د. أيمن سمير
يقول المثل الأمريكي الشهير «غير المتوقع يأتي دائماً»، فلم يتوقع أحد أن تعلق روسيا العمل باتفاقية «نيوستارت» لأنها الاتفاقية النووية الوحيدة التي تم التوافق حولها بين واشنطن وموسكو، وتم تجديدها بالفعل في 5 فبراير/ شباط 2021 لمدة 5 سنوات، أي بعد أيام قليلة من دخول الرئيس جو بايدن للبيت الأبيض في 20 يناير/ كانون الثاني 2021.
كما لم يتوقع أحد الانسحاب من «نيوستارت» بعد أن انسحبت الولايات المتحدة في 2 فبراير 2019، وتلاها انسحاب روسيا في أغسطس/ آب، في العام نفسه من «اتفاقية منع انتشار الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى» التي تحمل رؤوساً نووية في أوروبا، ويطلق عليها «اتفاقية INF»، وهي الاتفاقية التي ظلت صامدة منذ توقيعها في 8 ديسمبر/ كانون الأول عام 1987 بين الرئيس الأمريكي، رونالد ريغان، والزعيم السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، وكانت ذريعة الولايات المتحدة في الانسحاب من هذه الاتفاقية أن روسيا انتهت هذه الاتفاقية من خلال إنتاج صاروخ من طراز «نوفاتور 9 إم 729» والمعروف لدى الحلف الأطلسي باسم صواريخ «SSC8»
كما انسحبت الولايات المتحدة من اتفاقية «السماوات المفتوحة» في 28 فبراير/ شباط 2021، وهي الاتفاقية التي تضم 30 دولة، وكانت تسمح لواشنطن وموسكو بإرسال طائرات غير مسلحة لمراقبة الحد من التسلح لدى الطرف الآخر، فما هي اتفاقية «نيوستارت»؟ وأين وصل «الحشد النووي» بين الشرق والغرب؟ وإلى أي مدى تستعد روسيا ودول حلف شمال الأطلسي «الناتو»، لضربة نووية «استباقية» ضد الطرف الآخر؟
اكتسب الالتزام باتفاقية «نيوستارت»، التي وقع عليها الرئيس الروسي السابق، ديمتري ميديفيدف والرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوبامان في براغ عام 2010، ودخلت حيز النفاذ في فبراير/ شباط 2011، أهمية خاصة، لأنها كانت تغطي جانباً هاماً في سباق التسلح النووي، ففي حين كانت «اتفاقية INF» لتقييد التوسع في الصواريخ النووية قصيرة ومتوسطة المدى، جاءت اتفاقية «نيوستارت» لتقييد التوسع في الصواريخ الاستراتيجية وطويلة المدى وعابرة القارات، لأنها وضعت سقفاً لكل دولة لا يزيد على 1550 رأساً نووياً، منها 700 من الصواريخ بعيدة المدى التي يمكن إطلاقها من القواعد البرية، وباقي العدد في الغواصات، أو المحمّل على «القاذفات الاستراتيجية» على ظهر حاملات الطائرات، في البحار والمحيطات، وتسمح أيضاً لكل طرف ب 800 منصة إطلاق نووية بعيدة المدى، وكانت هذه الاتفاقية فعالة للغاية، لأنها تسمح ب18 زيارة سنوياً للتفتيش والمراقبة من جانب كل طرف على قدرات الطرف الآخر، بواقع زيارة كل 3 أسابيع فقط، ما شكّل «منهجاً صارماً» ضد أي رغبة للانفلات النووي في ظل امتلاك روسيا والولايات المتحدة وحدهما، نحو 90 % من الرؤوس النووية في العالم.
ووفق أرقام عام 2021 التي نشرها معهد السلام الدولي في ستوكهولهم، فإن العالم سوف يدخل في مرحلة جديدة من «سباق التسلح النووي» عبر زيادة وتطوير القنابل النووية في الفترة المقبلة، بسبب التوتر بين القوى النووية على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، وبلغ العدد الإجمالي للرؤوس الحربية النووية 12705 في يناير/ كانون الثاني 2022، ولدى روسيا أكبر مخزون من الأسلحة النووية في العالم بإجمالي 5977 رأساً نووياً، أي ما يزيد بنحو 550 على الولايات المتحدة، وجرى نشر نحو 3732 رأساً حربياً في إطار ما يسمى ب«المثلث النووي» أي الأدوات التي توصل الرؤوس النووية إلى أهدافها، وهي 3 أضلاع تبدأ «بالصواريخ النووية» من البر، ثم «الغواصات» في البحر، وأخيراً عبر «الطائرات والقاذفات الاستراتيجية من الجو»، مثل «قاذفات بي 52» الأمريكية.
