اليابان سوف تواصل المفاوضات مع روسيا بشأن معاهدة السلام على أساس موقفها الأصلي المتمثل في ضرورة حل مشكلة الجزر أولاً، ثم إبرام معاهدة سلام بعد ذلك، بينما تقوم الرؤية الروسية على أن الحل يقوم على اعتراف اليابان أولاً بوحدة أراضي روسيا وسيادتها على جميع الأراضي بما فيها جزر الكوريل، وهو ما يعني اعتراف اليابان بنتائج الحرب العالمية الثانية، وبعد ذلك ستناقش كل الأمور الأخرى، وفق تصريحات الخارجية الروسية.
3- «تحول الموقف الأمريكي».. فرغم أن الولايات المتحدة وافقت خلال عام 1945 على منح جزر الكوريل للاتحاد السوفييتي إلا أن موقف واشنطن تغير منذ بدء الحرب الباردة، وترفض الولايات المتحدة الآن منح سكان جزر الكوريل الإقامة على الأراضي الأمريكية إلا بعد الإشارة إلى أن موطنهم الأصلي هو اليابان وليس روسيا، وهو ما دفع موسكو للسخرية من الأمر، والمطالبة باعتبار سكان ولاية ألاسكا – التي كانت تابعة لروسيا قبل أن تشتريها الولايات المتحدة عام1867 – باعتبارهم رعايا روس وليسوا أمريكيين.
4- زادت استراتيجية الأمن القومي اليابانية الجديدة من قلق روسيا، حيث أعلنت اليابان عملياً «التخلي عن دستورها السلمي السابق»، وسوف تنفق 320 مليار دولار على الشؤون العسكرية، وتشتري 500 صاروخ توماهوك من الولايات المتحدة، وهو ما يجعل الكرملين يفكر ألف مرة قبل العودة للمحادثات حول جزر الكوريل مع اليابان بحسب ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية.
5- تقول موسكو إن التحالف العسكري الياباني الأمريكي يشكل «عقبة كبيرة» أمام توقيع اتفاقية سلام شاملة مع اليابان، لأن الولايات المتحدة لا تخفي من خلال مناوراتها العسكرية في العالم والمحيط الهادئ استهدافها لروسيا، وتنظر لروسيا باعتبارها مصدر تهديد رئيسي لها، ولهذا تبني واشنطن تحالفاتها قي المحيطين الهندي والهادئ على أساس وجود التهديد الروسي، وكل هذا يتعارض مع إعلان عام 1956 الذي اشترط الاتحاد السوفييتي لتنفيذه ضرورة إنهاء الوجود العسكري الأمريكي على أراضي اليابان، كما تصل المخاوف الروسية إلى أن المظلة النووية الأمريكية التي تغطي اليابان منذ عام 1951 يمكن أن تشكل خطراً نووياً على روسيا.
6- إعلان الولايات المتحدة هذا الأسبوع أنها تفكر في إرسال صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى إلى قواعدها في اليابان، مما دفع موسكو للتعبير عن القلق من نشر قوات أمريكية أو قواعد عسكرية أو أنظمة صاروخية على جزر الكوريل فور تسليمها لليابان.
7- تنظر روسيا للتحالفات العسكرية الجديدة في منطقة «الإندو- باسيفك» مثل «أوكوس» و«وكواد الرباعي» و«كواد بلس»، «العيون الخمس»، باعتبارها موجهة ضد موسكو كما هي موجهة ضد بيجين، لذلك تخشى روسيا التخلي عن جزر الكوريل مما قد يؤدي إلى خسارتها «مواقع جيوسياسية متقدمة» في أقصى شرق الكرة الأرضية للدفاع عن أراضيها.
8- قيام روسيا بنشر أنظمة «صواريخ باستيون»، التي تضم صواريخ يصل مداها إلى 500 كيلومتر، على جزيرة باراموشير في الجزء الشمالي من جزر الكوريل، وهو محور خلاف جديد بين البابان وروسيا.
جزر الكوريل شبيهة بدونباس والقرم
تدافع الحكومة اليابانية عن موقفها من الحرب الروسية الأوكرانية، والاصطفاف الكامل مع الولايات المتحدة والغرب ضد روسيا بأن اعترافها بضم موسكو ل 5 مناطق هي لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزاباروجيا وشبه جزيرة القرم من أوكرانيا سوف يكون بمثابة خطوة سلبية ضد وحدة الأراضي اليابانية، ويمكن أن تستند إليها روسيا في رفض الانسحاب من الجزر الأربع التي سيطر عليها الاتحاد السوفييتي عام 1945، ولهذا تلعب اليابان دور «رأس الحربة» في المعادلة المناوئة لروسيا في المحيط الهادئ اعتماداً على أن هزيمة روسيا أو حتى إضعافها في الحرب الأوكرانية قد يساعد طوكيو على استعادة «جزر الكوريل».
المؤكد أن قضية جزر الكوريل سوف تظل «العنوان العريض» للخلاف الياباني الروسي، لكن إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، والعودة لخريطة الطريق التي وضعها رئيس الوزراء الأسبق شينزو أبي مع الرئيس بوتن عام 2018 في سنغافورة يمكن أن يساهما في حل تلك القضية التي تختلف توقعات اليابانيين أنفسهم حول عودة تلك الجزر إلى بلادهم، فالبعض منهم يؤمن بالمثل الياباني القائل «أن الماء المسكوب لا يعود إلى القارورة»، لكن هناك فريق ثان يتمسك بالمثل الياباني الآخر الذي يقول «كل شيء يأتي للذين ينتظرون».