حشد نوعي
كل أنواع الأسلحة النووية في أيام الحرب الباردة كانت «للردع والتخويف»، لكن تطوير القنابل النووية القديمة وإنتاج نسخ جديدة يطلق عليها «القنابل التكتيكية» يغري العالم لأول مرة باستخدام القنابل النووية «كسلاح عملياتي»، وليس «سلاح ردع»، لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية.
ورغم أن آثار استخدام القنابل النووية ضد هيروشيما في 6 أغسطس/ آب، ونغازاكي في 9 من الشهر نفسه، عام 1945 والتي قتل فيها نحو 140 ألف شخص، لا تزال باقية حتى اليوم في الأذهان، إلا أن العالم ينزلق نحو «حافة الهاوية النووية» من خلال عدد من الخطوات، أبرزها:
1- تجارب نووية جديدة، فقد أرفق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إعلانه الانسحاب من معاهدة «نيوستارت» بالكشف عن استعدادات أمريكية لإجراء تجارب نووية جديدة، مطالباً الخبراء في الجانب الروسي بالاستعداد للرد على هذه التجربة النووية الأمريكية الجديدة، بإجراء تجربة روسية مماثلة، وهذا يعني عودة العالم إلى «التجارب النووية» التي تراجعت واختفت منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في 25 ديسمبر/ كانون الأول 1991، وهو أمر يتنافى مع التزام العالم بعدم التوسع في إنتاج ونشر الأسلحة النووية
2- إعلان روسيا، وعلى لسان الرئيس بوتين في 21 فبراير الماضي، أن الأسلحة النووية الروسية بجميع أنواعها «المثلث النووي» باتت جاهزة للانطلاق بنسبة 91 %، ما يعني أن الصواريخ النووية والطائرات التي تحمل قنابل نووية، والغواصات في البحر باتت مستعدة لتوجيه ضربة نووية بنسبة 91 %، وسبق لروسيا أن قالت إن «عقيدتها النووية» تفرض عليها استخدام كل ما لديها من سلاح، بما فيه السلاح النووي لحماية كل الأراضي الروسية، بما فيها المناطق الخمس التي ضمتها روسيا لأراضيها، وهي شبه جزيرة القرم، وخيرسون، وزاباروجيا، ودونيستك، ولوجانسك، خاصة أن هناك قراراً منفصلاً من الكرملين قال فيه إن «المظلة النووية» الروسية تغطي تلك المقاطعات الخمس
3-محاكاة للقصف، فحتى أثناء الالتزام بالاتفاقيات المختلفة لوضع قيود على النشاط النووي لم يتوقف الطرفان، الأمريكي والروسي، عن الاستعداد لتوجيه «ضربة نووية إجهاضية» للطرف الآخر، وخير مثال على ذلك، ما جرى في شهر فبراير 2020، عندما حضر أعضاء من لجنتي المخابرات والقوات المسلحة في الكونغرس لتدريب عملي يهدف لتوجيه «ضربة نووية» لروسيا، وتم هذا التدريب في قاعدة «القيادة الاستراتيجية للجيش الأمريكي» في ولاية نبراسكا، كما أعلنت روسيا أكثر من مرة أن الولايات المتحدة تجري تدريبات مكثفة من أجل توجيه «ضربة نووية مزدوجة» على الجبهتين، الشرقية والغربية لروسيا، بشكل متزامن عبر تحميل القاذفات الأمريكية بالصواريخ النووية، بحسب ما قال وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني2021 عندما قال إن المناورات الأمريكية الأخيرة تضمنت تحميل 10 قاذفات أمريكية بالرؤوس النووية الموجهة لروسيا، وأن وتيرة هذه القاذفات وصلت إلى 30 طلعة، ما يؤشر زيادة مرتين ونصف المرة عن الشهر نفسه عام 2020 في عدد الطلعات قرب الحدود الروسية.
على الجانب الآخر، تشعر الولايات المتحدة ومنذ عهد الرئيس أوباما، بأنها متأخرة خلف روسيا في الأسلحة النووية، سواء ما يتعلق بالعدد الإجمالي، أو عدد القنابل النووية الجديدة، وعندما وصل الرئيس ترامب للحكم في يناير/ كانون الثاني 2017 اكتشف وجود تفوق روسي في «الأسلحة النووية التكتيكية»، وهي قنابل نووية صغيرة يمكن استخدامها لأهداف أصغر، وفي مساحة ضيقة، مثل مقدمة الجيوش، أو شارع، أو منشآت محصنة تحت الأرض.
4- الإنفاق غير المسبوق في سبيل تحسين وتطوير القنابل النووية «التكتيكية»، وهذا قائم لدى جميع دول «النادي النووي» التسع، وهي: «الولايات المتحدة – روسيا – الصين – بريطانيا – فرنسا – الهند – باكستان – كوريا الشمالية – إسرائيل»، وعلى سبيل المثال، خصص الرئيس ترامب في ميزانية 2020 أكثر من 100 مليار دولار لتطوير القنابل النووية الأمريكية
5- نشر القنابل النووية الجديدة «التكتيكية» قرب حدود الطرف الآخر، ومنها نشر 150 قنبلة نووية أمريكية من طراز «قنابل الجاذبية بي 61» في 5 دول أوروبية، وفق وثيقة كتبها البرلماني الكندي، جوزيف داي، ونشرها موقع اللجنة البرلمانية لحلف الناتو في إبريل/ نيسان 2019، تحت عنوان «عصر جديد للردع النووي»، والتي كشفت فيها تفاصيل ومواقع نشر هذه القنابل في 6 قواعد جوية في أوروبا وتركيا، هي: «بوتشيل» في ألمانيا، و«أفيانو، وجيدي توري» في إيطاليا، و«فولكل» في هولندا، و«أنجريليك» في تركيا، و«كلاين بروغل» في بلجيكا، كما نشرت واشنطن رؤوساً نووية جديدة «منخفضة القوة» في الغواصات الأمريكية التي تعمل في «المياه الباردة» قرب السواحل الروسية
6- بدأت الولايات المتحدة منذ 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 بتجهيز طائرات وقاذفات حلف الناتو ب 480 قنبلة نووية جديدة من طراز «بي 61 – 12»، وفق بيانات اتحاد العلماء الأمريكيين «FAS»، والذي أكد أن هذه القنابل الجديدة سوف يتم تحميلها خلال الفترة المقبلة على قاذفات الشبح الاستراتيجية من طراز «بي رايدر 21»، و«بي سبيرت 2»، وأن هذه القنابل جرى نشرها بالفعل في الولايات المتحدة في بداية 2022، وهو ما أكدته أيضاً «إدارة الأمن النووي الوطنية الأمريكية» المنوط بها الاهتمام بالترسانة النووية الأمريكية التي قالت إن «تطوير القنبلة النووية الأمريكية التكتيكية الجديدة اكتمل».
7- تأكيد الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، أنه سوف يطلب من روسيا نشر «أسلحة نووية» في بلاده إذا نفذ حلف شمال الأطلسي «الناتو» تهديداته بإرسال الأسلحة النووية إلى بولندا المجاورة لبيلاروسيا، بعد أن رفضت ألمانيا نشر أسلحة نووية إضافية على أراضيها، وسبق لبيلاروسيا أن أكدت جاهزيتها لتركيب «الأسلحة النووية» في أسرع وقت ممكن، نظراً لتوافر الخبرة في مجال الأسلحة النووية، بعد أن كشف الرئيس البيلاروسي، لأول مرة، بأن بلاده لم تدمر منصات إطلاق صواريخ «توبول» الإستراتيجية السوفييتية، والتي تم الاتفاق على التخلص منها عندما انضمت بيلاروسيا إلى «اتفاقية منع نشر الأسلحة النووية في أوروبا» عام 1993، وفق ما نص عليه برتوكول بودابست، حيث كانت بيلاروسيا وقتها تستضيف على أراضيها، إضافة لصواريخ توبول نحو 1000 رأس نووي
8- إعلان بريطانيا في 21 مارس/ آذار 2021 أنها سوف ترفع عدد الرؤوس النووية لديها بنسبة 40 %، للوصول لعدد 260 رأساً نووياً بدلاً من 180 رأساً فقط، بسبب ما قالت إنها أخطار من روسيا والصين والجماعات الإرهابية
9- إجراء الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية أول مناورة نووية في يونيو/ حزيران المقبل، ما يؤشر أن الصراع النووي لا يقتصر على حلف الناتو، وأوروبا فقط، بل يمكن أن يمتد إلى شرق وجنوب شرق آسيا.
10 – المطالبة باتفاقيات متعددة الأطراف، وليس اتفاقيات ثنائية، فالولايات المتحدة انسحبت من اتفاقية «منع نشر الصواريخ المتوسطة والقصيرة» «أي إن إف»، حتى تحولها من «اتفاقية ثنائية» مع روسيا فقط إلى «اتفاقية متعددة الأطراف»، لتضم الصين وكوريا الشمالية، الأمر نفسه أعلنه الرئيس بوتين عندما علق اتفاقية «نيوستارت»، عندما قال إن فرنسا وبريطانيا باعتبارهما دولاً نووية وفي حلف الناتو الذي يعادي روسيا، عليهما الانضمام لأي اتفاقية قادمة حول الأسلحة الاستراتيجية
الثابت أن العالم لا يحتاج كل هذه القنابل النووية، القديم منها والحديث، يحتاج فقط إلى التركيز في اكتشاف وسائل أكثر ذكاءً في التعامل مع الزلازل والجوائح والأمراض، وأن تكون كل الدول كتفاً بكتف مع بعضها بعضاً ضد غضب وتقلبات الطبيعة